يعود الروائي والشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم نصر الله إلى مشروعه المميَّز «الملهاة الفلسطينية» مرة أخرى، ذلك المشروع الذي حمل فيه على عاتقه هم تفكيك قضية فلسطين والتركيز على الجوانب الإنسانية فيها، وذلك منذ كتب «طيور الحذر» 1996 التي تناولت بدايات الصراع العربي الإسرائيلي، وحتى الروايات التي عاد فيها إلى التاريخ ليشرح ويحلل طبيعة الشعب الفلسطيني والعربي وحكاياته الطويلة في سبيل الحفاظ على وجوده وهويته دومًا مثلما في «قناديل ملك الجليل» وغيرها.

ويبدو مشروع «الملهاة الفلسطينية» بشكلٍ عام قابلًا للتشكل والتحول تبعًا للحكاية التي يود إبراهيم نصر الله أن ينتاولها في كل رواية من رواياتها، والتي استطاع من خلالها أن يشكِّل وجدان القارئ العربي المتابع لرواياته، سواء بتسلسل إصدارها، أو بتسلسلها الزمني بدءًا من القرن الثامن عشر الميلادي وحتى الانتفاضة الفلسطينية الثانية في «تحت شمس الضحى» 2000. وفيها يُمكن إجمال حكاية فلسطين وما مر بها من أحداث ومواقف إنسانيًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا.

في رواية «ظلال المفاتيح» يرجع إبراهيم نصر الله بذاكرة القارئ والتاريخ إلى البدايات، قبيل النكبة ومع بداية تهجير الفلسطينيين من أراضيهم وبدايات الحرب عام 1947 ليلتقط مشهدًا خاصًّا لمجندٍ إسرائيلي شاب يوقعه حظه العثر داخل بيتٍ فلسطيني، ورغم أن الحرب دائرة وأن والعداء الظاهر، فإن العرب يمنحونه فرصةً نادرة للحياة، علَّه يتغيَّر أو يتعلم درسًا مختلفًا عما يلقنه إياه قادته من أهمية القتال وضرورة بث الموت. يُفلت المجند الشاب هذه المرة، ويعود ليتوقف كثيرًا عند المشهد الذي غادره.

إن ما يحيرني أنه رغم كل الموت الذي واجهه هؤلاء العرب ويواجهونه على أيدينا، فإن كثيرين منهم لم يتركوا مدنهم، وما زالوا يتمسكون بها، بل إنني أحس كلما عدت إلى البيت من السوق أو من زيارة أن عليَّ أن أبذل الكثير من الجهد كي أستطيع الدخول، لأن تلك المرأة التي كانت تسكنه ما زالت فيه، تحتضنه، تطوقه بذراعيها وتصرخ بي: هذا بيتي، هذا بيتي! لماذا لا يرحلون يا ناحوم؟ ولماذا تفعل تلك المرأة ذلك حتى اليوم، بعد مرور عشرين سنة على طردها منه؟

لماذا؟! لأننا لم نقسُ عليهم بما فيه الكفاية، هذا هو خطؤنا الذي لم يرتكبه أعداؤنا في برلين وسواها.

يقسم إبراهيم نصر الله روايته إلى ثلاث فصول/لقاءات متباعدة زمنيًّا: بدءًا بقبيل النكبة الفلسطينية 1947 حيث اللقاء الأول، ثم ما تلا ذلك في اللقاء الثاني أثناء النكسة 1967، وأخيرًا اللقاء الثالث في 1987. في لقطاتٍ موجزة ومعبِّرة يطوف حول عائلةٍ فلسطينية واحدة هي عائلة مريم «أم جاسر»، وما حدث لهم في هذه السنوات الأربعين، ورغم كل ما حدث من دمارٍ وتشتت وضياع وحروبٍ وألم، فإن مريم لا زالت قادرةً على رسم الحلم وزرع الأمل من «ظلال مفاتيحهم» التي بقوا محتفظين بها في أيام الشتات، حاملين أمل العودة إلى قراهم، قادرين وحدهم على إعادة زرعها وتخطيطها وبنائها من جديد.

في الرواية ثمة مواجهةٌ تبدو غير متكافئة الأطراف، بين القوي الغاصب الغاشم المحتل، وبين صاحب الأرض والحق، بين دعاة الحرب والقتل والدمار، وبين المتمسكين بحقوقهم المستعدين للبذل والعطاء رغم كل ما حولهم من وجعٍ وألم، ولعل الجميل في هذه الرواية القصيرة أن إبراهيم نصر الله لم ينجرف لحكاية تفاصيل يعرفها الكثيرون، عن الحرب الفلسطينية وما جرى فيها خلال تلك الأعوام، وإنما استطاع أن يعبِّر عن دواخل شخصياته بالإشارة والجملة القصيرة المكثَّفة التي تحمل في طياتها الكثير. نجد ذلك بشكلٍ واضح في الحوار الذي يدور بين أم جاسر وأهل القرية، كما نجده في حوارها مع المجند في المرات الثلاث التي يلتقون فيها، كما نجده في الحوار بين ناحوم وأمه.

من جهةٍ أخرى تمثلت براعة إبراهيم نصر الله في رسم المشاهد القصيرة المعبِّرة، وذلك على مدى الرواية من خلال الفصول القصيرة التي تحكي طرفًا من الحكايات من كل طرفٍ من أطراف الصراع، تلك الحكايات التي بدت شديدة الواقعية حينًا، كما مُزجت واقعيتها بالفانتازيا في أحيانٍ أخرى، وفي كل الأحوال كانت تمثيلًا صادقًا للحال الفلسطيني وما يدور فيه، بين رغبة في العودة وقدرة خاصة على المواجهة رغم كل ما يحيط بهم من قتل وموت ودمار.

اقرأ أيضًا:

حرب الكلب الثانية .. هل يفوز إبراهيم نصر الله بالبوكر

هكذا استطاعت الرواية/النوفيلا (لم تتجاوز الـ 140 صفحة) أن تعبر بالقارئ بين الأزمنة المختلفة والحوادث المتعاقبة، وأن تمثل تصويرًا رمزيًّا شديد الذكاء والبساطة للقضية الفلسطينية، وقدرتها على البقاء والصمود في مواجهة آلة القمع والدبابات التي لا تعرف الرحمة، وأن كل ذلك مرهون بإرادة شعبٍ قوي لا تتزحزح، وحتى إن بدا التمثيل في الرواية رمزيًّا وأسطوريًّا فإنه ينهض على مؤشرات واقعية عديدة، تؤكد للجميع الحق وقوته التي لا يمحوها الزمن.

تجدر الإشارة إلى أن «ظلال المفاتيح» هي الجزء الأول من «ثلاثية الأجراس»، والتي تحوي مع هذه الرواية «سيرة عين»، و«دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» والتي صدرت مؤخرًا مكمِّلة لمشروع الملهاة الفلسطينية لإبراهيم نصر الله، متصلة منفصلة في الوقت نفسه، تطرح قضية فلسطين من زوايا مختلفة يتناول فيها الحب والفن، التصوير والغناء، بطولات البشر وحكاياتهم العادية في المقاومة، ويصوِّر من خلالها حكاية فلسطين خلال القرن العشرين.

إبراهيم نصر الله روائي فلسطيني، ولد في الأردن عام 1954، بدأ حياته الأدبية بكتابة الشعر عام 1980 بديوانه «الخيول على مشارف المدينة»، وواصل بعده إصدار عدد من الدواوين الشعرية المميزة، كان آخرها «الحب شرير» عام 2017. كتب روايته الأولى «براري الحمَّى» عام 1985، وأصبح أحد الأصوات الروائية العربية البارزة.

بدأ في مشروع «الملهاة الفلسطينية» عام 1996، بالتوازي مع مشروعٍ روائي آخر هو «الشرفات» عام 2005. حصل على جائزة القدس للثقافة والإبداع عن مجمل أعماله عام 2012، كما حصل على جائزة كتارا في الرواية 2016 عن روايته «أرواح كليمنجارو»، رُشح عدد من رواياته لجائزة البوكر العربية، وحصل عليها عام 2018 عن روايته «حرب الكلب الثانية».