يلقي الماضي على حاضرنا بأثره القوي فلا يمكننا إلا دفعه بشيءٍ من الحنين، تعيدنا بعض الحكايات والأفكار والصور فورًا إلى حالةٍ خاصةٍ من استدعاء الذكريات، والتعامل الحميم مع ذلك الماضي الذي كنّا نظن أنه ولّى بغير رجعة، فإذا به يظهر بآثاره علينا وعلى من حولنا في نصوص مكتوبة بعذوبة وشفافية وصدق.

في تجربةٍ سرديةّ جديدة يقدّم لنا الروائي المحترف «عادل عصمت» حكاية عائلة «دار سليم» وأفرادها، وذلك عبر «الوصايا العشر» التي يتركها الجد للحفيد في أواخر أيامه، والتي تظل ماثلةّ أمام ذلك الحفيد طوال عمره، حتى وإن لم يتمثّلها أو لم يعمل بما فيها، ولكنه يشعر بأثرها في حياته، حتى يستعيدها بين يدينا ونستعيد معها حكاية تلك العائلة كلها منذ بدأت ونمت وكانت ملء السمع والبصر حتّى تفرّق شملها وتلاشت بمرور الزمن في أنحاء الأرض!

لا تقتصر رواية «الوصايا» بالتأكيد على تقديم حكاية تلك العائلة وما جرى لأفرادها، ولكّن «عادل عصمت» يضفّر تلك الحكاية بذكاء بعدد من التأملات الفلسفية للحياة بشكلٍ عام من خلال تلك الوصايا التي يتركها الجد لحفيده، والتي استطاع أن يعكس من خلالها فلسفته ورؤيته لكثيرٍ من قضايا الحياة بشكلٍ عام، وكل ما يتعلق بأفكارها الكبرى، مثل علاقته بالحب والفرح، الحزن والألم، طريق العيش وسبل المواجهة.

جاء كل ذلك بشكلٍ واضح من خلال الوصايا، وبشكلٍ عرضيٍ غير مباشر بين ثنايا قصص الرواية وحكايات أفرادها التي بُنيت بعنايةٍ شديدة، تأتي هذه الوصايا على النحو التالي:

خلاصك في مشقتك

إياك والعمى

المتعة عابرةٌ كالحياة

كن يقظًا وقت الفرح

الثروة مثل الدابة عليك أن تسوقها

احذر أن تقتل أخاك

الأحزان سموم القلب

تحمّل الألم

المحبّة دواء أيام الباطل

أعظم الفضائل في التخلّي

في كل فصلٍ/وصيّة يعرض الجد فكرتها بشكلٍ عام، ويوضح ما يقصد من ورائها، ثم يأتي بعد ذلك طرفٌ من حكاية «دار سليم» على لسان السارد/الراوي العليم. تأتي الحكاية بانسيابية شديدة لتؤكد على معنى هذه الوصيّة أو تشير إليه، تلك الوصايا التي يبدو أنها خلاصة تجارب الجد في حياته من جهة، وفلسفته التي يود أن ينقلها إلى الأجيال التالية من جهةٍ أخرى.

تبدأ الرواية بحكاية الجد «عبد الرحمن» في شبابه بشكلٍ دقيقٍ ومفصّل، مرورًا بأفراد عائلته الكبيرة، ولعله لم يعد غريبًا على من يقرأ «لـعادل عصمت» أن يعرف أنه سيواجه في روايته شخصياتٍ من لحمٍ ودم، يعرف كيف يحكي أدق تفاصيل حياتهم، ويتحدث عن مشاعرهم ويختار مواقف مناسبة تمامًا لتعبّر تمامًا عن شخصياتهم، حتى لتتجسد تلك الشخصيات أمامك وكأنّك تراها.

ما نحن إلا أطياف، ذكّر نفسك كل يوم، لم يكن أحدٌ يساوي «علي سليم» في جبروته، أصبح الآن حفنة تراب، وأنا بعد يومٍ واحدٍ سوف أصل إليه. منذ الآن وطّن نفسك على هذا. لاتتشبّث مثل البغل الحرون. اقبل وضعك وحاول العمل عليه. جهدك وعملك هما عزّتك وسكينة قلبك وستكون أغنى عندما تعمل وأنت مدركٌ أنك راحل.

سوف تعرف كيف أنك موجودٌ في كل شيءٍ تعمله في كل الكائنات من حولك، ما أنت إلا رسمٌ صغير لحياةٍ أكثر اتساعًا حار في فهم كنهها الألباء. اسمٌ سوف يختفي لكّن الحياة فيك ستبقى، هي أهم وأبقى.

سنتعرّف معه على الشيخ «عبد الرحمن» وأخيه «نعيم»، وصديقه «نور الدين»، وحبيبته «كوثر»، وعلاقة الحب الملتبسة شديدة الخصوصية والغرابة بينهما، ثم أخته «فاطمة» التي جاءت بعد طول انتظار التي أصبحت وتد البيت وعماده، نتعرّف عن قرب على ابن أخيه «علي سليم» الذي يغدو حكاية الدار وأسطورتها الخاصة.

نتعرّف مع الحكاية على الدار ببنائها وجدرانها وغرفها، بحقولها ومحاصيلها، على «الأرض» حينما كانت قيمة كبرى يحرص الفلاحون على زراعتها، ويتقاسمون العناية بها وبالمواشي فيها بينهم، وما غيّرته الأيام عليهم بعد ذلك!

اقرأ أيضًا:

صوت الغراب .. صرخة الانطلاق إلى الحريّة

وإذا كان «عادل عصمت» قد سار في رواياته السابقة على نهجٍ يبدو متقاربًا، فتحدث عن مواجهة البطل لأسرته بالحكاية في «حياة مستقرّة»، أو مواجهة الفرد المجتمع بالفن والإبداع في «حكايات يوسف تادرس»، أو لجأ لحيلةٍ فانتازيّة للتعبيّر عن رغبة البطل/الفرد الإشكالية وسعيه نحو الحريّة في «صوت الغراب»، فإنه ينحو هذه المرة منحىً أعم وأشمل تبدو الرواية معه في النهاية متجهةً اتجاه العمل الملحمي.

وإن بقيت بنفس سمات وطريقة وأسلوب «عادل عصمت» الروائيّة المميّزة، حيث القدرة البالغة على التكثيف، والبراعة في رسم المشاهد القصيرة الدالة والتعبير عن شخصيات العمل _على كثرتها_ بأقل قدرٍ ممكنٍ من الكلمات والعبارات.

هكذا تبدو رواية «الوصايا» مرثيّة سردية مكتوبة بذكاء لعالم أسرةٍ يتداعى، استعرض فيه «عادل عصمت» حياة تلك الأسرة منذ خمسينات القرن الماضي حتى العصر الحالي، ورغم بعد الفترة الزمنية فإن القارئ لا يشعر بالملل، بل ولا بمرور كل هذا الزمن، الذي يعرض فقرات منه وأحداثٍ بشكلٍ عابر ولكن دقيق مع ذلك، من ذلك مثلاً إشاراته لظهور الراديو «الترانزيستور» وأثره على حياة العائلة كلها، ثم ظهور أجهزة «التسجيل» في بداية التسعينات، وغيرها من مظاهر حياتيه خاصة جدًا.

ثمة مشاعر خاصة جدًا ومواقف فارقة يخوضها أهل البيت، وتؤثر في علاقاتهم ببعضهم، ترصد الرواية ذلك بشكلٍ دقيق وواضح، حتى ليخيّل للقارئ أن في النص إعلاء واضحًا لقيمة الأسرة والتشابك بين الأفراد ليس في مواجهة المجتمع هذه المرة، بل ولكن من أجل الحفاظ على الحياة وبقاء الناس فيها من الأصل، يبدو ذلك في علاقات الأسرة، حتى وإن كان الجد الشيخ متحكمًا فيها، كما يبدو في شعورهم بالأمان حينما يضطرون لهدم الدار.

هذه أصعب لحظات «دار سليم». أهل الدار متناثرون في بيوت الأهل والجيران، يجربون لأول مرة حس الغريب. السقف كان يمنحهم ألفة ضروريةً كي يزاولوا حياتهم، وبدون تلك الألفة التي تشبه التنفس في أهميتها وخفائها، يعيش المرء متوترًا كأنّه يمشي عاريًا، سيظل ذلك قائمًا حتى يستعيدوا السقف مرةً أخرى، ومن لهم ارتباطٌ خاصٌ بالدار، مثل الست خديجة، سوف يعيش حالةً من الغبن والرغبة في البكاء.

كان ذلك حالها كلما رأت عرفة تهدم، وبيت حياتها يصبح ترابًا، لم تتمكّن من أن تخفي حزنها مثلما يخفي الشيخ مشاعره. هذه الدار قيمةٌ جدًا، قضت فيها حياتها منذ كانت في السابعة عشرة من عمرها، هنا حدث لها كل شيء كأنها لم تعش في دارٍ أخرى.

لم يعد هدم الدار حدثًا عابرًا، بل يغدو الأمر تمثيلاً رمزيًا شديد البلاغة والتأثير لكل ذلك الماضي الذي أخذ يولي ظهره عنهم شيئًا فشيئًا، حتى وفاة الجد لا تكون مؤثرةً ومزلزلة مثل حادث هدم البيت، بل ويأتي بعد ذلك حادثٌ مثل دفن ابنه «صالح» الشيخ الأزهري الذي عاش بعيدًا عن أسرته، وأصر على أن يدفن جسده في القاهرة، لتثور ثائرة أخته فاطمة وتصر على حمل روحه في جلبابه إلى قريته ليدفن بجوار أهله وناسه، في مشهدٍ يختم به «عادل عصمت» الرواية ليكون المشهد الأكثر تأثيرًا وقوة في الرواية كلها.

وكأي عملٍ أدبي كبير، لا يمكن الإلمام بكل جوانبه وتفاصيله، خاصة إذا كانت شديدة الثراء كما سيجد قارئ «الوصايا» عند «عادل عصمت»، ولكن حسبنا أن نشير في النهاية إلى أننا إزاء رواية مهمة وإضافة جديدة لمسيرة الرواية المصريّة المعاصرة.