انتهى الخطر الذي ضبط بوصلة الصراع في سوريا والعراق، بعد إعلان القضاء عليه في العراق، وقرب انتهائه في سوريا. ثم ما لبثت الخلافات الحقيقية أن برزت بين من اصطفوا لقتال تنظيم الدولة. روسيا تعلن انتشاءها بتحقيق النصر على التنظيم في سوريا، وتبدأ في تثبيت وجودها العسكري هناك، فتباغتها طائرات بدون طيار، تمطر قواعدها في طرطوس وحميميم. وبعدها بأيام تعلن الولايات المتحدة عن نيتها تشكيل جيشٍ يقوده الأكراد، يضع ما أنجزته موسكو وحلفاءها في مهب الريح، إيذانًا بتولد صراعٍ جديد على الأرض العربية السورية.


طائرات السماء ترعب قواعد الأرض

مهمة قتال العصابات المسلحة هنا في سوريا كان من الضروري إنجازها، وتم إنجازها بشكل كبير وبطريقة مذهلة.

بهذه الكلمة أعلن الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، في 11 ديسمبر/كانون الأول 2017،

نجاح مهمة القوات

الروسية في سوريا، وهي القضاء على داعش. وأمر ببدء سحب قواته باستثناء القوات المرابطة في قاعدة حميميم الجوية، وطرطوس البحرية. وظن بوتين أنه بالخلاص من داعش يمكنه فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة، ويبدأ مرحلة جديدة من التفاوض السياسي على مناطق النفوذ والسيطرة.

لكن الروس استيقظوا صباح الـحادي والثلاثين من ديسمبر/كانون الأول، بعد أيام من إعلان بوتين انتصاره العسكري في سوريا، على قصف بقذائف الهاون،

استهدف قاعدته الجوية

في حميميم. قالت صحيفة «كوميرسانت» إنه دمر 4 قاذفات طراز سوخوي-24 ومقاتلتين من طراز سوخوي-35 إس، وطائرة نقل من طراز إن-72، ومستودع ذخيرة، بجانب إصابة ومقتل عشرات العسكريين الروس. نفت وزارة الدفاع الروسية حصيلة الضحايا، وأكدت صحة الهجوم، زاعمةً مقتل اثنين فقط، دون ذكر أية خسائر أخرى، زاعمة أن مقاتلين تابعين لتنظيم القاعدة هم من نفذوا الهجوم.

ولم تكد روسيا تفيق من هذا الهجوم المفاجئ لتحتفل بأول يوم في العام الجديد على وقع قنابل ألقتها طائرات بدون طيار «درون» مجهولة على القاعدة نفسها. أسفر الهجوم عن إصابة طائرات روسية بقنابل صغيرة، وبينما تبحث عمن يقف وراء الهجوم فوجئت يوم السادس من يناير/كانون الثاني الجاري

بهجوم منظم شنته

13 طائرة بدون طيار تحمل قنابل على قاعدتي طرطوس وحميميم في التوقيت عينه. قالت روسيا إنها نجحت هذه المرة في إسقاطها، بدون أي خسائر مادية أو بشرية.

ثلاث عمليات متزامنة ومنظمة ضد أكثر الأماكن الروسية تحصينًا، لا تقف وراءه جماعة مسلحة، وهو ما أعلنه «بوتين» ليقول إن روسيا تعرف «المحرض» على الهجوم، وينفي التهمة عن شركائه، ويؤكد أن الهجوم استهدف ضرب العلاقات بين بلاده وتركيا، وسط

اتهامات من وزارة الدفاع

الروسية لواشنطن بالضلوع في الهجمات المنظمة، حيث أكدت قيام طائرة تجسس أمريكية من طراز «بوسيدون» بالتحليق فوق البحر المتوسط وعمل دوريات بين طرطوس وحميميم، بالتزامن مع الهجوم.

تدرك واشنطن أن موسكو ستعرف من يقف وراء الهجوم، وهي تريدها أن تعرف، لتقول لروسيا إنه لا تثبيت للأقدام دون التوصل لاتفاق، وهو ما تحاول روسيا عمله بالشراكة مع تركيا وإيران إلى جانب النظام السوري.

وتُظهر خريطة سوريا بنهاية العام 2017

تفوق النظام بدعم روسي

ليسيطر على حوالي 53.4% من الأراضي، بينما تسيطر جماعات المعارضة على 13.2%، تتركز في إدلب وبعض المناطق المحاذية لتركيا. أما داعش فخسر معظم أراضيه ليحتفظ فقط بـ 7.1% من الأراضي، توجد في نقاط متفرقة بالميادين والبوكمال. أما قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، المدعومة من الولايات المتحدة، فتسيطر على 26.3% من الأراضي وتشمل الحسكة ودير الزور والرقة، ومناطق متفرقة، كـعفرين ومنبج بالقرب من تركيا.

ويوضح هذا التوزيع أن النظام يستعيد تدريجيًا باقي المناطق؛ فالمعارضة تحتضر، ومسألة قضم الأراضي منها بات مجرد وقت، وداعش لم يعد أمامه ملجأ سوى العمليات الإرهابية والتفجيرات المتفرقة التي لا تكسبه أرضًا بقدر ما تنال من عدوه. وبالتالي فليس أمام النظام سوى «قسد» المدعومة من واشنطن، التي تسيطر على ربع أراضي سوريا تقريبًا وتريد وصله بالعراق، وهو ما أدركته واشنطن حيث أرادت نقل ساحة المواجهة إلى معاقل النظام وروسيا، لتمنعه من التقدم تجاه وكلائها الأكراد.


أمريكا تستعد بجيش بديل

كانت هجمات الطائرات من دون طيار مجرد رسالة إلى روسيا وشركائها الثلاثة، تنذرهم بإعلان واشنطن منتصف الشهر الجاري تشكيل جيش من 30 ألف مقاتل، مدعومًا من «التحالف الدولي ضد داعش»، بقيادة قوات سوريا الديمقراطية. سيتم نشره على الحدود السورية العراقية والسورية التركية، لمحاربة داعش الذي بات أصلًا في عداد الموتى.

ويأتي هذا التحرك الأمريكي لوقف تمدد النظام تجاه مناطق الأكراد، التي تريد فرضها كأمر واقع لتقسيم سوريا، من أجل مناوءة الوجود الروسي في الشرق الأوسط، الذي نجح في قلب الأمور لصالحه وبتدخل عسكري محدود حقق أهدافًا جمّة، مقارنة بتدخلات واشنطن الفاشلة في الشرق الأوسط، التي كلفتها حوالي 7 تريليونات دولار، وفق تصريح الرئيس دونالد ترامب، بخلاف روسيا التي لم تزد تكلفتها على بضعة مليارات من الدولارات في سوريا.


سرعان ما خرج الحليفان موسكو وأنقرة

ليحذرا من هذه الخطوة

. فقد اعتبر وزير الخارجية الروسي «سيرجي لافروف» أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تقسيم البلاد، حيث سيتم عزل منطقة واسعة على طول حدود تركيا مع العراق وشرقي نهر الفرات، وهو ما تريده واشنطن لمنع روسيا من تثبيت أقدامها كما فعلت في جزيرة القرم وتهدد الآن أوكرانيا وباقي دول شرق أوروبا المتعاونة مع الغرب. أما تركيا فخرجت مهددة ومتوعدة هذه القوات وداعميها، حتى أعلن المتحدث باسم الحكومة التركية «إبراهيم كالن» أن الولايات المتحدة بتأسيسها جيشًا إرهابيًا إنما «تلعب بالنار».

كذلك هدد الرئيس التركي «رجب أردوغان» بالقضاء على هذا الجيش المدعوم من واشنطن، بما يعني الدخول في صدام مباشر معها، ومن ورائه روسيا. وينضم إليهم في هذا الأمر، بخلاف النظام السوري، قوات المعارضة لاسيما الجيش السوري الحر الموالي لتركيا، التي اعتبرت حشد الولايات المتحدة لجيش جديد شمالي سوريا إنما

سيؤدي لتقسيمها

واندلاع حرب طويلة الأمد في المنطقة تهدد أمن تركيا القومي.


تركيا ترد في عفرين

خريطة تفصيلية لمناطق السيطرة في الشمال السوري

ردًا على الخطوة الأمريكية، بدأت القوات التركية قصف منطقة «عفرين» الخاضعة لسيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية، المرتبطة بقوات سوريا الديمقراطية «قسد» وحزب العمال الكردستاني في تركيا. فسبق أن حررت في عملية «درع الفرات» الشريط المحاذي لها من داعش والجماعات الكردية، خلال الفترة من أغسطس/آب 2016، إلى مارس/آذار 2017، وشملت مناطق حيوية، منها دابق وجرابلس وإعزاز والباب.

اقرأ أيضًا:

درع الفرات: قراءة شاملة من جرابلس إلى الباب

ومنتصف الشهر الجاري أعلن «أردوغان» أن بلاده

ستواصل عملية «درع الفرات»

، وستدخل مدينة عفرين، لتطهير حدود بلاده الجنوبية ممن وصفهم بالإرهابيين، ويقصد بذلك الأكراد. وهذه المنطقة بجانب مدينة «منبج» كان عليها فيتو أمريكي وتفاهم روسي بمنع تركيا من دخولها خلال عملية «درع الفرات»، أما الآن فيبدو أن تركيا لن تتراجع عن هذه الخطوة ردًا على إنشاء واشنطن جيشًا كرديًا شمالي سوريا.

ومن المقرر أن تشارك قوات المعارضة في السيطرة على «عفرين» كما شاركت من قبل في «درع الفرات»، وهو ما أكده أردوغان أمام البرلمان التركي في رسالة تفيد بأنه سيأخذ الإذن من البرلمان لدخول هذه المنطقة أيًا ما كانت النتائج. وإذا استطاعت أنقرة الاستحواذ على عفرين فستدخل منبج، وهو ما تخشاه واشنطن. وقد تؤجل تركيا دخول هذه المدينة إن تراجعت واشنطن عن فكرة تشكيل الجيش الجديد بقيادة الأكراد ونشره على حدود تركيا، إلا أنه في كلا الحالتين يبدو أن هناك إصرارًا تركيًا على دحر الأكراد نهائيًا من المدينتين،

ولن يمنعها أحد

كما قال الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان».


روسيا وتركيا في مركب واحد

خريطة تفصيلية لمناطق السيطرة في الشمال السوري

خريطة تفصيلية لمناطق السيطرة في الشمال السوري

يُظهر الرد الروسي التركي الموحد تجاه إعلان واشنطن تشكيل جيش شمالي سوريا مدعومًا من التحالف الدولي أن المواجهة في سوريا انطلقت إلى طور جديد. فداعش الذي وحّد الأعداء قد زال خطره. وبعد أن انتهى بدأ الصراع الحقيقي يظهر، وباصطدامٍ مباشر بين الجميع. وتدرك أنقرة وموسكو أن هذه الخطوة تستهدفها بالأساس، وتُعنى بإفشال ما حققاه طيلة الفترة السابقة.

فتركيا بضوء روسي طهرت معظم حدودها مع سوريا من الأكراد، مقابل تقليل دعمها للمعارضة، خاصة في حلب. وروسيا حققت ما يُعرف بسوريا المفيدة، واستعاد النظام بدعمها السيطرة على معظم المناطق، ولاحقًا ستترك له تركيا المناطق الحدودية لإدارتها بالتفاهم مع روسيا وإيران كما جرى في مؤتمر «آستانة».

لهذا ستأخذ المرحلة المقبلة في سوريا نوعًا جديدًا من الصراع، قد ينتقل إلى الاستهداف المباشر بين الدول المتصارعة، فتورط واشنطن في قصف قواعد روسيا لن يمرره القيصر الروسي مرور الكرام، وسيرد عليه هذه المرة بعنف. وذلك بدعم تركيا لدخول عفرين ومنبج وسحق القوات الكردية، وأنقرة لن تفوت هذه الفرصة لتعزيز تحالفها مع روسيا بجانب إيران، للتصدي لذراع واشنطن العسكرية الجديدة.