يقول علماء النفس إن الإنسان كائن متكيف، وللتكيف الكثير من الطرق، منها الحيل الدفاعية. الحيل الدفاعية هي خدع يقوم بها الفرد بشكل لا واعي كي يبرر تصرفاته أو يتقبل أحداث حياته، هذه الحيل الدفاعية تساعده على حفظ توازنه النفسي. من هذه الحيل مثلًا حيلة الإسقاط التي يستخدمها الفرد للتخلص من آثامه وصفاته السيئة فيلصق كل تصرفاته السيئة بمن حوله، هناك أيضًا حيلة الإنكار، عندما ينفي عن شخصيته صفات أو تصرفات معينة، وهناك الكثير من الحيل الدفاعية الأخرى، كلها يستخدمها البشر كي يستطيعوا الحياة مع تصرفاتهم وقراراتهم ويشعروا بالرضا عن ذواتهم.


شفيقة ضحية الحب

في فيلم «شفيقة ومتولي»، الذي تقوم فيه سعاد حسني بدور شفيقة وأحمد زكي بدور متولي، تقع شفيقة الفتاة الجميلة الفقيرة المعدمة التي تعاني من ظروف معيشية وعائلية صعبة في حب الشاب الوسيم الفاسد الذي يصاحب الغجر ويقيم علاقات مع النساء. يستغل الشاب حب شفيقة ويوهمها بحبه ويتلاعب بها بكل الطرق، حتى تصير شفيقة منبوذة من قومها فتتركهم وتهرب معه ومع مجموعة الغجر، الذين تكرههم شفيقة وتحتقرهم، ولكنها تشعر أنها مضطرة أن تكون جزءًا منهم حتى تظل مع حبيبها بعد أن خسرت كل شيء بسبب حبها له.

كل الشواهد كانت تؤكد أن الفتى لا يصلح للحب، ولن يتزوجها، كل الناس كانت ترى بوضوح أن حبيبها لا يحبها، وأنها سوف تلقى نهاية بشعة على يديه، إلا هي. كانت شفيقة تمارس حيلة الإنكار طوال الوقت وبإصرار مدهش، وعندما عرفت حقيقته وتيقنت من أنه يتلاعب بها، رأت نفسها ضحية فقط، لم ترَ أنها كانت مخطئة وعنيدة ولا تفكر بوضوح، ألقت اللوم كله على الحب ذي المرآة العمياء، وظلت هي بمنأى عن كل التأنيب، العيب في الآخرين، أما أنا فبريئة غرر بها الناس واستغلوا طيبتها وقلبها الكبير.


شفيقة ضحية الظروف

تخرج شفيقة من علاقتها مع الشاب الكذوب لتدخل في علاقة مع رجل ذي هيبة كمحظية في بيته. يطلب الرجل الثري أن يحصل عليها فتفرح شفيقة، تحممها المرأة الغجرية وتعطرها وتعدها بالأموال والذهب والرفاهية والحياة الكريمة. حياة كريمة وهي تعرف أنها جارية فراش. تتجاهل شفيقة كل هذا في مقابل الرغد والثياب والقبعات، للمرة الثانية تتحجج بالحب الذي استشعرته تجاه الثري النبيل، وتمتهن قلبها وجسدها بموافقتها التامة ودون أي ضغوطات من أي نوع هذه المرة.

كانت شفيقة تعرف أنها محظية، وقد عرفتها المرأة الغجرية على طبيعة حياة المحظيات في بيوت السادة، ومع ذلك فقد صدمت شفيقة وتفاجأت عندما طلب منها سيدها أن تقضي الوقت مع صديقه، لم يعدها أبدًا أن تكون زوجته، ولم تتطور علاقتهما عن كونها محظية كما أخبرتها الغجرية، ومع ذلك فقد ألقت اللوم كله للمرة الثانية على الثري المتبختر، وكانت هي للمرة الثانية ضحية بريئة لم تخطئ في شيء وقد تلاعبت بها الحياة مرة أخرى.


شفيقة ضحية الشرف

تقتنع شفيقة في النهاية بعد أن تنتهي منها الدنيا أنها مخطئة، وتعتكف في منزلها في انتظار متولي، أخيها الذي لا بد سوف يعود ويقتلها جراء أفعالها المشينة. تتنقل بين سطح المنزل وبابه وتنظر للأفق في انتظار الخلاص، الخلاص الذي سوف ينهي عذابات الدنيا التي لاقتها، الخلاص الذي سيكون انتقامًا للشرف الذي دنسته، وحتى هنا تظل شفيقة في نظر نفسها ضحية، لا تحاول إصلاح أي مما أفسدته في سنوات، لم تهرب حتى، بل كان الأسهل لها أن تستلم لمجريات الأمور، خاصة وهي لم تطور أي مواهب تساعدها على العيش.

شفيقة قصة من الفولكلور تدور في زمن كانت الفتاة فيه لا تصلح إلا للحب، وللضرورات الدرامية كانت قصتها مليئة بالآلام والخيانات المتعمدة، والضعف الإنساني، ولكن الفن لا يخترع شيئًا غير موجود، على الأقل في هذه القصص التراجيدية، شفيقة موجودة دائمًا وطوال الوقت، شفيقة هي نحن في نقطة ما.


نقطة ورا نقطة يا عذابي يا عذابي


الآخرون سيئون، الآخرون هم الشر المطلق، نحن مجرد ضحايا، في الأغنية الأشهر التي تحكي مأساة شفيقة، والتي أدتها سعاد حسني بتمثيل يحسب لها أنه من أفضل الأداءات التي قدمتها، عندما كانت ترقص متشنجة بهيستريا ونظرة عين جامدة، مع كلمات صلاح جاهين التي تقطر ألم، كان اللوم كله يقع على الآخرين، شفيقة لم تفعل أي أخطاء، سوى أنها كانت تبحث عن الحب الذي حرمتها منه الحياة بقسوة.

نحن دائمًا ضحايا الحياة، حتى لو أخطأنا، حتى لو كسرت شفيقة قلب الشاب الذي أحبها بصدق، وظل حتى النهاية متمسكًا بها، حتى لو تركت جدها العاجز ليواجه مصيره وحده، حتى لو خذلت متولي الذي أحبها أكثر من أي شيء، حتى لو كانت قاسية متبلدة المشاعر تجاه كل من أحبوها واهتموا لأمرها حقًّا، حتى لو كانت تلهث فقط وراء السراب، حتى لو كانت سلبية.

نحن دومًا ضحايا الآخرين، نحن أشخاص طيبون مسالمون وكل ما نفعله في الحياة مجرد ردود أفعال لقسوة الآخرين، اللوم كله يقع على الآخرين وعلى الحياة، أما نحن فمهما فعلنا نظل نظيفي القلوب، هادئي السريرة، لا يشوب براءتنا أي شيء.