في ذروة الشباب، لفظ أنفاسه الأخيرة. الموسيقي الألماني

شوبرت

الذي أبكى الربيع، عانى طويلاً مع مرض الزهري، بكتيريا تدعى

Treponema pallidum

أرّقته ومزجت موسيقاه بالأسى. تلك الأيام عندما كانت العدوى البكتيرية تعد طرقًا لأبواب الموت تعود مجددًا، تنحدر البشرية نحو فقدان منجز طبي هام والعودة إلى عصر ما قبل المضادات الحيوية .


مشاهد خاطفة عبر الزمن

1. بلاد النوبة 1500 عام قبل الميلاد.

جمع من البشر حول مقبرة الفرعون يتناولون

عصيدة

مقدسة من الشعير تحوي بكتيريا الستربتومايسس التي تنتج عقار التتراسيكلين القاتل للبكتيريا.

2. بحر الشمال في القرن الثامن الميلادي.

قراصنة الفايكنج بوجوه قاسية وأبدان ضخمة يحتسون شرابًا كحوليًا يدعى

الميد

(mead) المصنوع من العسل المخمر وله خواص مضادة للميكروبات.

3. في خطابه لاستلام جائزة نوبل في الطب عام 1945، السير ألكسندر فليمنج، مكتشف البنسيلين.

يطلق نبوءة؛ البكتيريا تقاوم المضادات الحيوية في المعمل لو تعرضت لجرعات غير كافية لقتلها وينتج بكتيريا مقاومة للبنسيلين، وسوف يحدث ذلك داخل الجسم عندما يتاح بيعه ويتناوله المرضى دون حساب.

4. المستقبل.

«وجوه مغطاة بأقنعة واقية، شوارع تفوح منها رائحة المطهرات، لافتة على الرصيف تحذرك من قائمة من الأمراض المعدية. الرحلات متاحة فقط لمن يجتاز قائمة طويلة من الفحوصات الطبية، الأوبئة تجتاح العالم، المشهد الضبابي محاط بالرعب والموت».


كوكب من البكتيريا

لو أرادت مخلوقات فضائية فضولية استكشاف كوكب الأرض وآثرت فحصه في المستوى الميكروسكوبي، سوف تميزه بوفرة البكتيريا.

البكتيريا تحيا هنا منذ ملايين السنوات، تنتشر في الماء والتربة والهواء وتحيط بالجلد والأمعاء، فنحن طبقًا

للعدد

نعدّ بكتيريا أكثر من كوننا بشرًا، لا زلنا لم نُحصِ كافة أنواع وأشكال البكتيريا حتى الآن.

أنظر إليها تتسلل عبر قفازات الجَرَّاح وتنفذ خلال القطع الجلدي نحو اللحم حيث تجد الدفء والغذاء لتنقسم وتسبب عدوى ما بعد الجراحة.

لو أردت تناول طبق طعام يحوي البيض والسكر فإن بكتيريا السالمونيلا التي تتغذى على السكر سوف تصيبك بالإسهال الحاد.

المزارع الذي لا يراها وهي تحيل محصوله هزيلاً عند الحصاد.

ليست كل البكتيريا مُمْرِضَة، في الواقع معظم البكتيريا في عالمنا غير ضارة ولا تأبه بنا وبعضها تتعايش في أجسادنا وتساعدنا في عمليات الهضم والأيض.


المضاد الحيوي

طبق

الأغار

الغني بالمغذيات حفز البكتيريا للنمو، لكن الفطريات في الجوار أبَت إلا أن تعترضها، فأفرزت البنسيلين وظهرت بقع خالية من البكتيريا على المزرعة البكتيرية. لاحظ

فليمنج

وكشف عن البنسيلين أولى المضادات الحيوية، هذا المصطلح الذي صاغه

واكسمان

(مكتشف مضاد التسربتومايسين (يعني ضد الحياة، فهو يمنع البكتيريا من بناء ما يلزمها للانقسام والنمو؛ مثل بناء البروتين، تصنيع الحمض النووي وبناءالجدار الخلوي، وفي نفس الوقت لا يؤثر على الخلية البشرية، كما في البنسيلين الذي يمنع البكتيريا موجبة الصبغة من بناء الجدار الخلوي للخلايا الجديدة فتتوقف عن النمو.


صراع من أجل البقاء

لم يكن المضاد الحيوي بالتحدي الجديد على البكتيريا، لا تظن أن تلك البدائيات التي تنقسم كل بضعة ساعات سوف تقبع ساكنة. البكتيريا متمرسة على الحرب فهي والميكروبات الأخرى في صراع دائم. تفرز البكتيريا سمومًا تهاجم بها غشاء الخلايا التي تهاجمها أو تدخل في بناء بروتين الخلية وهو نفس سلاح المضادات الحيوية.

المقاومة البكتيرية يمكن أن تكون متجذرة في المحتوى الجيني للبكتيريا. تجد أن البكتيريا اللاهوائية تقاوم مضادات الأمينوجليكوزيدات؛ لأنها لا تحوي نظام النقل الكتروني الضروري لامتصاصها، كذلك مضادات البيتالاكتام تكره الماء فلا تستطيع عبور الغشاء الخلوي للبكتيريا السالبة الغرام.

كذلك يمكن للبكتيريا أن تكتسب الجينات المقاومة بعد تعرضها للمضادات الحيوية. يحاول جزيء البنسيلين تكسير جدار البكتيريا الموجبة ولكنها تسبقه وترسل إليه إنزيم البنسيلينيز الذي يكسره ويحيله الى التقاعد. لمواجهة مضادات الماكروليد تحدث البكتيريا طفرة في الحمض النووي تمنع الريبوسوم الوظيفي فلا يستطيع الماكروليد التدخل في بناء البروتين.

اكتساب البكتيريا جينات المقاومة يمكن أن يحدث عن طريق:

1. طفرة جينية.

2. أن تدمج البكتيريا في مادتها الوراثية جينات مقاومة من بكتيريا أخرى مقاومة.

3. أن تقترن ببكتيريا أخرى مقاومة عن طريق أجزاء قابلة للانتقال من الحمض النووي تسمى النواقل أو الجينات القافزة مثل

Transposon

التي تحمل رموز الأنزيمات التي تكسر المضاد الحيوي.


بكتيريا فائقة تتوحش

مشفى أوسلو في غرفة العزل الصحي، الفريق الطبي مصاب بالحيرة.

ليل كارين

تبلغ ستة وستين عامًا، كانت قد أجرت جراحة في القدم المكسورة بعد حادث سيارة وقع في الهند، منذ عودتها إلى النرويج تم عزلها في المشفى. تنشط في بول كارين بكتيريا تدعى

Klebsiella pneumoniae

تحمل جينات مقاومة لغالبية المضادات الحيوية. في الهند لم تستطع كارين أن تغير ملابسها أو أن تغتسل، أجرت الجراحة في غرفة خاصة وأثناء الجراحة حدثت العدوى عن طريق قسطرة بول ملوثة بالبكتيريا المقاومة، هكذا عبرت البكتيريا مع كارين إلى النرويج. أخيرًا بعد تجربة المضادات الحيوية (البنسيلين والسيفالوسبورين والكينولون والجنتاميسين) دون فائدة استطاع الأطباء القضاء على البكتيريا عن طريق دواء اللنزوليد، هو الوحيد الذي استطاع هزيمتها.

البكتيريا في تطور مستمر منذ ملايين السنين. الإفراط في استخدامنا للمضادات الحيوية يسارع من الضغط عليها لإحداث طفرات انتقائية نحو السلالات المقاومة.

بعد كل جرعة تتناولها من المضاد الحيوي تظل نسبة ضئيلة من البكتيريا مقاومة للمضاد الحيوي، تختلف النسبة باختلاف الجرعة وقوة المضاد الحيوي ونوع البكتيريا.

الدراسات

توضح أنه كلما تكرر العلاج بنفس المضاد الحيوي كلما ارتفعت نسبة البكتيريا المقاومة له.

طبقًا لـ

WHO

الميكروب الذي لا يستجيب لكورس كامل من المضاد الحيوي يكون مقاومًا لهذا الدواء؛ لذلك يمكن بسهولة تخيل أن البكتيريا المقاومة سوف تَغْلُب في بيئة تنتشر فيها المضادات الحيوية، بدليل أن البكتيريا المقاومة لعدد كبير من المضادات الحيوية تنتشر في المستشفيات. تختلف حدة الإصابة بين المرضى على حسب الجرعة من البكتيريا ومناعة الشخص المصاب والبيئة المحيطة، في حالة نقص المناعة تزداد حدة ومرات الإصابة.

يطلق على البكتيريا المقاومة لخط الدفاع الأخير من المضادات الحيوية اسم البكتيريا الفائقة (super (bacteria، كما في حالة بكتيريا الـ E-coli التي تقاوم مضاد carbapenem، وكذلك بكتيريا تدعى

Enterococcus faecalis

تقاوم مضاد vancomycin

.

أن تقاوم المضاد الحيوي شيء وأن تعتمد عليه فهو شيء آخر. في مشفى شيفيلد في بريطانيا عام 1987 عثر على بكتيريا مقاومة من نوع

Neisseria

pharyngis لا تنمو سوى في وجود نوعين من المضادات الحيوية في البيئة المحيطة.

عملية الانتقال الجيني يمكن أن تكسب المقاومة لأكثر من نوع من المضادات الحيوية، فبكتيريا تدعى Salmonella enterica تحتوي على Transposon في حمضها النووي يحمل خمسة جينات مقاومة لخمسة مضادات حيوية مختلفة كل منها يعمل بطريقة مختلفة.


الرقص على حافة كبسولة

الصراع هنا مثل الركض فوق حبل رفيع. هل بجب أن نتوقف عن استخدام المضادات الحيوية سوى عند الحالات الخطرة ونحافظ عليها من النضوب، أو أن نفرط في استخدامها لأنها تشعرنا بالراحة سريعًا؟

الحرب بين البكتيريا والمضادات الحيوية أضحت حربًا بين الكيميائيين والكائنات الدقيقة. الكيميائيون يحاولون تغيير التركيب الكيميائي للمضادات الحيوية للحفاظ على قوتها ضد البكتيريا التي ما تلبث أن تتحول إلى بكتيريا مقاومة بعد استخدامه. بكتيريا الهليكوباكتر التي تنمو في المعدة وتسبب القرح تكتسب مقاومة ضد الأريثرومايسين، فقط تحتاج خلية واحدة مقاومة لتعيد النمو والانقسام مجددًا في وسط يساعدها على النمو. تناول المضادات الحيوية له أثر طويل المفعول على بكتيريا الأمعاء، فهو يغير تركيبة الأنواع المختلفة لفترة بعد التوقف عن العلاج.


الخطورة

لو صدقنا الإعلان التجاري أن منظفًا منزليًا ما يقتل 99% من البكتيريا في حوض الغسيل، وحيث أن هناك عشرة آلاف بكتيريا في البوصة المربعة سوف تتمكن مائة بكتيريا من النجاة وتعاود الانقسام والعودة بالأعداد إلى ما قبل استخدام المنظف خلال ساعات، وسوف تزداد مقاومتها بعد كل استخدام.

في السنوات الماضية كانت المضادات الحيوية سببًا ضمن مجموعة أسباب لتفوقنا المؤقت، الآن باتت تتجه نحو النضوب كالبترول. أمراض مثل الملاريا والدرن والسيلان أصبحنا نجد صعوبة في علاجها.

  • تزيد مقاومة البكتيريا من خطورة العدوى وتتسبب في زيادة الوفيات وإطالة زمن المرض وزيادة حدة المضاعفات، سوف تزداد معاناة مرضى المناعة وكبار السن ويصعب إجراء العمليات مثل زراعة الأعضاء والجراحات. بكتيريا مقاومة مثل البكتيريا التي تسبب أمراض الرئة سببت زيادة الوفيات إلى 1.8 مليون طفل سنويًا.
  • تزداد التكلفة الاقتصادية على نظام الرعاية الصحية نتيجة مقاومة البكتيريا، وسوف توضع مزيد من القيود على السفر وتسبب تناقص الغذاء نتيجة إصابة المواشي والطيور.

المواجهة

  • عند الحديث عن سبل الحفاظ على استمرار فاعلية المضادات الحيوية سوف يكون الخيار هو تقنين استخدامها، وأن تُصرَف بعقلانية في حالات الخطورة فقط وتحت إشراف طبي كامل، ويجب تناول الجرعة كاملة حتى لو شعر المريض بتحسن حالته دون زيادة أو نقصان؛ وبالتالي تلقائيًا سوف تقل نسبة البكتيريا المقاومة في العالم، لكننا في الواقع نفعل العكس. أثبتت

    الدراسة

    عام 2013 الإفراط في وصف المضادات، فهناك 60% من المرضى المصابين بالتهاب الحلق توصف لهم مضادات حيوية بينما 10% فقط وجد أنهم يحتاجونها بالفعل. ينبغي علينا أيضًا التوقف عن استخدامها لعلاج العدوى الفيروسية.

ينبغي التوقف عن استخدام المضاد الحيوي لدفع النمو في الماشية حيث أنها سوف تنتقل إلى الإنسان والبيئة عن طريق العمال واللحوم والروث في الأسمدة. من أشهر الأمثلة مضاد حيوي يدعى كوليستين، في مزارع الماشية في الصين وجدت بكتيريا E-coli مقاومة له ويمكنها نقل جين المقاومة لأنواع البكتيريا الاخرى.

  • الاهتمام بدفع البحث العلمي نحو مضادات حيوية جديدة وتحفيز الشركات ماديًا، حيث أنها تفضل الاستثمار في أدوية الامراض المزمنة لأنها مربحة، والاهتمام بالوقاية ومنع العدوى بزيادة الوعي الصحي، والاهتمام بالتشخيص الجيد والحث على النظافة والاهتمام بالأمصال، كذلك زيادة معامل الأبحاث المتخصصة في كشف ورصد البكتيريا المقاومة.
  • تشجيع ابتكار أبحاث جديدة مثل مضادات حيوية متخصصة واستخدام تكنولوجيات واعدة مثل تقنية الصياغة الجينية، حيث يتم فيها قص جينات محددة من الخلية أو البكتيريا وأيضًا Phage therapy حيث يتم حقن جينوم فيروس داخل البكتيريا وتدميرها.

يقول

غودار

«القصة لها بداية ووسط ونهاية لكن ليس شرطًا أن يأتوا في نفس الترتيب».مع تصاعد التهديد يقف الإنسان مرتبكًا وبغطرسة يعتمد على العلم لإنقاذه، يصر على ارتكاب الحماقات، يتحرك ببطء على مضمار السباق في حين أن البكتيريا تركض بلا اكتراث متحدية وهي تداعب لحية دارون البيضاء.


المراجع



  1. Bacteria: The Benign, the Bad, and the Beautiful, Trudy M. Wassenaar
  2. Antibiotic Resistant Bacteria – A Continuous Challenge in the New Millennium, Edited by Marina Pana
  3. Bacterial Resistance to Antimicrobials, Second Edition, Richard G. Wax

  4. Analysis: Antibiotic apocalypse

  5. The Overuse of Antibiotics in Food Animals Threatens Public Health

  6. The Overuse of Antibiotics in Food Animals Threatens Public Health

  7. The European Antibiotic Awareness Day-Patient stories-Lill-Karin

  8. Origins and Evolution of Antibiotic Resistance