من الظواهر المرصودة بشدة في الفن، ظاهرة نجم العمل الواحد، الفنان الذي أبدع عملا قيّما له تلك القدرة النادرة على مجابهة الزمن ودوران عجلته، واستطاع البقاء على الرغم من تغير الأجيال والثقافات والأذواق، ليبقى نجوم العمل الواحد من الألغاز المحيرة التي تدفع الجمهور إلى نفس السؤال الذي عقم عن إنجاب إجابة شافية تسبر غوره، هل هي الصدفة أم الموهبة؟ في هذا التقرير نستعرض ثلاثة نماذج لنجوم العمل الواحد ممن تغولت شهرة أعمالهم وأسمائها على أسمائهم وشهرتهم.


شنطة فاطمة جعفر


«خدت صورتي؟ شوف كده لتكون نسيت»

ربما كانت هذه الكلمات هي أكثر ما علق بذهن مواليد الثمانينيات ممن شبوا على التلفزيون المصري وشاهدوا «كليب» الأغنية مرارا، قبل زمن الكليبات بزمن. وشاهدوا «أنغام» وهي تطارد «طارق لطفي» في شقتهم الصغيرة ترجوه البقاء وتسأله في يأس «لسه ناوي ع الرحيل؟»

كانت الأغنية حالة إنسانية مفعمة بالدراما الواقعية، ربما ﻻمست مساحات أخرى من مشاعر الجيل الأكبر ممن اعتاد على سفر الأحبة للخليج جريًا وراء حلم الثروة السهلة أو على أقل تقدير سعيا وراء القليل مما يعين على مجابهة الحياة وتحلية أيامها المرة، الحالة التي خلقتها موسيقى «محمد على سليمان» – والد أنغام – مزيج من الشجن والإحساس باقتراب خطر الفقد ولو لسنة واحدة، والصورة التي رسمها المبدع «عاطف الطيب»، عاشت لسنوات طويلة بعد انقضاء أيام الترحال من أجل دراهم ودنانير الخليج.

«لو ضروري تسيبني خد مني الحنين.. واختصر بعد السنة خليه يومين»

تطارده أنغام بتلك الكلمات، وهو ﻻ ينفك يهرب منها بين أروقة الشقة الصغيرة، يجمع حاجياته، ويحكم شنطته، ويعزم أمره على الرحيل. بصوت أنغام العذب، وبلحن محمد على سليمان الشجي، وبصورة عاطف الطيب البديعة والبليغة، عاش الكليب والأغنية لسنوات طويلة دون أن يلتفت أحد إلى كاتبها أو كاتبتها، ربما القلة القليلة ممن اقتنوا شريط الكاسيت مروا على الاسم المنقوش على غلافه «فاطمة جعفر» مرور الكرام، لكن الغالبية لم تنتبه إلى الاسم حتى قبل سنوات قليلة عندما أعلنت عنه أنغام في مقابلة تلفزيونية مع الإعلامي «محمود سعد»، وصرحت أيضا أن هذه الأغنية كتبت في أخ وليس في حبيب أو زوج كما ظهرت في الكليب، ليفغر محمود سعد فاه متعجبًا على طريقته الطفولية، دون أن يسألها السؤال الأهم، بعد نجاح الأغنية والكليب لماذا لم تتعاون أنغام مع الشاعرة فاطمة جعفر مرة أخرى؟


ﻻ تتوافر الكثير من المعلومات عن فاطمة جعفر، وربما ﻻ توجد أصلا أي معلومات أخرى غير أنها كتبت الأغنية في التسعينات في تعاون وحيد مع أنغام في أغنيتها الأشهر، وعملين آخرين مع «منى عبد الغني» هما «أميرة قلبي» و«مش حبيبتك». فأين ذهبت هذه الشاعرة المغمورة على شهرة عملها الجميل؟ هذا أيضا أحد الألغاز والأسئلة التي عدمت جوابها.


إسماعيل البلبيسي: رجل بلا ملامح


أغنية «الغربة» من أبرز النماذج على اﻷعمال التي تجاوزت شهرتها أصاحبها. فالأغنية ذائعة الصيت، يعرفها الكثيرون، وربما يعرفون شكل المطرب من الكليب، والذي تغيب أغلب ملامحه خلف نظارته الشمسية ولحيته الطويلة وشعره المموج، ولكن قليلين من يعرفون اسم «إسماعيل البلبيسي».

«ياما كان منانا نتلاقى ونقرب .. وعشان هوانا برحل وبتغرب»

مرة أخرى يدور موضوع الأغنية عن السفر والغربة، في كليب درامي آخر من إخراج «عماد الدين أديب»، يظهر فيه يظهر إسماعيل البلبيسي حاملا حقائبه الثقيلة التي تحوي ما تبقى من حياته في الغربة، معتمدا عليها بثقله النفسي قبل البدني، يقف على ناصية الطريق متلمسا الوسيلة إلى العودة.

أغنية «الغربة» كانت بحق عملًا فنيًا متكاملًا، وربما كان العامل الأول وراء نجاحها المدوي وقدرتها على البقاء هو الإخلاص الشديد في إخراجها على كافة المستويات، فكلمات الأغنية نقلت بمنتهى الصدق الصراع النفسي الذي يعيشه المغترب، ما بين اغترابه من أجل حياة أفضل، وبين حياته التي تتسرب من بين يديه بعيدا عن أحبته وبيته/وطنه. كتب كلمات الأغنية الشاعر «عنتر هلال»، أحد أهم علامات التسعينيات، وأكثرها إثارة للجدل، فهو نفسه الذي كتب أغنيتي «كمانانا» و«بابا أوبح».

أما اللحن الجميل فكان من تأليف إسماعيل البلبيسي نفسه، ومن توزيع طارق مدكور، الرجل الثاني بعد «حميد الشاعري»، والذي ساهم مع حميد في تكوين الصبغة الموسيقية الخاصة لعقد التسعينيات، ونشأة جيل الـ«هاي كواليتي» مع مطربين أمثال «مصطفى قمر»، و«هشام عباس»، و«محمد محيي»، و«علاء عبد الخالق»، وغيرهم.


اكتفي إسماعيل البلبيسي، الذي تعمد طرح نفسه كمطرب يقدم الأغاني الشعبية الخفيفة التي تميز بها عقد التسعينيات، بألبوم وحيد هو ألبوم «شاهدين»، الذي قام بتلحين كل أغانيه. ربما لم يحظَ الألبوم بنجاح وشهرة الأغنية والكليب، ولكنه جاء مميزًا ومبتكرًا وخاصة على مستوي الألحان. اختفى إسماعيل البلبيسي تمامًا بعد هذا الألبوم واكتفى بالتدريس في معهد الموسيقى، حتى كان ظهوره المفاجئ والغريب في برنامج «صاحبة السعادة» الذي تقدمه الفنانة «إسعاد يونس».

«مجروح وراجع، مدي الإيدين حني.. في الروح مواجع، وانا مين يطمني»

تساقط الشعر الكثيف المموج، وذهبت اللحية والشارب، وتبدلت النظارة الشمسية بأخري طبية، وظهرت ملامح الوجه الذي تسربت إليه التجاعيد وبدت عليه علامات الزمن. صرح البلبيسي أن السبب وراء اختفائه هو قصور الإنتاج، وأنه طوال تلك السنوات لم يتوقف عن التلحين لأعمال لم يكن مآلها الأخير سوى القبوع في أحد أدراج مكتبه.


فؤاد حجاج.. يا أبو الروايح يا نرجس


شهدت الدراما المصرية نقلة نوعية كبيرة وبشكل خاص في عقد التسعينيات. «ليالي الحلمية»، «ذئاب الجبل»، «المال والبنون» وغيرها الكثير من العناوين التي ارتبط بوعي ونشأة أجيال متنوعة، ولكن يبقى أكثر ما علق من هذه الأعمال بذهن المشاهد هي تترات المقدمة والنهاية التي عكف عليها نخبة من الفنانين في مجالات الكتابة والموسيقى والغناء.

وعلى الرغم من أن مسلسل «حديث الصباح والمساء» ﻻ ينتمي زمنيا إلى تلك الحقبة حيث كان إنتاجه في عام 2001، ولكنه ينتمي إليها وجدانيا. وكان تتر المقدمة والنهاية بهذا المسلسل من الأعمال التي جاوزت زمنها واقتنصت البقاء لسنوات وسنوات. وضع الموسيقى للمسلسل وللأغنية الموسيقار الكبير «عمار الشريعي»، وغنتها «أنغام» بشغف يليق بها، أما كلماتها فكتبها الشاعر «فؤاد حجاج».

ياللي انت عايش حياة

بص لها تلقاها

سبحة هنا وتنفرط

بالعمر مانشوفهاش

ولا شيء يعطّر حياتنا يمد فى مداها

غير سيرة عاشت هنا

اكتر صاحبها ما عاش

«فؤاد حجاج» الذي اقترن اسمه، رغما عنه، بالشاعر الكبير «فؤاد حداد» للتشابه الكبير بين الاسمين، لم يحظَ بالشهرة الكافية التي تليق بموهبته الكبيرة وإنتاجه الوفير، حتى محركات البحث الإلكترونية تخلط بين الاسمين، فإذا ما طبعت اسم «فؤاد حجاج» في إحداها، فإن أول ما تطالعه من نتائج هو الصفحة الخاصة بالشاعر «فؤاد حداد» على موقع ويكيبيديا.

لم يكن نقل رواية «حديث الصباح والمساء» إلى عمل درامي بالمهمة السهلة على الإطلاق، فالرواية الأصلية غاية في التعقيد والتركيب، فمن الزخم الفلسفي والروحي، إلى الحالة الصوفية، إلى الجوانب التاريخية والاجتماعية، استطاع «حجاج» أن يأسر روح الرواية، دون أن يغفل أيًا من هذه الجوانب الهامة.

دايرة تدور بالبشر

وياّ الزمان بتفوت

دمعه على اللى مضى

ودمعة فرح للجاي

يا حي طول مانت حي مسيره ييجى الدور

دي حكايه متكرّره من يوم ولادة الضي

حصل فؤاد حجاج على دبلوم الإعلام من الجامعة العمالية عام 1985. إﻻ أن إنتاجه الأدبي سبق هذا التاريخ، فجاء ديوانه الأول «وادي الخوف» عام 1971، ولم يتوقف بعدها عن نشر أشعاره حتى آخر دواوينه «فتافيت الجمر» المنشور عام 2004. وامتد إنتاجه ليشمل العديد من الألوان الفنية، فكتب المسرحية الشعرية، والدراما التلفزيونية، وشارك في الكثير من الأمسيات الشعرية في الجامعات وقصور الثقافة بصبحة صديقه الملحن والمطرب «فايد عبد العزيز»، ولكن على الرغم من هذا الإنتاج الغزير إﻻ أن فؤاد ججاج ظل أسيرًا لهذا المفارقة التي قاربت بين اسمه واسم الشاعر الكبير فؤاد حداد، وأغنيتي المقدمة والنهاية بمسلسل «حديث الصباح والمساء».