«يمكنك تقليل الكمية يومًا بعد يوم حتى تستطيع الإقلاع تمامًا بدون المرور بأعراض قاسية».

عادة ما تكون هذه الإستراتيجية هي أول ما نقترحه عندما نحاول نصح شخص ما بالتوقف عن التدخين، آملين في أن تكون تدريجية الأمر هي مفتاح خلاصهم النهائي من نير العادة القاتلة. ونعلم جميعًا أن التدخين يؤذي ويتسبب في أخطار جمة، لكن، إلى أي حد نعلم الخطر الذي تسببه كل سيجارة بصورة كمية؟، وهل يمكن للإقلاع مسح ما حدث بالفعل من ضرر لخلايا الجسم؟.

استهدفت الدراسة المنشورة في

Science

مطلع الشهر الجاري وضع أولى النتائج التي تحاول الربط بين عدد السجائر التي يتم استهلاكها مع الضرر الناجم عنها في علاقة مباشرة، يمكن معها امتلاك تصور حقيقي لقيمة كل سيجارة في التسبب في سرطان بعد وقت طال أم قصر.


أين كنا؟

للسرطان تاريخ طويل. في المملكة المصرية القديمة كان إيمحوتب ينسخ مخطوطًا –يعود لثلاثة الآلاف عام قبل الميلاد بالنسبة لنا- يصنف فيه العديد من الأمراض والإصابات، ويصف تفاصيل علاجها دون اللجوء للتعاويذ والسحر في العصر الذهبي للتعاويذ والسحر. اعتاد إيمحوتب أن يصف المرض أو الإصابة وبجانبها العلاج، إلا عندما وصف ما نعرفه الآن بالورم. كانت خانة العلاج في مخطوطة إيمحوتب صامتة.

في خضم محاولات إيجاد ما يملأ هذه الخانة، تعلمت البشرية الكثير عن هذا المرض العضال وراوغها الكثير عنه أيضًا. تمر كل خلية حية بمجموعة من المراحل تسمى حلقة الخلية cell cycle، يحدد الحمض النووي –بهيكله وتركيبه الكيميائي- للخلية مدى التزامها بمنهجها الطبيعي في الانتقال من مرحلة إلى أخرى. ليس من الصعب إذن توقع أن التغيير في التركيب الكيميائي لجزيئات الحمض النووي سيكون له انعكاس واضح على خط سير الخلية من مرحلة إلى أخرى. يمكن تلخيص هذه المراحل على النحو التالي:

  • مرحلة G

    0

    وهي وضع الخلية الكامن غير النشط، منه يتم استيراد الخلية لتبدأ في رحلتها نحو التكاثر.
  • مرحلة interphase وخلالها تبدأ الخلية بالازدياد في الحجم ونسخ صورة من حمضها النووي.
  • مرحلة M وهي مرحلة انقسام الخلية الكبيرة إلى خليتين تحمل كل منهما نسخة من نفس الحمض النووي ونسخة من مكونات الخلية.

يواجه الجينوم مواضع خطر عديدة. على الحمض النووي أن ينجو من حدوث أخطاء خلال عملية نسخه وإلا قد تتسلم الخلية الناشئة نسخة معطوبة تورثها بدورها لخلاياها عندما تنقسم، ونجد أنفسنا في مواجهة خطأ متفاقم. هذا بالضبط ما يتسبب في السرطان إذا أتى الخطأ في جين معين. يلي ذلك استنتاج بديهي وهو أن ازدياد عدد الطفرات يؤدي لازدياد عدد الأخطاء المحتملة في الحمض النووي، وهذا بدوره يؤدي لارتفاع احتمالية حدوث الخطأ الخاص بفقدان السيطرة على مراحل انقسام الخلية متجهًا بها نحو السرطانية.

نقول أخطاء في الحمض النووي كتعبير عام إلا أنه يحمل معنى خاص ومحددًا جدًا. ينتج الخطر السرطاني من الأخطاء في مجموعتين من الجينات تعرف إحداهما باسم Oncogenes وهي الجينات المسئولة عن تسريع عملية انقسام الخلية والتي تحاول منع موت الخلية، والثانية باسم suppressor genes وهي المسئولة عن إيقاف الانقسام والمتعلقة بموت الخلية. تتضافر جهود المجموعتين لإحداث توازن بين انقسام الخلية المطلوب للنمو ثم السيطرة عليه بعد أن يتم بشكل طبيعي؛ لذا فإن أي خلل قد يطرأ عليهما قد يترك الخلية عرضة لبداية تكوين ورم.


الخطوة الجديدة: بالأرقام


الدراسة التي نشرها مختبر لوس ألاموس، والتي شارك في نتائجها أكثر من ست عشرة منشأة بحثية على مقارنة آلاف من السجلات الجينية لأحماض نووية مأخوذة من مرضى سرطان مدخنين ومرضى سرطان غير مدخنين. وكان المغزى هو إيجاد الأخطاء الأكثر ارتباطًا بنشوء السرطان؛ أي العلامات signatures التي يمكن إيجادها في الحمض النووي للمدخن والتي يمكن ربطها بالإصابة بالسرطان. تمكنت الدراسة من إيجاد 20 علامة يتشاركها مرضى السرطان المدخنين، إلا أن خمس علامات فقط هي التي وجدت في مستويات مرتفعة في سرطانات المدخنين. من بين هذه العلامات الخمس، وجد الباحثون أن العلامة رقم 4 تنشأ عن تدخين التبغ بشكل مباشر؛ أي أنها طفرة نشأت عن تفاعل المواد المسرطنة carcinogens المميزة لمكونات التبغ. أيضًا وجد الباحثون أن العلامة رقم خمسة signature 5 -وهي علامة معروفة من بحث سابق يعرف عنها تسببها في طفرات بشكل منتظم- قد تواجدت بشكل متزايد لدى المدخنين أيضًا.

أضافت الدراسة الجديدة منظورًا أكثر وضوحًا لعلاقة التدخين بالطفرات –التي قد وقد لا تتسبب في سرطان- والتي بازديادها تتعاظم المخاطرة بنشوء سرطان بالفعل. تظهر العلاقة المذكورة في أن كل 50 سيجارة يتم تدخينها ينشأ عنها طفرة واحدة في خلية رئوية. وبالتالي، فعلى مدار عام، تدخين علبة سجائر تحتوي على 20 سيجارة يوميًا سيتسبب في إحداث 150 طفرة في الخلية الرئوية الواحدة، و97 طفرة في خلية الحنجرة الواحدة، و39 طفرة في خلية البلعوم الواحدة ، و18 طفرة في خلية المثانة الواحدة وأخيرًا 6 طفرات في خلية الكبد الواحدة.

رغم الصورة القاتمة التي يتسبب فيها التدخين، كانت الدراسات قد أوضحت قبلًا أنه رغم عدم إمكانية إصلاح الطفرات الحادثة بالفعل، فإنه يمكن على الأقل تقليل خطر الموت المبكر الناشئ عن التدخين إلى النصف إذا تم الإقلاع عنه تحت سن الخمسين، وإنهاؤه تمامًا إذا تم الإقلاع تحت سن الثلاثين.

ختامًا، لا يمكن القول بأننا قد توصلنا للميكانيكية الثابتة لمسببات وطريقة نشوء السرطان أو كيفية تسبب التدخين بشكل مباشر ومحدد، لكن الطريق نحو إيجاد هذه المعلومات يتطلب استمرارية جمع المعلومات الجزئية – كالتي قدمتها أبحاث لوس آلاموس وغيرها – ووضعها في السياق المؤدي بنا للفهم. حتى ذلك الوقت، على الباحثين الاستمرار في العمل الشاق في داخل مختبراتهم وعلينا نحن في خارجها أن نتوقف عن تعريض حيواتنا لخطر يمكن تفاديه.


المراجع




  1. Mutational signatures mark cancer’s smoking gun

  2. Every 50 cigarettes smoked cause one DNA mutation per lung cell

  3. Mitosis and Cell Division
  4. The Emperor of All Maladies – siddhartha Mukherjee