كثيرًا ما يتم تصدير بعض الكتابات التي تحرّض القراء على عيش تجربةٍ مماثلة بسؤال «ماذا تفعل لو كنت مكانه؟» على اعتبار أن هذا السؤال هو الطريقة الأمثل لمعايشة حالة معيّنة، والتفاعل معها بأكثر الطرق إيجابية ومباشرةً.

لكن ما يفعله الروائي السعودي «عزيز محمد» في روايته الأولى «الحالة الحرجة للمدعو ك»؛ هو أن يضعك مكان بطل روايته بالفعل، وليس ذلك من خلال السؤال بالطبع، بل من خلال تفاصيل روايته شديدة الثراء والشفافية والصدق؛ بدءًا بطريقة السرد التي تأتي على ضمير المتكلّم.

يجد القارئ نفسه متورطًا في الحكاية التي يرويها بطل الرواية، مرورًا بقراءاته المختلفة وسعيه الدءوب لكتابة كل ما يمر به، وصولًا إلى اغترابه عن عالمه في محيط أسرته وعمله ومجتمعه كله. يجد القارئ نفسه جزءًا من هذا البطل الذي يجيد «عزيز محمد» التعبير عنه، حتى يفاجأ بمشكلته الكبرى، وهي إصابته «بالسرطان».


المدعو ك!

مثل قطع البازل التي يتم تركيبها بشكلٍ متتابع، نتعرّف شيئًا فشيئًا على عالم البطل «المدعو ك»، والذي يستلهم حكايته من عوالم «كافكا» الأثيرة لديه، حيث يأخذ رمز البطل «ك» من نص «المحاكمة» الشهير، كما يبدو البطل شديد الشبه بــ«سامنثا» بطل رواية «المسخ»، ولكنه ينتقل من ذلك كله إلى التعبير عن عالمه بكل ما فيه من خصوصيةٍ وتعقد.

هو ذلك الموظف العشريني الذي يعمل بشكلٍ روتيني، ويرصد جوانب العمل التي لا يجد أنها تناسبه، حتى تحل عليه مصيبة مرضه، كحلٍ نهائي وعاجل يخلصه من كل الأزمات والمشكلات التي قابلها في حياته، ليفاجأ أنه يضعه وجهًا لوجهٍ وحيدًا مع ذلك الألم!

نفتبس من الرواية:

كانت أرضيّة سيارتي دليلًا واضحًا على أني لا أواعد أي فتاة، لا نقصًا في الرغبة بل فقط لأن فعل التعارف كلّه لم يكن يوافق شخصيتي، إنّك مطالبٌ أن تكون ظريفًا وحفيًا ومتحليّا بالرقّة معهن، لإقناعهن بأنّك جديرٌ بالثّقة، وذلك من دون أن تفعل الفتاة شيئًا في المقابل، بل بمجرد السطوة الناتجة عن كونها أنثى.

فهي تتمتع بحقٍ فطري أن تدين لها بمبادراتٍ ظريفة وتفتح معها مواضيع شيّقة للحديث، وتبقى المحادثة سلسةً وسهلة، وتوضّح أفكارك ومبادئك المتحضّرة وتلقي كلماتٍ بلهجةٍ أمريكيّة متقنة، وتثبت أنّك معتادٌ على مخاطبة النساء بعفويّة، وإلا أعرضت عنك بالنظر إلى الجدار أو النافذة، مانحةً إياك الفرصة لأن تبتعد عنها بكرامتك، أو تدفن وجهها في هاتفها الذكي على أمل أن تكون قد ابتعدتَ حين ترفعه.

على عكس كل الكتابات الأدبية والروايات والأفلام التي تتناول مواجهة الأمراض و«السرطان» بشكلٍ خاص، وتحاول أن تصوّر المصابين به كأبطالٍ في مواجهة المرض؛ يُبدي بطل «عزيز محمد» نفوره الشديد من تلك الفكرة، وهو الذي لم يكن يلقي بالًا لقصص الناجحين أصلًا ولا حكاياتهم، بل يعلن على الدوام سخريته من طريقة التفكير تلك وإن كان يجد في المرض والاستسلام له طريقة جديدة لمواجهة العالم بما فيه من قبحٍ وتسلطٍ وغباء.

ويبدو النص/الرواية في النهاية كمحاولةٍ ناجحة جدًا لرفض الكثير من العادات والتقاليد المجتمعية البالية، بدءًا من الأسرة الصغيرة والعلاقات الاجتماعية الهشّة، وصولاً إلى روتين العمل وطريقة كسب العيش والحياة نفسها.

لا أكاد أذكر لحظةً واحدةً خلال هذه الأسابيع لم أكن أعاني فيها من ألم ما يتآكلني ويقوّض رغبتي في الصبر. إنّه كلبٌ ينبح في جسدي ليل نهار. أحاول النوم قدر الإمكان لكن نادرًا ما يسمح هذا النباح بذلك. وحين أستيقظ يكون أوّل ما أنتظره، إذا لم يكن هو ما أيقظني.

لقد انتهت تلك الأيام التي أستيقظ فيها بحسن ظنٍ تجاه حالتي، ذلك نوعٌ من المقياس البيولوجي الذي تتغيّر برمجته تدريجيًا بعد أن تعيش مع المرض مدة كافية.. أنت لا تعتاد أبدًا على المرض، فقط تنسى كيف كان الأمر حين لم تكن مريضًا!

يجيد «عزيز محمد» التعبير عن بطله بدقة، ويغرق النص بتفاصيل ذكيّة تجعل القارئ شغوفًا بمواصلة قراءة العمل رغم ما يحتوي عليه من ألم، لاسيما في وصف طريقة تعامل مريض «السرطان»، سواء في التحاليل والأشعة التي يتعرض لها وما يصيبه من غثيان ومشكلات صحيّة، سواء في محيط أسرته أو أثناء وجوده في المستشفى.

يرصد تلك المواقف البسيطة التي قد تبدو للآخرين عابرة بكل دقة. يتأمّل القارئ معه مثلًا موقف البطل في الطائرة أثناء رحلة علاجه ومحاولته العثور على فرصة «للتبوّل»، وكيف كان خبر كونه مريضًا «بالسرطان» وسيلته الوحيدة لأخذ مكان في دورة المياه!.

ومرة أخرى حينما يضطر البطل لمواجهة «جده» بأمر مرضه، وكيف يصف عالم ذلك «الجد» في مكانه/ مملكته شديدة الخصوصية، والتي يبدو أنه لا يقدر أحد على أن يزعزع أركانها أو يؤثر عليها، ولا حتى إصابة حفيده بذلك المرض الخطير. كذلك علاقته شديدة الخصوصية بوالدته وأخيه وأخته، لدرجةٍ يتداعى فيها العالم كله حول «ك» ولا يجد مكانًا له إلا في غرفته في النهاية.

وهكذا يدور عالم «ك» وحالته وبدون أن يقع الراوي في «ميلودرامية» الحدث، يجد القارئ نفسه متعاطفًا معه لفرط صدق وشفافية بطل الرواية، الذي يشعرك في كل موقفٍ من مواقف حياته أنه يدافع عن وجوده وكينونته، قبل أن يكون الأمر أمر إصابةٍ بمرض خطير، إنه البحث الحقيقي عن الحياة وسط مستنقع العبث واللامبلاة التي عاشها ويعيشها فردٌ بسيط في هذا العالم رفض ـ بمحض الصدفة ـ أن يكون ترسًا يدور في آلة!

وعلى الرغم من كون

هذه الرواية

هي الأولى لكاتبها السعودي الشاب «عزيز محمد»؛ إلا أنه استطاع أن يكتبها لتحظى بإقبال وحفاوةٍ بالغين من القرّاء والنقاد. ولم يكن من المستغرب أن تصل إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هذا العام، كما يتوقع أن تظل محتفظةً بمكانها وتصل إلى القائمة القصيرة أيضًا.