بنهاية شهر يوليو من عام 2018، كان «زين الدين زيدان» يعلن إنهاء رحلته مع ريال مدريد، ليخرج حينها

«كريج بيرلي»

، المحلل بشبكة «ESPN»، ليقول: «ما زلنا لا نعلم إلى أي مدى زيدان مدرب جيد». تخيل؟ بعد 3 ألقاب متتالية لدوري أبطال أوروبا، كان أحدهم يمتلك الجرأة لقول ذلك علنًا.

رحل «زيدان» ثم عاد مرةً أخرى ليفوز ببطولتي السوبر ثم الليجا، ويستمر نفس الطرح، لكن في نقاشات أكثر سخونة وسطحية بين مشجعين يهدفون في النهاية إلى قصف جبهة الخصم، دون النظر إلى التفاصيل. وسواء توصل الطرفان إلى اتفاق أم لا، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، أن «زيدان» هو المدرب الأمثل لريال مدريد، وقد تكون مثالية العلاقة تلك هي السبب في اختلاف التقييم.


إرث الملكي

دعنا نبدأ رحلتنا بالتعرف على الطرف الثابت في العلاقة، وهو النادي، وعلى الأرجح لن نجد أفضل من كتاب

«The Real Madrid Way»

لكاتبه «ستيفين مانديس» -الأستاذ المساعد في المالية والاقتصاد بكلية ريادة الأعمال بجامعة كولومبيا. وكما هو واضح من اسم الكتاب، أننا بصدد التعرف على طريقة الميرينجي الخاصة في تحقيق الفوز، وإحكام السيطرة محليًا وأوروبيًا.

بعد الحديث عن نجاح النموذج الاقتصادي وتفرد العلامة التجارية لريال مدريد من حيث القيمة والانتشار، سيأتي الدور على معرفة ثقافة ومبادئ النادي. لتكتشف أن هنالك ما يسمى بمجتمع ريال مدريد، ويقصد به «ستيفين» أعضاء الجمعية العمومية للنادي، والذي يقترب عددهم من 92 ألفًا، وهؤلاء هم من يقرّون فلسفة النادي الذي يمثلهم.

وفقًا للكتاب فإنهم يريدون أبطالاً داخل الملعب، ورجالاً نبلاء خارجه، يبحثون عن الفوز، لكن بفلسفة هجومية، مصحوبة بالأناقة والجودة (class, style, elegance). الآن، وأنت تحاول إخفاء علامات الدهشة التي ظهرت على وجهك، ستسأل نفسك: هذا فقط كل شيء؟ جميعنا يريد الفوز مصحوبًا بهذه الصفات، فأين الأمر المميز؟

عندما تولى «فلورنتينو بيريز» رئاسة النادي في فترته الأولى، قرر استفتاء الأعضاء حول تلك القيم والمبادئ التي يريدون من النادي تمثيلها، إدارة ولاعبين، وقرر تدوينها في بيان، كي يحول تلك الشعارات الرنانة -التي لا تصلح سوى للانتخابات- إلى ثقافة، تٌشعِر الجماهير بأنهم جزء من شيء أكبر، ومع كل فوز يزيد إيمانهم بها، فيزيد إحساسهم بالتميز.

عقيدة لا غاية


«رامون كالديرون»

، رئيس ريال مدريد بين عامي 2006 و2009، صرح من قبل بأن الفوز في مدريد يجلب شعورًا بالراحة، لا متعة ولا فرح، فقط الراحة، لأن الفوز بالنسبة لهم، تحول لعقيدة وليس هدفًا. وفي نفس السياق، يحكي

«إيتور كارنكا»

، مساعد مورينيو في ريال مدريد، عندما انضم كلاعب للنادي الملكي في عام 1997، وفاز مع الفريق ببطولة السوبر، دخل غرفة خلع الملابس ليكتشف عدم وجود احتفالات، لأن بطولة السوبر أصغر من توقعاتهم.

وانطلاقًا من هذه المواقف، بدأ المعتقد في الانتقال للجماهير والمحللين. قبل تحقيق ريال مدريد للقبه الثاني عشر في دوري الأبطال، على حساب يوفنتوس، تحدث الصحفي بشبكة «سكاي سبورتس»، «آدم باتي»، عن

فلسفة الفوز لريال مدريد

، وقال إنها واحدة من أكثر فلسفات كرة القدم، غير المقدرة حق قدرها.

وإن قررت مراجعة تاريخ كرة القدم، فستكتشف صحة ذلك، لأنك لن تجد اسم ريال مدريد مدرجًا رفقة أندية ومنتخبات عدة أضافت جديدًا لتكتيكات كرة القدم، من المجر في جيلها الذهبي إلى ميلان-ساكي والكرة الشاملة لأياكس وكاتيناتشو انتر ميلانو وصولاً ببرشلونة كرويف ثم جوارديولا. فقط، ستجد اسم ريال مدريد ضمن لائحة الفائزين، وهو المطلوب.

ذلك النوع من الهوس وإن كان أحيانًا يقود النادي إلى قرارات إدارية وفنية غير صائبة، إلا أنه شكل العنوان العريض لإدراة النادي، نحن نفوز لأننا ريال مدريد، اللاعبون الأفضل يأتون لنا لأننا ريال مدريد، لا نفوز بفضل مدرب أو لاعب أو إحصائيات تقودنا لاكتشاف المجهول.

من نسبوا الفوز لكريستيانو، كانوا محبيه الذي وفدوا لتشجيع الفريق معه، أما مشجعو البرنابيو فهم لم يتوانوا في إطلاق صافرات الاستهجان عليه عندما شعروا بتقصيره. أما من ينسبون الفوز لزيدان، ففقط هم محبو الأسطورة صاحب الكاريزما، لكن زيزو لم ولن يتجرأ على فعلها.

وتظل فترة جوزيه مورينيو الاستثناء الوحيد لذلك، لأن النادي كان مضطرًا لتعطيل مبادئه مؤقتًا وتسليم البرتغالي مفاتيح كل شيء تقريبًا، لمحاولة اللحاق ببارسا جوارديولا، الذي زين ثلاثيته بالفوز على الملكي في البرنابيو بستة أهداف مقابل هدفين.

لماذا زيزو تحديدًا؟

يمكن القول إن طبيعة ريال مدريد لم تكن مشكلة في اختيار اللاعبين لأنك ببساطة ستحاول جلب الأفضل، لكنها كانت كذلك في اختيار المدربين.

في تصريح لصحيفة

«The Athletic»

الإنجليزية، قال أحد مساعدي مدرب سابق لريال مدريد -رفض ذكر اسمه- إن جودة اللاعبين في ريال مدريد تمكنهم من الفوز في 80% من مباريات الموسم بأنفسهم، لكن الـ 20% الباقية، هي ما يمكنها رفع أسهم المدرب عاليًا أو العكس.

بعض المدربين مثل مورينيو وبينيتز، يريدون أن يكونوا أبطال الرواية بفضل تكتيكهم، أما زيدان وديل بوسكي فكانا العكس تمامًا، يتركون الواجهة للاعبين، ويكتفون بإدارتهم، وضبط غرورهم وأذهانهم من وراء الكواليس. ديل بوسكي وزيدان كانا الأفضل على المستوى النفسي.






رامون كالديرون

، الرئيس السابق لريال مدريد

إن ربطت ما سبق مع نمط اختيار المدربين في الآونة الأخيرة، ستجد أن الميرينجي جلب مورينيو المتزمت تكتيكيًا، ثم أنشيلوتي لتهدئة الأوضاع، ثم رحيله لأن الأوضاع

هدأت أكثر من اللازم

، ليأتي رافا بينيتز الذي يشبه مورينيو بعض الشيء، ثم زيدان لإرخاء الأمور، وهكذا. لا يوجد تخطيط واضح، فقط علينا إخراج الأفضل من اللاعبين في هذه اللحظة الحالية، لكن مع زيدان، اختلف الوضع.


عاصر زيدان فلورنتينو بيريز كلاعب وكمدرب للفريق الثاني وكمساعد لأنشيلوتي، وقد مكنه ذلك من إدراك طبيعة النادي التي ذكرناها سابقًا، وفهم غرفة خلع الملابس، من كافة الزوايا. أتعرف تلك اللوحة التي تظهر في مسلسلات البحث عن الجريمة، عندما تعلق عشرات الصور، وترسم العديد من الخيوط، لتقود البطل في النهاية من مطاردة هدفه؟ هكذا فعل زيدان.

كل تفصيلة مر بها زيزو، بدت وكأنه يستحضرها لدفع تجربته في ريال مدريد نحو النجاح. لنبدأ بالإدارة، فهو يدرك أن ريال مدريد لا يمنح مدربه السلطة المطلقة التي ينالها كلوب أو جوارديولا، لذلك عليه تجنب الصدامات، وإن لم يستطع كما حدث عند فشل صفقة بوجبا، فلا يجب هد المعبد على من فيه.

أما فيما يخص اللاعبين، فقد تأثر زيدان بالإيطالي

مارشيلو ليبي

عندما كان لاعبًا ليوفنتوس. ورغم صرامة ليبي التكتيكية إلا أنه كان يمنح اللاعبين المميزين بعض الحرية على أرض الملعب، يضع لهم الخطوط العريضة، دون ثقل كاهلهم بأكثر من ذلك ما لم تقتضي الحاجة.

وبما أن أيامه كلاعب في ريال مدريد لم تكن الأنجح مقارنة بحجم الأسماء الموجودة وقتها، قرر زيدان أن يتلافى الخطأ الذي قاد الجلاكتيكوس الأول إلى الفشل، باعتبار كاسيميرو واحدًا من أهم اللاعبين لديه، وكأنه يخبر بيريز، لو لم تفرط في ماكيليلي لحققنا مثل ما نحققه اليوم.


ونأتي للتفصيلة الأهم، والتي اقتبسها من معاصرته للثنائي ديل بوسكي وأنشيلوتي، حيث أدرك تمامًا أبعاد أهمية التعامل النفسي مع اللاعبين، وتفضيله أحيانًا على الخطط والفنيات، في حالة ارتفاع جودة اللاعبين. والأهم من ذلك ألا تحاول تصدر المشهد، تذكر، ريال مدريد يفوز لأنه ريال مدريد.

كل هذا جعل العلاقة بين زيدان وريال مدريد أقرب للمثالية، وهو أمر لم يحدث مع أي مدرب آخر، لأن هذه الظروف لم تتوفر لأحدهم. ومع كل إنجاز يطلب فيه الجميع بصمة تكتيكية من زيدان، سيتركهم يكتشفون أنهم يطلبون من الشخص الخطأ، ومن النادي الخطأ، حتى تحين اللحظة التي يكتشفون فيها، أنهم لم يكونوا يشيدون بالسير أليكس فيرجسون لتكتيكه بل لإدارته.

اقرأ أيضًا:

مدير أم مدرب: هل يمكن لفريقك الفوز بدون تكتيك؟