على امتداد ألف وثلاثمائة متر يمتد الجزء الأكبر المتبقي من سور برلين. هذا الجزء المتبقي من السور الذي قسم مدينة وشعبا خلال فترة الحرب الباردة يقف الآن شاهدا على ما تفعله الحروب بالبشر وكيف يمكن أن يخاطر الإنسان بحياته من أجل فرصة لحياة أفضل أو حتى بضع دقائق من الحرية. ذهبت كما يذهب السياح وأنا أسترجع كل ما قرأت أو سمعت عن تلك الحقبة التاريخية ولم أتوقع أن يستقبلني في النهاية لقطات من حطام المدن السورية ووجوها عربية ملطخه بالدماء، وعلم مصر!


لأننا بلد عظيم؛ سنقتل من يغادرنا

عندما وصلت إلى المنطقة القريبة من مركز مدينة برلين والواقعة على ضفة نهر «اشبري» كنت أتطلع لهذا البناء الذي كان يوما ما يمتد على طول 155 كيلو مترًا ليحيط ببرلين الغربية تمامًا. بدأت الفكرة التي كانت تحمل الاسم الكودي «سور الصين» داخل المعسكر الشيوعي ببرلين الشرقية رغبةً من حكومتها في وقف الهجرة المستمرة للمتعلمين وخصوصا الأطباء إلى المعسكر الرأسمالي ببرلين الغربية. لم يكن هذا السور فقط مجرد فاصل بين نصفي مدينة، كان أيضا بمثابة بوابة بين عالمين. حينها انقسم العالم كله إلى شرقي وغربي. بدأ السور كبناء بدائي غاية في القبح، دون تخطيط هندسي يُذكر، كتل من الطوب والخرسانة والأسلاك الشائكة وأي شيء يمكن أن يتم استخدامه في البناء.

كانت ألمانيا الشرقية دولة فقيرة تحاول أن تبني بناءً ضخما بأقل الإمكانيات. ثم استمر التطور جيلا بعد جيل ومع زيادة الدعم السوفيتي وزيادة التقدم الاقتصادي لألمانيا الشرقية داخل المعسكر الشيوعي، تحول السور بعد أربع مراحل من البناء إلى بناء هندسي محكم تصعب أمامه أي محاولة للهرب.

تحول السور حينها إلى سورين بينهما مساحة تزيد عن المائة ياردة تشغلها أسلاك شائكة وكلاب حراسة وتتوسطها أبراج مراقبة لديها أوامر بإطلاق النار. كان السور على الجانب الشرقي له سبب معلن وهو «منع الأعداء من الهجوم على مدينتنا، ومحاولة عرقلة بناء دولتنا العظيمة» ولذا كان يحمل اسمًا مميزًا جدًا «سور الحماية من الفاشية». أما على أرض الواقع كان السور لمنع المواطنين من الهرب من هذه الدولة وهذا المعسكر. كانت الدولة تحمي مواطنيها من رغبتهم في الحياة على أرض حرة، وكانت وسيلتهم لتلك الحماية سورًا و رصاصة في الظهر إذا حاولت اجتيازه. أما على الجانب الغربي فكان اللون الأبيض اللامع لهذا السور مغريا للرسامين وفناني الجرافيتي، ليصبح السور معرضا فنيا على جانب وأداة للقتل على الجانب الأخر!


ألمانيا على جانب، سوريا على الجانب الآخر

من معرض “حرب على الجدار” على جدران سور برلين

من معرض «حرب على الجدار» على جدران سور برلين/تصوير: حسام فهمي

تستقبلني هذه الجملة المكتوبة باللغة الألمانية وسط إحدى لوحات الجرافيتي المرسومة على الجانب الخارجي للسور في المنطقة المعروفة حاليا باسم «معرض الجانب الشرقي» والتي تعتبر أكبر معرض مفتوح لرسومات الجرافيتي على مستوى العالم، رسومات لفنانين من كل أنحاء الدنيا تجمعوا عقب سقوط السور وسجلوا بألوانهم لحظات الحرية الأولى، لذا فكل الرسومات هنا تحمل أملا في غد أفضل، بلا أسوار وبلا قيود. ألقى نظرة على الجانب الآخر فإذا بي أجد صورة ضخمة لوجه امرأة ذات ملامح عربية ترتدي الحجاب وبجوارها صورة بانورامية لدمار على مرمى البصر وعلى الحائط بجوار السيدة «علم مصر»!

تركت الدراجة التي قطعت بها ما يزيد عن 25 كيلو مترًا وسط شوارع برلين المنظمة للغاية، تجولت في شيء أشبه بالعدو الخفيف بمحاذاة السور المغطى تمامًا بصور الدمار التي ما لبثت أن أدركت أنها قادمة من سوريا، تستوقفني بين الفينة والأخرى صور لأطفال وشباب وشيوخ مصابين من جراء الحرب، وصلت في النهاية لنقطة بداية كل هذا، صورة بانورامية أخرى لميدان مدمر عن آخره تتوسطه لافتة مكتوب عليها «ساحة الحرية» وإلى جوار هذا الحائط لافتة تحمل اسم الفنان والمصور الألماني «كاي فيدين هوفر» وإلى جانبه عنوان مكتوب بحروف كبيرة «حرب على الجدار»، وبين قوسين (معرض فني عن الحرب في سوريا).

إذا فعلى أحد جانبي السور ذكريات ديكتاتورية راحلة وتذكير بأول لحظات الحرية وأمل في مستقبل أفضل، وعلى الجانب الآخر دمار ودماء ووجوه عربية تشتاق لحرية وتبكي على وطن دمره ديكتاتور ويقتسمه حاليا معه متطرفون مسلحون بالجهل واليقين بأنهم مبعوثون من الرب!


ماذا يفعل علم مصر وسط كل هذا!

لقد تعلمت كيف تبدو الحرية ولن تنسى ذلك أبدًا.

من معرض”حرب على الجدار” على جدران سور برلين

من معرض «حرب على الجدار» على جدران سور برلين/ تصوير: حسام فهمي

تنقلت بين حوائط هذا الجانب من السور، شاهدت كافة الصور التي اختارها المصور الألماني لتكون ضمن هذا المعرض، خلف كل صورة حكاية، أسر ماتت عن آخرها، أب فقد أطرافه الأربعة وابنتيه الاثنتين إثر قصف صاروخي باغتهم قبل النوم، والكثير الكثير من الدمار في كل مكان.

استوقفتني صورة لطفلتين، «دعاء» عامين، و«شهد» 5 أعوام، تخبرنا الصورة بحكايتهم، «شهد» تقف بجوار أختها الصغرى ملامحها حزينة وربما خائفة، يبدو أن ركبتها اليمنى مصابة بشكل سيء، على يمينها أختها «دعاء» تبتسم كأي طفلة في السنة الثانية من عمرها، لا يبدو أنها تلقي بالًا للإصابة الظاهرة على قدمها اليسرى. ألقي نظرة على السطور المطبوعة بجانب الصورة لأعلم أن والدهما اسمه حسن ويعمل سائق تاكسي، انتقل مع ابنتيه للعيش بمنزل عمه بعد أن استولى الجيش السوري على منزلهم. وفي أحد الأيام كانت الطفلتان تلعبان بالمياه في حمام المنزل حينما اخترق أحد صواريخ القصف جدران المنزل. حينها هرع الأب إلى المنزل ووجد شهدًا مصابة بشكل خطير، سارع بنقلها باستخدام إحدى الدراجات النارية إلى مستشفى ميداني قريب، في ذلك الحين لم يكن يعرف شيئًا عن مصير دعاء التي وجدها بعد لحظات أحد الجيران ونقلها إلى المستشفى ليتم في النهاية بتر قدمها إثر إصابة بالغة!

من معرض”حرب على الجدار” على جدران سور برلين/تصوير: حسام فهمي

من معرض «حرب على الجدار» على جدران سور برلين/ تصوير: حسام فهمي

عدت مسرعًا إلى الصورة التي شاهدتها في البداية -ولفتت نظري لوجود علم مصر-، ألقيت نظرة فاحصة على الحكاية المرافقة لها فوجدت أنها لسيدة سورية اسمها «ازدهار الساهو» وتبلغ من العمر 31 عامًا. في يوم 14 مايو/أيار من عام 2014 اقتربت طائرتان مقاتلتان من منزلها حينما كانت تقوم بتنظيف المنزل، خرجت فجأة قذيفة صاروخية من إحدى الطائرتين باتجاه المنزل. أصيبت «ازدهار» بشكل بالغ وتم بتر يدها اليسرى –ألقي نظرة أخرى على الصورة وأتساءل كيف لم ألاحظ أن يدها اليسرى كانت مبتورة!- نتيجةً لذلك، كما تعاني حتى الآن من إصابة شديدة بقدمها.

لم تكن «ازدهار» بمفردها، كان برفقتها إحدى قريباتها وكانت في الشهر السادس من الحمل، ولكنها ماتت جراء القصف. لم تنتهِ المأساة بعد، فازدهار نفسها كانت أيضًا في الشهر السابع من الحمل، وبعد عدة محاولات لنقلها من مشفى إلى مشفى تم في النهاية إجهاض مولودها نتيجة النزيف الشديد وهبوط معدلات «الهيموجلوبين» لمستوًى يهدد بوفاة الأم. احتاجت ازدهار خمسة أكياس من الدم حتى تعود دورتها الدموية وعلاماتها الحيوية إلى مستوًى مطمئن، وظلت بعد ذلك في العناية المركزة لمدة أربعة أيام ثم تم نقلها لإجراء عملية جراحية أخرى بالوجه، الذي تضرر أيضا، فضلا عن تضرر وظيفة الإبصار لديها جراء الشظايا التي صاحبت القصف.

كُتب أخيرًا أن ازدهار تعيش الآن برفقة زوجها وأطفالها الثلاثة في مخيم الزعتري – أحد مخيمات اللاجئين السوريين في الأردن – ويتم نقلها باستخدام كرسي متحرك. تتلقى ازدهار مساعدة شهرية قدرها 28 دولارًا فقط من إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة.

دماء وقذائف صاروخية ونساء قتلى وأرواح تُجهض قبل أن تأتي للدنيا. تنتهي الحكاية ولا أعرف لمَ تواجد علم مصر على حائط مخيم لاجئين سوريين في الأردن بجوار وجه هذه المرأة!

كتب المصور والفنان الألماني «كاي فيدين هوفر» في افتتاحية الموقع الخاص بمعرضة «حرب على الجدار» هذه السطور:

العديد من المشاهدين قد يجدون أن هذه الصور مرعبة، ولكن إذا كانت الصور تحاول أن تكون نقطة البداية لتغيير مؤثر، فإنها يجب أن تكون صادمة. لكي توقظنا من حيواتنا الدافئة و المريحة. إنها المفارقة التي تصنعها الحرب حيث أن إصابة شخص واحد قادرة على صنع التأثير الأكبر علينا، هذا الشخص الواحد الذي نستطيع أن نرى وجهه، هذا الشخص الواحد الذي نستطيع حقًا استدعاء اسمه و مصيره. وكلما ازداد عدد الضحايا، كلما قلّ تأثرنا عاطفيًا. بدلًا من زيادة تركيزنا، الأرقام الكبيرة بشكل ما تُخدر الحقيقة. الأرقام مفهوم مجرد ونظري، البشر ليسوا كذلك.