تخسر الحقيقة كثيرًا من المبالغة في محاولة إثباتها. تنطبق الحقيقة السابقة كثيرًا على قضية تدخين السجائر. من أجل ثَنْيِ الناس عن التدخين يبالغ بعض الأطباء في التخويف، كأن يهدد المريض: «إذا دخت سيجارة أخرى، فستموت!». تكون النتيجة أن المريض يشرب السيجارة، وبنسبة ٩٩٪ لا يموت في الحال، أو في المستقبل القريب، فيفقد ثقته في تهديدات الأطباء، ويزداد إيغالًا في التدخين. إلى أن يحدث له من مضاعفات التدخين ما لا يُحمَد عُقباه بعد أيام أو شهور أو سنين، لا يعلم إلا الله. أو قد لا يحدث له شيء من هذا، ويموت في سريره أو لأسباب أخرى لا علاقة لها بالتدخين.


هل نعيد اختراع العجلة؟

تحتاج الحقائق والمسلمات كثيرًا إلى إعادة تسليط الأضواء عليها من حين لآخر، وذلك لتجديد الثقة فيها، وإعادة الاعتبار لها أمام موجات من التشكيك ستظل موجودة دائمًا وأبدًا. لكن مع تجنب المبالغات والافتعال بالطبع، لأنها تضر بالفكرة أكثر مما تفيد، وتثير الغبار أكثر حول الحقيقة، بدلًا من إبرازها.

في قضية التدخين من منظور الطب، يؤسفني أن أزف للإخوة المدخنين – والأخوات بالطبع، فالتدخين النسوي أصبح ظاهرة مؤخرًا – أنه

ما زال من المسلمات في الطب

طبقًا لأحدث الأدلة الطبية أن التدخين ضار جدًا بالصحة، كما كتب مُصَنّعو السجائر على العلبة التي بين يديْك الآن! إننا فقط هنا سنسلط الأضواء على الأهم فالأهم من أضرار التدخين الثابتة.

والتبغ ضار جدًا بالصحة،

أيًّا كان أسلوب تعاطيه

. وتحتوي السيجارة الواحدة في المتوسط حوالي ٦٠٠ مادة، وعند إشعالها تنتج حوالي ٧ آلاف مادة، أكثرها مضر. ومنها ٦٩ مادة تمَّ إيجاد روابط علمية بينها وبين الإصابة بالسرطانات. يعتبر المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض CDC أن التدخين هو السبب الأبرز للوفاة، والذي يمكن تجنبه. فمعدلات الوفاة المبكرة بين المدخنين في الولايات المتحدة أعلى ٣ مرات من غير المدخنين، ولكن ولحسن الحظ، فإن أكثر أضرار التدخين بالجسم تنعكس تدريجيًا بالتوقف عن التدخين لشهور ولسنوات.


أضرار التدخين على الصحة

من المسلمات أنه لا يشترط حدوث كل هذا لكل المدخنين. بل قد ينجو من معظم هذا بعض المدخنين. ولعل هذا ما يدفع الكثيرين للسقوط في فخ التدخين، عندما يروْن بعض المدخنين لا يبدو عليهم الإصابة بمرض خطير، فيُهيّأ لهم أن الأمر لا يخلو من مبالغات الأطباء المعروفة. لكن عمومًا يصعب للغاية ألا يتعرض كل مدخن لواحدٍ على الأقل من القائمة التالية من أضرار التدخين.

في أسر التدخين

للنيكوتين ذائع الصيت المسئولية الأكبر عن

ظاهرة التعود على التدخين

، بجانب بالطبع الربط النفسي والاجتماعي بينه وبين الهموم، أو الفحولة أو الأهمية أو التمرد على التقاليد… إلخ.

وأعراض انسحاب النيكوتين هي المسئولة عن الأعراض التي تصاحب التوقف المفاجئ عن التدخين، كالاضطراب، والانفعال، والصداع الشديد، والإحساس بالاكتئاب، مما يسبب العودة مجددًا للتدخين، وصعوبة الإقلاع عن هذه العادة.

خدعة القتل البطيء

تخدع الأمراض القاتلة البطيئة كارتفاع سكر الدم، والضغط، والتدخين، الإنسان الذي لا ينظر إلا تحت قدميْه غالبًا. فهي تُحدث معظم تأثيرها الضار على المدى الطويل، وقد لا تسبب أعراضًا سريعة وظاهرة تضطر الشخص إلى الانتباه. وهذا يشجع الكثيرين على الاستهانة بها، وبتنبيهات الأطباء بخصوصها. وهذا هو أخطر كوارثها على الصحة.

الجلطات عمومًا

وظيفة تجلط الدم هي إيقاف النزيف ذاتيًا في حالة حدوث جرح لأحد الأوعية الدموية. تحدث الكوارث عندما يتجلط الدم داخل الشرايين فيقطع مسار الدم، ويحرم الأعضاء الحيوية من التغذية، فتتلف.

يفسد التدخين البيئة الطبيعية بالشرايين، فيسبب تراكم الدهون في جدران الأوعية، مما يسبب التهابات بها، تؤدي إلى تضرر الطبقة الداخلية الناعمة المبطنة لها، والتي يمر عليها الدم بانسيابية فلا يتجلط. وهذا ما يعرف

بتصلب الشرايين.

قد تحدث الجلطة

بالشريان المغذي لأية منطقة بالمخ

فيحدث شلل أو فقدان في الإحساس، أو فقدان للنطق، أو السمع، أو البصر، أو تغيرات في الشخصية، أو تشنجات… إلخ حسب المكان المتضرر من المخ. وقد تحدث في شرايين القلب فتسبب اضطرابات كهربية خطيرة، والوفاة المفاجئة، أو ضعف عضلة القلب لكثير من الناجين… إلخ وقد تحدث في الشرايين المغذية للأطراف، مما قد يصل إلى البتر أحيانًا… إلخ.

القلب خصوصًا

أصبحت إصابة الشباب المدخنين بقصور الشرايين التاجية المغذية للقلب، وبجلطاتها، ظاهرة ملحوظة بشدة لدى أطباء القلب. تقليديًا كانت الخطورة تبدأ في الظهور لدى الذكور بعد سن الأربعين، ولدى الإناث بعد انقطاع الطمث، خصوصًا بعد سن الخمسين. أما الآن فلم يعد ملفتًا للانتباه حدوث جلطة بشريان القلب لدى شاب مدخن في سن الثلاثين. أو وجود شاب في السابعة والعشرين من العمر، سبق له تركيب دعامتيْن بشرايين القلب. أو وجود ثالث عنده ٣٥ عامًا، ويقدر بالكاد على خدمة نفسه، لأنه أصيب بجلطة في القلب، سببت ضعفًا بوظائف عضلة القلب، مما حدَّ كثيرًا من قدراته البدنية والإنتاجية.

راجع:

مرض العصر.. قلوبٌ شابة في مرمى الموت.

وأيضًا:

قلوبٌ شابة في مرمى الموت.. هل يعودون من البرزخ؟

الرئتان والجهاز التنفسي.. التدخين في أرضه وملعبه

الضحية الأولى في الجسم للتدخين بلا منازع. أكثر سرطانات الرئة تزداد فرص الإصابة بها لدى المدخنين. يفسد التدخين كذلك الفطرة الأصلية لأنسجة الجهاز التنفسي، ومناعتها الطبيعية، فتزداد فرص حدوث النزلات الشعبية والالتهابات الرئوية. كذلك تزداد فرص

الإصابة بالأمراض المزمنة

مثل التمدد الرئوي، وانتفاخ الحويصلات الهوائية الرئوية، والتهاب الشعب الهوائية المزمن والمسببات للسعال المزمن، وكذلك

السدة الرئوية المزمنة COPD

.

مع مرور السنوات تصبح التغيرات المرضية داخل الرئة غير قابلة للتحسن، فيتكرر حدوث فشل وظائف التنفس للمريض، ويصبح نزيلًا متكررًا بأقسام الصدر، والعنايات المركزة. كذلك قد يحتاج إلى تعاطي مستمر للأكسجين معظم ساعات اليوم. وقد يسبب الفشل التنفسي المزمن

ارتفاعًا بضغط الشريان الرئوي

، وهذا من الحالات الخطيرة، لأنه قد يسبب ضعف الجانب الأيمن للقلب. وفي آخر الأمر، لن يجدي أي علاج سوى زرع القلب والرئتين، وهو من الصعوبة بمكان ماديًا وفنيًّا.

الجهاز الهضمي


يزيد التدخين احتمالات حدوث السرطان

بمعظم أنسجة الجهاز الهضمي، خاصة الفم والبلعوم (أبلغ رد على أصحاب نظرية دخّن ولا تسحب الدخان على صدرك)، والمريء، والمعدة، والبنكرياس. وهذا الأخير من أكثر السرطانات صعوبة في علاجه، ومن أكثرها في معدلات الوفيات.

كذلك يسبب التدخين زيادة في مقاومة خلايا الجسم لهرمون الأنسولين، مما يزيد فرص حدوث الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني.

الجلد ومشتملاته

لأكبر أعضاء الجسم حظه الوافي من أضرار التدخين، والذي يبدأ من جفاف البشرة، وتشققات الأظافر، وزيادة فرص حدوث الإصابات الفطرية بها، مرورًا بأعراض الشيخوخة كالتجاعيد المبكرة، وصولًا

لزيادة فرص الإصابة بسرطانات الجلد.

الصحة الجنسية والإنجابية

يقلل التدخين نسبة الخصوبة – وبالتالي فرص الحمل – لدى الأم بنسبة قد تصل إلى ٤٠٪. يسبب النيكوتين وتصلب الشرايين نقص وصول الدم إلى الأعضاء الجنسية، فيسبب ضعف الانتصاب لدى الرجال. وفي النساء يقلل الاستمتاع بالعلاقة الجنسية لأنه يقلل الإفرازات المهبلية المليّنة للعملية الجنسية، ويقلل من فرص وصول المرأة لمرحلة الأورجازم أو هزة الجماع. كذلك يزيد التدخين فرص إصابة. المرأة بسرطان عنق الرحم.

الأم المدخنة والحمل


قائمة عريضة من الأضرار

يحملها التدخين للأم ولطفلها. يُعزى معظم هذه الأضرار للنيكوتين، ولأول أكسيد الكربون الناتج من احتراق السجائر.

يسبب النيكوتين ضيق شرايين المشيمة، والتي هي حبل الحياة من الأم لجنينها، والذي تصل من خلاله المغذيات والأكسجين لخلاياه الجائعة كثيفة النشاط والانقسام. يسبب هذا الوفاة المفاجئة للطفل داخل الرحم، أو نقص النمو، أو الولادة قبل الأوان بوزن قليل… إلخ. ومن الخطير للغاية، أن تعاطي الأم لسيجارة واحدة فقط أو اثنتيْن يوميًا يكفي لبدء تضرر شرايين المشيمة.

كذلك وجدت بعض الدراسات علاقة إحصائية مباشرة بين كمية التدخين ومدى النقص في وزن المولود حتى لو وُلد في أوانه. فمثلًا تناول علبة يوميًا،

يخصم على الأقل نصف رطل

من وزن الطفل. ومن المعلوم بالضرورة للجميع العلاقة التناسبية بين وزن الطفل المولود، ونضج أجهزة جسمه المختلفة.

على مستوى الجهاز التنفسي للمولود لأم مدخنة، فتأخر نمو الرئتين شائع للغاية، وقد يتسبب في وضعه في الحضانة لفترة بعد الولادة للحصول على دعم تنفسي، قد يصل للتنفس الصناعي. فإن نجا من هذا، فهو عرضة أكثر من غيره لإصابة بالربو الشعبي.

على مستوى القلب، يكون أكثر عرضة للعيوب الخلقية بالقلب بنسبة قد تصل إلى ٧٠٪ مقارنة بالمولودين لأم غير مدخنة كما أظهرت دراسة لـ CDC عام ٢٠١١.

وجدت الدراسات كذلك أن المولودين لأم مدخنة يكونون أكثر عرضة لمشاكل التعلم، والتركيز، ويمتازون بانخفاض معامل الذكاء مقارنة بغيرهم.


فوائد التدخين!

على الجانب الآخر، فمن باب المفارقة لا أكثر، فحتى التدخين وُجِدَ

له بعض الفوائد الصحية المعدودة

، في مقابل العريضة السابقة من الكوارث المتعلقة به. ومنها:

أظهرتْ بعض الدراسات أن المدخنين أقل عرضة لمشاكل الركبة التي تستدعي عمل جراحات استبدال الركبة! والسبب كما ذكرت الدراسة الأسترالية أن المدخنين أكثر كسَلًا، وأقل ممارسةً لرياضة الجري والتي قد تسبب مع الوقت ظهور خشونة الركبة. كذلك للنيكوتين دور محدود في الحفاظ على غضاريف المفاصل.

كذلك لسبب غير معروف، توصل باحثون عام 2010 إلى أن التدخين لسنواتٍ طويلة يقلل فرص الإصابة

بمرض باركنسون

(الشلل الرعاش). وأيضًا المدخنون أقل عرضة للسمنة المفرطة. يرجع السبب إلى

دور النيكوتين كمثبّط للشهية

، وكذلك لتغير طعم بعض الأطعمة نتيجة التدخين المزمن.

أما الأخيرة، فهي أقرب إلى النكات الساخرة. في ٢٠١٠، أظهرت

دراسة كورية

أن تدخين ١٠ سجائر يوميًا على الأقل، يزيد من فعالية دواء

الكلوبيدوجريل

(شهير للغاية لدى مرضى القلب باسمه التجاري «بلافكس»). هذا الدواء من مثِّبطات صفائح الدم، وهو يقلل من فرص تجلط الدم لدى المصابين بقصور شرايين القلب والتي يعتبر التدخين كما ذكرنا من أهم عوامل الخطورة له! وكذلك يستخدم بكثافة لمن أُجريَت لهم قسطرة قلبية علاجية لتركيب دعامات بشرايين القلب للحفاظ عليها من التجلط والانسداد، والذي يزيد التدخين فرص حدوثهما.

الخلاصة، السيجارة التي لا تستطيع إشعالها لا تشعلها. وإن استطعت ألا تجرب التدخين من الأساس، فهذا هو الأسلم.

الآن، هل تريد أن تبدأ في محاولة جادة للتوقف عن التدخين؟ انتظر التقرير القادم.