كانت ليلة حالكة السواد، تلك التي تسللت فيها ميلدريد هايز إلى المبنى المُقابل لمقر شرطة المقاطعة. بهدوءٍ شديد، وملامح جامدة، تُلقي ميلدريد نظرةً على المبنى الذي يذكرها بكل ما تبغض؛ جريمة مقتل ابنتها البشعة، والتقصير الأمني من وجهة نظرها في ملاحقة الجاني، والمضايقات التي واجهتها ورفاقها في مواجهتها مع الضباط الملتزمين بالبيروقراطية العقيمة. وفي مشهدٍ رائع، تُضاء ظلمة الغرفة ووجه ميلدريد الغاضب بوهج النيران الصفراء المنبعثة من فتيل سلاحها الذي اختارته للمواجهة؛ قنبلة مولوتوف.

لسهولة صنعها، وبساطة تصميمها، وقلة تكلفتها، وجدت قنبلة المولوتوف طريقها إلى يد الطرف الأضعف في كل معركة غير متكافئة، وبالأخص في الانتفاضات الشعبية ضد القوات النظامية. فما هي قصة المولوتوف، السلاح الرسمي للثوار؟


كوكتيل فنلندي مع الغداء

تختلف الروايات التاريخية في تحديد منشأ القنابل البدائية بشكلها الذي نعرفه اليوم. تصِف

بعض الروايات

قنابل زجاجية مزودة بفتيلٍ من القماش في أيدي نسوة مؤيدات لكومونة باريس، الحكومة الاشتراكية الثورية التي رفضت سلطة الحكومة الفرنسية، وانتهى المطاف بقمعها بعد أقل من شهرين. وفقًا للشائعات المنتشرة حينها، أشعلت النسوة أحياء باريس بزجاجات البنزين احتجاجًا على دخول الجيش الوطني باريس وإنهاء حكم الكومونة.

تلى ذلك ظهورٌ لعددٍ من القنابل اليدوية الحارقة السابقة على قنابل المولوتوف بشكلها الحالي، استخدمها الجيش الجمهوري الأيرلندي في العشرينيات، كما استُخدمِت بكثافة في الحرب الأهلية الإسبانية من جانب القوات الوطنية بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو ضد قوات الجمهوريين.

لكن القنبلة البدائية الحارقة اكتسبت اسمها الحالي في أواخر عام 1939 وعام 1940، في خضم حربٍ قصيرة عُرِفت لاحقًا باسم «

حرب الشتاء

» بين الاتحاد السوفييتي وفنلندا، على خلفية مطامع سوفييتية في ضم عددٍ من الجُزُر الفنلندية وإنشاء قاعدة بحرية على أراضيها. في تلك الحرب، تعرض الفنلنديون لقصفٍ جوي شرس من السوفييت، أثار غضبة المجتمع الدولي. وقد أنكر وزير الخارجية السوفييتي حينها، فياتشيسلاف ميخائيلوفيتش

مولوتوف

، أن الطائرات السوفييتية تقصف هيلسينكي، العاصمة الفنلندية، بالقنابل العنقودية، وزعم أن الهدف من تحليقها فوق رؤوس الفنلنديين هو إلقاء المُساعدات الغذائية على جيرانهم الذين يتضورون جوعًا.

ساخرين من تصريحات مولوتوف، والتي تعني في اللسان الروسي «المطرقة»، سمى جنود الجيش الفنلندي قنابل السوفييت بـ«سِلال خبز مولوتوف». ولكي تتماشى مع الخبز العنقودي الشهي، قدم الفنلنديون لقوات السوفييت البرية «كوكتيلات مولوتوف». وهُناك رواية أخرى أقل انتشاراً، تُرجِع ربط اسم مولوتوف بالقنبلة إلى تصريحاته في اليوم الأول من بداية الحرب، إذ عبر عن ثقته في أنه سيتناول الغداء في هيلسينكي غدًا. ومن ثمَّ كان كرم الضيافة يحتم على فنلندا أن تقدم لمولوتوف كوكتيلًا يُسهل عليه هضم غدائه.

بين ديسمبر/ كانون الأول ومارس/ آذار، صنع الجيش الفنلندي، في وِرش مكتظة بعمالة أغلبها من النساء، أكثر من

نصف مليون قنبلة

مولوتوف استخدمها الجيش الفنلندي الأقل عددًا وعتادًا في مواجهة الجنود السوفييت ودباباتهم. وقد أثبت السلاح البدائي فعاليته ضد دبابات السوفييت وقتها، إذ استخدمته قوات الجيش في استهداف مؤخرة الدبابة وإشعال محركها، مما يعطلها عن العمل.

انتهت الحرب الفنلندية باتفاقية سلامٍ بشروطٍ سوفييتية، بعد إنهاك الجيش الفنلندي تحت وطأة ضربات السوفييت، لكن اسم مولوتوف ارتبط للأبد بـ«الكوكتيل».


وصفة المولوتوف


ورقة، وقلم، واكتب معي..

أولاً، الزُجاجة. زُجاجة المولوتوف المثالية سميكة بما يكفي لئلا تنكسر في قبضة مستخدمها أو أثناء نقلها، وهشة بما يكفي لتتحطم عند ارتطامها بالهدف الصلب. استخدم الفنلنديون زجاجات النبيذ في صنع قنابلهم التي شلت دبابات السوفييت. من المهم أيضًا إحكام الخناق حول فوهة الزجاجة بشريط لاصق، أو بالقماش، لمنع تسرب السائل واشتعال القنبلة قبل إلقائها.

ثانيًا، المادة القابلة للاشتعال. تُملأ الزجاجة بمكونها الرئيس، الذي يختلف باختلاف المنطقة الجغرافية وتوافر المواد؛ البنزين، أو الكحول، أو مزيجٌ من المواد الكيميائية يُشبه النابالم، كلها تصلُح. يُمكن كذلك مزج المادة القابلة للاشتعال بمكونات إضافية تزيد من فعالية القنبلة، مثل القطران الذي يؤدي إلى تصاعد الدخان الأسود عند انفجار القنبلة، أو زيوت المحركات التي تجعل مخلفات القنبلة المحترقة تلتصق أفضل بالأسطح والأقمشة ويصعب إزالتها وإطفاء النيران.

أخيرًا، لا بد من إضافة وسيلة لإشعال القنبلة. في تصميمها الأكثر انتشارًا، يلعب هذا الدور فتيل سميك من القماش (قماش الستائر مثلًا)، إذ يتم إدخال الفتيل عبر فوهة الزجاجة، ويكون طويلًا بحيث يتدلى إلى الخارج. ويُراعى تبليل طرفه الخارجي فقط بالكيروسين، لتفادي اشتعال القنبلة في اليد قبل التمكن من رميها على الهدف. وفي تصميمات أكثر تطورًا، يمكن إضافة قرص من حمض الكبريتيك إلى قاعدة الزجاجة، يشتعل عند احتكاك القنبلة وتحطم زجاجها، ومن ثم يلغي خطوة الإشعال قبل إلقاء القنبلة.


قنابل الفقراء

مولوتوف

المولوتوف في قبضة المعارضة الأوكرانية – يناير/ كانون الثاني 2014

من بين أسماءَ عدة التصقت بقنابل المولوتوف، يبرز اسم «قنبلة الرجل الفقير»، ذلك لقلة تكلفتها وإمكانية صنعها من مواد منزلية بسيطة مُتاحة للجميع. وهي على بساطة صنعها، وتطور أسلحة القوات النظامية وخاصة الدبابات في مواجهتها، ما زالت تتمتع

بفعالية لا بأس بها

في إشعال الحرائق وشل حركة المركبات، وتأثيرها السيكولوجي على الأهداف في معسكر الخصوم لا يُمكن إنكاره. لهذه الأسباب، صار المولوتوف الخيار المفضل للميليشيات غير النظامية، والجيوش المُفتقرة إلى الإمكانات، والمشاغبين والمجرمين.

وقد ظهرت زجاجات المولوتوف في أيدي المشاركين جميع الانتفاضات الشعبية تقريبًا، في الشرق والغرب، من انتفاضات الطلاب في كوريا إلى تظاهرات المواطنين ضد حكومة اليونان اعتراضًا على الإجراءات التقشفية، وليس آخرها انتفاضات الربيع العربي التي عصفت بالمنطقة في أواخر 2010 وبدايات 2011. يُظهر هذا

المقطع

من تصوير إيه بي سي نيوز محتجين يستهدفون دبابة تابعة للقوات المسلحة المصرية بالمولوتوف، مما أسهم في إخافة الجنود الموجودين بداخلها ودفعهم إلى الانسحاب من محيط ميدان التحرير، في الأيام الأولى لانتفاضة يناير/ كانون الثاني.


مع الأعداد الكبيرة، يمكن أن تشكل قنابل المولوتوف سلاحًا شديد التدمير. هذا الأسلوب استُخدِم على نطاق واسع في الانتفاضة الشعبية البحرينية ضد قوات آل خليفة. شاهد هذا

المقطع

، الذي يُظهِر عشرات المحتجين في البحرين يركضون نحو سيارة الدورية، وبأيديهم زجاجات حارقة مشتعلة الفتيل، قبل أن يمطروا السيارة بها ويدمروها تمامًا.


لا عجب إذن في أن قنابل المولوتوف يُمنَع تصنيعها أو حيازتها في العديد من الدول. غير أنه من المستحيل بمكانٍ أن تنجح السلطات في منع المواطنين من حيازة زجاجات المياه، وملء سياراتهم بالبنزين، والاحتفاظ بقطع من القماش. ومن ثمَّ سيظل المولوتوف سلاحًا متاحًا في أيدي الأفراد والجماعات، يمنحهم بعض التوازن في معركتهم أمام أطرافٍ تفوقهم في القوة.