إذا أردت أن تؤخذ بجدية، عليك بالنشر باللغة الإنجليزية. وإذا أردت أن يعرف العالم بمجهوداتك ويقوم بتقديرك كما تستحق، أيضًا قم بنشر أبحاثك باللغة الإنجليزية.

يقوم المجتمع العلمي المعاصر على هذا المبدأ. يكفي أن ننظر للدول التي لا تتحدث الإنجليزية كلغة أم لنجد أن نسبة النشر العلمي فيها بلغتها الأصلية لا تكاد تذكر. بحث واحد فقط من كل 40 بحثًا منشورًا

في هولندا نُشر باللغة الهولندية

وهذه الحالة ليست مجرد استثناء.

فعلماء اليوم في اليابان ومعهم الفرنسيون، والألمان، وعلماء أمريكا الجنوبية، والصين، والدول العربية، والروس يضطرون جميعًا ومعهم بقية أوروبا غير المتحدثة بالإنجليزية إلى تعلم الإنجليزية واعتمادها في منشوراتهم العلمية.

كيف أصبح للإنجليزية كل هذه السطوة على لسان العلم رغم أن

متحدثيها لا يزيد عددهم

عن 15% منهم 5% فقط متحدثون أصليون؟ هل كانت الإنجليزية هي الوريثة الشرعية للاتينية؟ وهل كان وضع اللاتينية مشابهًا للإنجليزية في العلم القديم؟ وهل يصب ذلك في مصلحة المعرفة البشرية؟


لغة الجميع ولا أحد

يبين التاريخ أن ثمة اختلافًا واضحًا بين التبادل العلمي الذي سادته اللاتينية وبين التبادل العلمي الذي تسيطر عليه الإنجليزية بقبضة لا تلين. لم يكن من الصعب على الباحثين والفلاسفة الطبيعيين منذ القدم أن يدركوا صعوبة التغلب على حاجز اللغة. فتم اقتراح حل ساندته كل الثقافات لأنه لم يعطِ مزية لواحدة منها على الأخرى، اختيرت اللاتينية كلغة لتسجيل المباحثات العلمية والرسائل والمجلدات الضخمة.

لم تكن اللاتينية اللغة الأولى لأحد،

يصفها المؤرخ مايكل جوردين

بأنها لغة ناقلة Vehicular فقط. تحدث كل مستخدمي اللاتينية لغة أم غيرها واستخدموا تلك اللغة الأولى في كل مجريات حياتهم اليومية والبحثية. فكانت وظيفة اللاتينية كلغة بيروقراطية تفيد التسجيل فقط حتى يتسنى لشعوب اللغات الأخرى الاستفادة منها والحديث أو التطوير عليها في لغتهم الخاصة، وهكذا تدور الدائرة.

هكذا كان العالم الذي سيطرت عليه اللاتينية عالمًا متنوعًا بتعريفه. نمت ممارسة الجميع للبحث الفلسفي والعلمي عن تعددية لغوية عميقة. لم تستطع ثقافة ما ادعاء أنها المسيطرة على العلم أو أنها أصل العلم. مورس قطاع كبير من البحث المعرفي بالإغريقية القديمة ثم العربية والصينية، وظلت اللاتينية حلقة وصل لا لغة إجبارية يهمَل كل ما عداها.


التصدع

بدأ النظام المتزن في الانهيار في القرن السابع عشر عندما اتجه العلماء إلى لغتهم الأولى في منشوراتهم العلمية وقضوا بذلك على السلام اللغوي بين الأمم. نشر جاليليو بالإيطالية ونيوتن بالإنجليزية بعدما نشر كلاهما وغيرهما الكثير باللاتينية في البداية لضمان تعرف الباحثين الجديين على أعمالهم الأولى.

توجه العلماء في ذلك الوقت كل إلى أمته وولدت بذلك القومية العلمية التي لن تلبث حتى تؤدي لظهور العلم القومي ذاته كما نرى في «العلم الألماني» و «العلم الأمريكي». تراجعت اللاتينية وأصبح سباق اللغات يعتمد على نشاط باحثي كل أمة وعدد باحثيها. هكذا قدر للألمان والفرنسيين أن يكونوا في المقدمة مع الألمانية محققة الصدارة، بينما ظل البحث الروسي محكومًا بالجغرافيا ولم يشعر بالحاجة إلى التواصل مع الآخرين واكتفى بالانغلاق على ذاته وجهود علمائه الفردية في الاطلاع.


بدا من الواضح أن الألمانية ستصبح وريثة العلم

إلا أنها افتقدت إلى أهم سمات اللاتينية؛ الحيادية الشديدة. أثار الألمان حفيظة أوروبا بمعدلات نمو بدت خارقة آنذاك. وبعد الحرب العالمية الأولى ومحاولة ألمانيا للتموضع كقوة عظمى ومنافس حقيقي على عدة أصعدة خاصة العسكرية منها، اتضح للقوى العظمى أن كسر شوكة الألمان عليه أن يمتد إلى اللغة كما حدث اقتصاديًا وعسكريًا.

تمت مقاطعة الألمانية في مختلف بقاع العالم التي سيطر عليها المنتصرون ووصل الأمر إلى منتهاه في الولايات المتحدة التي في خلال سعيها الخاص لتنفيذ ما حلمت به ألمانيا، شعرت بأن عليها حماية نفسها إلى أقصى حد. منع الحديث بالألمانية في الأماكن العامة حيث عاش الكثير من ذوي الأصل الألماني في المزارع هناك كمهاجرين من جيل أول أو ثانٍ. منع التواصل عن طريق التيليغرافات بالألمانية، ومنع النشر بالألمانية واهترأ التعليم باللغات الأجنبية. انفصل الأمريكان عن كل ما يمت للألمانية بصلة لدرجة الجهل بمجريات العلم الحديث التي أخذت في التطور في ألمانيا عقب بزوغ الفجر الأول لميكانيكا الكم.

أضف إلى ذلك بداية اشتعال الهتلرية لتصبح لديك الوصفة الكاملة للقضاء على مستقبل الألمانية كلغة العلم الموحد، وبداية طريق الإنجليزية لاقتناص هذا الدور.


الوجه المظلم

أخذت قوى التحالف على عاتقها –بعد التخلص من روسيا مبكرًا بسبب ميولها الشيوعية ثم بسبب الحرب الباردة- تنفيذ نظام تديره هي ويجعلها في مركزه تمامًا. ربما تم تقديم المشروع كحل لمعضلة عدم دراية الباحثين بمنشورات زملائهم في الدول الأخرى باللغات الأخرى ومحاولة لتحقيق ما فشل الإسبيرانتو Esperanto في تحقيقه. لكن الواقع أن المشروع كان يهدف لصنع علم يتحدث لغتها لا مجرد لغة موحدة.

بمرور الزمن تحقق الهدف لكنه أسفر عن تداعيات لم يُلقِ أحد إليها بالاً قبل ذلك. قُدمت الإنجليزية كوسيلة لتوفير الوقت والجهد في التواصل وضمان معرفة الجميع بالحديث والمتقدم. بدلاً من ذلك، أصبح على معظم سكان العالم تعلم الإنجليزية كلغة ثانية قبل التفكير في تعلم أي لغة أخرى. إن لم تتحدث الإنجليزية فلن يسمعك أحد.

مضافًا إلى ذلك، تبلور لدى الجميع شعور بأن العلم الحقيقي سيكون بالضرورة قد تم نشره في مجلة إنجليزية، وأن أي منشورات علمية بلغة مختلفة هي بالضرورة معيبة أو لا ترقى لمستوى المنشور بالإنجليزية. بإمكان هذا الانطباع أن يتسبب في كارثة كالتي حدثت عند انتشار وباء إنفلونزا «H5N1» الذي نُشرت عنه دراسة باللغة الصينية فيما يخص انتقاله إلى الخنازير مما قد يعني إمكانية انتقاله إلى البشر فيما بعد.

بسبب الموقف المتعالي والجاهل للمجتمع العلمي، لم يشغل أحد باله بما قد

ينشر باللغة الصينية

أو غيرها إلا بعدها بشهور. عندها سارع الجميع إلى ترجمة الدراسة ومحاولة استقصاء معلوماتها بعد الكثير من التأخير.

تمثل فكرة اللغة الموحدة للعلم استحالة عملية في بعض العلوم عن بعضها الآخر. تنشر نسبة كبيرة من الأبحاث المختصة بالحيوان وخاصة المشارفة على الانقراض والنادرة منها باللغة الأصلية للدولة التي يعيش الحيوان في كنفها. في غياب الاهتمام بالترجمة إلى الإنجليزية وفي ظل الافتراضات الخاطئة، تضيع فرصة الكثير من المختصين بالحفاظ على الحيوانات أو باحثيها في الحصول على المعرفة المطلوبة. في الوقت ذاته فإننا نقع في دائرة مفرغة، فيها يصبح حصر النشر والتعامل العلمي على الإنجليزية سببًا في جعل الترجمة نشاطًا مكلفًا لندرة القائمين عليه بسبب ندرة الطلب عليه في الأصل.

فهم العلماء القدامى أن وحدة الألسنة فكرة يمكن تخيلها لكن لا يمكن تحقيقها. يصدق أن الإنجليزية اليوم قد قضت على لعنة بابل إلا أنها خلفت وراءها أنواعًا مختلفة من اللعنات. قد تكون الإنجليزية قد وفرت على البريطانيين والأمريكيين جهودًا، إلا أنها أثقلت بها على كاهل جميع من سواهم. من هذه الزاوية، يكون من الظلم وصف الإنجليزية بأنها لاتينية عصرها.