لقرون حاول البشر استكشاف الكواكب الأخرى سواء عن بعد أو بإرسال كتل من التكنولوجيا الفائقة واحدة تلو الأخرى إلى أعتابها، إلا أنهم دائمًا ما احتفظوا للمريخ بمكانة خاصة. ذاك الكوكب الأحمر الذي سيطر على عقلنا ومخيلتنا كبشر في آن لم يتوارى عن الأنظار مع تطور البشرية ودخولها عصر العقل بل تردد صدى اللغز من الميثولوجيا إلى العلم دون أن يخبو وهجه أو يطاله الملل، وبطبيعة الحال كان هو المرشح الأول لاحتضان أول مستعمرات البشرية في الفضاء الخارجي بعيدًا عن الأرض ومدارها كونه الأقرب لنا والأكثر شبهًا والأقل عدائية.

على الرغم من مراقبتنا الطويلة له طوال قرون يستمر المريخ في الكشف عن أسرار جديدة قد يعد أحدثها هو الأكثر إثارة على الإطلاق من الناحية العملية.

في الفضاء لا يستغرب أحد وجود الثلوج. تستطيع درجات الحرارة المنخفضة للغاية والضغوط الهائلة تجميد مختلف الغازات إلى ثلوج. لا تمثل الثلوج صيدًا ثمينًا بحد ذاتها إلا عندما يتعلق الأمر بمادة واحدة ينطلقون في إثرها وينقبون عن مواضعها أينما كانت؛ الثلج المصنوع من الماء.


الماء متوارٍ عن الأنظار


عندما حامت Mariner 9 حول المريخ

وأرسلت لنا صور سطحه، كانت النتائج أخبارًا رائعة. ربما لم تكن مفاجأة إلى حد كبير حيث كان الاعتقاد باحتمالية وجود ماء على المريخ أمرًا شائعًا جدًا بالنظر للتشابهات بين ماضي المريخ وحاضر الأرض. إلا أن الأمر يختلف تمامًا عندما تمتلك صورًا تحمل دليلاً قاطعًا بوجودآثار هذه المياه، الأمر المثير سواء كان حاضرًا أم ذكرى ماضية من تاريخ الكوكب القديم. كانت الصور التي أرسلتها مارينر تحمل أشكال أثر جريان ماء من وديان ومجار نهرية تثبت وجود مياه في مرحلة ما من تاريخ الكوكب اليائس.

كانت هناك علامات على احتمالية وجود مياه جارية قرب السطح، إلا أن صور مارينر ومن بعدها فايكنج Viking Lander لم تتمكن من إثباتها. أخذت الأبحاث والنتائج في التراكم من وقتها إلى اليوم. في خلال التسعينات وجدت عدة آثار لمعادن مائية Hydrated minerals؛ وهي معادن تتكون من كريستالات يدخل الماء في تكوينها مما يدل على وجود ماء في مكان ما على الكوكب من زمن بعيد. كانت المياه في تاريخ المريخ قد أصبحت حقيقة مؤكدة. لقد مر المريخ بوقت كان فيه كوكبًا مائيًا ودافئًا، ربما مائيًا ودافئًا بما يكفي لظهور الحياة البدائية على سطحه أو في أعماقه.

بسبب ضعف جاذبيته، تبخرت مياه المريخ بمعدل أسرع من تكثفها وعودتها إلى مسطحاته، لتخلف لنا في النهاية كوكبًا جافًا وعدائيًا. مع هذا فإنه لحسن الحظ كان قد تم ردم كميات هائلة من الرواسب الثلجية ثم دفنها تحت طبقات من التراب والصخور. هذا ما تأكد بشكل تام في عام 2008 عندما قام مسبار فينيكس Phoenix lander بالحفر في تربة المريخ واستخراج عينات وتحليلها. استخرجت فينيكس عينة لامعة اختفت بعد وقت قصير مما جعل الشك في كونها ماءً متجمدًا يبدو معقولاً. قامت فينيكس بإجراء تحليل لبخار الماء ليثبت بالفعل أن العينة كانت ثلج ماء.

بالرغم من كون اكتشاف هذه المستودعات الثلجية إنجازًا واضحًا ومؤثرًا، إلا أن الأمر لم يكن يحمل الكثير من الإمكانات بالنسبة لنا كبشر. تمركزت الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي للكوكب الأحمر جاعلة من أي محاولة لاستغلالها لصالح رواد فضاء أو مستعمرات بشرية أمرًا غير محتمل. في الوقت ذاته بقي الأمل متجددًا. كانت مهمة أوديسي Odyssey قد أشارت لوجود محتمل للمياه قرب السطح، إلا أنها لم تتمكن من إثبات ذلك مما يعني انتظار التطور التكنولوجي القادم.


صفحة جديدة

مع الدراسات المكثفة للمعلومات التي يجلبها مسبار ريكونيسانس من المريخ، استطاع العلماء في أواخر عام 2016 التأكد من وجود –على الأقل- مياه مترسبة على هيئة ثلج قرب سطح المريخ، لكن هذا كان جل ما استطاع العلماء التوصل إليه. هذا بالطبع قبل أن تنشر

الدراسة الجديدة

في دورية Science.


استطاع كولين دانداس وفريقه

تحديد ثمانية أماكن

تظهر فيها المياه بوضوح من بين منحدرات الصخور التي تآكلت بفعل عوامل التعرية. أثبتت دراسة دانداس أن المياه –التي ثبت أنها نقية- مدفونة على عمق 3:6 أقدام من سطح المريخ وهو عمق سطحي ومناسب جدًا للاستخدام. لا تقف الأخبار الحلوة السعيدة هنا. وجد فريق العلماء أن المياه لا تنحصر فقط في المناطق القطبية أو شديدة الارتفاع بل أنها مخزنة تحت المناطق القريبة من الاستواء كذلك، وهو الأمر الذي يمنح مهمات البشر إلى هناك ثقة إضافية.

لالتقاط مثل هذه الصور التي تمكننا من القيام بتحليل بهذه الدقة لمكونات طبقات المريخ، يستعين مسبار ريكونيسانس بكاميرا HiRISE عالية الدقة. تلك الصور التي لا تعطي أملاً فقط في استخدام المياه المكتشفة يومًا ما بل تقدم لنا قطعًا طوليًا من تاريخ الكوكب الغامض. انتشرت أماكن وجود هذه البروزات المائية بين الصخور في كلا نصفي الكرة المريخية الشمالي والجنوبي واتضح بالتحليل أنها تكمن تحت ثلث سطح الكوكب. المزيد من التأكيدات على امتلاك المريخ لتاريخ من المحيطات والأنهار.

هكذا يصبح لدينا المعلومات –عوضًا عن الانطباعات سابقًا- التي تجعلنا واثقين من امتلاك المريخ لكميات من مياه متجمدة وسائلة ومتبخرة –تبعًا للموسم والمسافة من الشمس -ليس بالقليلة. هل يكون مخزون المريخ هو الحل السحري لمشكلة المستعمرات المستدامة على المريخ؟ هل عرف المريخ الحياة عندما كان كوكبًا أزرق يشبه الأرض قبل أن تستحوذ عليه الحمرة الميتة؟ يبدو أن لدينا الكثير من أعمال الحفر -الأسهل مما كنا نعتقد- لاكتشاف ذلك.