انعقدت العلاقة بين الموسيقى والدين من جهتين: جهة موسيقى الدين، وجهة دين الموسيقى. يعبِّر مفهوم «موسيقى الدين» عن الموسيقى التي يَقبلها الدين، وربما «يَعتمدها»، ويُوظِّفها للتعبير عن المشاعر الدينية، والمقامات، والأحوال الصوفية؛ من الحب، والحمد، والرجاء، والخشية، والوجد، والفناء. أما «دين الموسيقى» فهو حالة نادرة، يعبر عن تحوُّلِ الموسيقى في دين من الأديان إلى جانب أساسي من العقيدة والطقوس، لا يتم هذا الدين من دونه.

وهي علاقة أكثر تعقيدًا من ذلك؛ فموسيقى الدين ليست من قبيل المتفق عليه في الديانة الواحدة. صحيح أن أغلب الديانات القائمة اليوم تستعمل الموسيقى أحيانًا كلغة للتعبير عما لا يمكن للغة التعبير عنه، ولكن مذاهب الديانة الواحدة تختلف في درجة تقبلها للموسيقى، ونوع الموسيقى المقبولة، وكيفية توظيفها. فمثلًا لا يستعمل أغلب المسلمين موسيقى الآلات للتعبير عن المعاني الدينية، ويقتصرون على القراءات المنغمة للقرآن، وبعضهم يُحرِّمها كليةً، بينما يستعملها صوفية الإسلام والباطنية، ووضع لها بعضهم مؤلفات موقوفة عليها، مثل إخوان الصفا كما سنتعرض. ولا يتعلق الطرح الحالي بقضية تحريم الموسيقى؛ فابن حزم مثلًا أجاز الموسيقى بشروط، ولكنه لم يقل باستعمالها في التعبير عن معاني الدين نفسه، أي لم يتعرض لتوظيف الدين للموسيقى لصالحه، وبالتالي يخرج من مجالنا.

الإسلام والمسيحية

تطورت علاقة الموسيقى بالدين في مسار متعرج ووعِر من جهة، ومتميز من جهة أخرى. إن الدين عمومًا، كالإسلام مثلًا، لم يشتبك مع أي من الفنون قدر اشتباكه مع الموسيقى. يظهر الفن التشكيلي في الإسلام في فن الخط، والزخرفة، والعمارة، ويظهر الأدب في القرآن نفسه، وفي الحديث النبوي، والحديث القدسي، وشِعر صدر الإسلام، ونجد الفن الديناميكي، فن الحركة، نوعًا في تزامُن المصلين في المساجد، وحركة الطائفين بالكعبة عكس عقارب الساعة دائمًا.

لم يقم الإسلام، على الأقل في أغلب مذاهبه، بتحريم الفن التشكيلي، أو الأدب، أو فن الحركة. حرَّم بعض الفقهاء أنواعًا معينة في هذه الفنون، ولكنهم لم يصلوا إلى تحريم أي منها كليةً. لكن الحال مع الموسيقى مختلفة؛ فقد أفتى البعض بحرمتها التامة، وحتى القراءات المنغمة للقرآن يحرمها بعض الفقهاء تحريمًا قاطعًا.

ولم يقتصر هذا الموقف من الموسيقى على الإسلام، فقد أفتى القديس الكاثوليكي توما الأكويني بحرمة الموسيقى في حرم الكنيسة. في «الخلاصة اللاهوتية» يصل توما الأكويني، الذي يتقاسم مع أوغسطين المكانة الأسمى في الفلسفة المسيحية بأسرها، إلى أعلى درجات القطع في منع استعمال المعازف في حرم الكنيسة، حتى لغرض الثناء على الله.

يرى الأكويني أن الله يجب ألا يحمَد بالموسيقى والغناء؛ حيث يتعارض ذلك مع قداسته. ويعتبر الموسيقى عنصرًا دخيلًا على الطبيعة المقدسة في الترانيم الدينية يجب الخلاص منه، لحفظ صفاء الجوهر القدسي. وبحسب رأيه فإننا حين نحمد الله علينا أن نحمده بالقلب لا باللسان أو بأي صورة مادية أو جسمية. ويستشهد في ذلك بمنع جريجوري العظيم للغناء في المذبح، ويضيف الأكويني أن الله قد أُثني عليه في العهد القديم بالغناء، أما في عهد الكنيسة فيجب ألا نتشبه باليهود.

إن الثناء بالقلب – بحسبه – أَولَى من الثناء بالشفتين؛ حيث تعوق الشفتان القلبَ عن الإخلاص، ويتشتت انتباه المغنِّين عن المعنى المقدس لصالح جماليات الأداء وتفاصيل اللحن. وفي النهاية يقتبس نصًّا للقديس أوغسطين من «الاعترافات» لدعم قضيته. أما أوغسطين فهو يروي في «الاعترافات»، في فقرة شهيرة، لحظات ندمه حين تشغله الموسيقى الدنيوية عن خواطره الدينية، وكيف يتغلب على «متعة السماع» عن طريق التقوى.

اليهودية والبوذية

أما في اليهودية فنجد في «الرُّدود  Responsa» يعرض موسى بن ميمون (ت 1204 م)، الفيلسوف اليهودي الذي يُقارَن بفيلون السكندري في الأهمية، ذلك النص المقدس من التلمود، الذي يحرِّم الموسيقى والغناء على اليهود قطعيًّا، سواءً استعملت في الغناء الآلاتُ أو اكتفي فيه بالأصوات البشرية. ويرى أن الهدف من هذا التشريع هو حماية نقاء الروح من الشهوة. لكنه يعود لملاحظة أن الموسيقى قد تكون مفيدة لبعض البشر، ولكن بشرط أن تكون موسيقى (صحيحة).

وفي البوذية حذَّر بوذا تلاميذه من الأغنية/التعويذة chant، وذَكر أنه كان يتجنَّب شخصيًّا حضور الأداءات الموسيقية. ولكن تبلور الموقف العدائي مِن الموسيقى في البوذية بعد وفاته، وبعد أول انقسام كبير في البوذية إلى الطوائف الثلاث: الماهايانا (الناقلة الكبرَى)، والهينايانا (الناقلة الصغرى)، والتيرافادا (عقيدة القدماء)، اعتبرتْ التيرافادا الموسيقى لذةً حسية جسدية (وهو تعبير سلبي في البوذية)، وأن على البوذيين التعامل بحذر شديد معها.

الخوف من الموسيقى: البشرية والمُباشَرة

إذن فقد تعاملت غالبية الديانات الكبرى اليوم بريبة تجاه الموسيقى بالذات، وبدرجة –إن لم تكن بنوعية – أكثر تطرفًا مما هي عليه مع بقية الفنون. والسبب في ذلك يرجع للموسيقى نفسها. لقد عرف المفكرون منذ زمن طويل، مما قبل سقراط في القرن السادس قبل الميلاد، تميُّزَ الموسيقى عن سائر الفنون في خاصيتين: كونها صناعة بشرية خالصة من جهة، وكونها تؤثر في المشاعر تأثيرًا مباشرًا بلا وسائط ذهنية.

الموسيقى صناعة بشرية خالصة؛ فهي غير تلقائية، غير قائمة في الطبيعة. إن أقصى ما يمكن أن نتعرفه كموسيقى في الطبيعة هو نغمات الطير، التي قد تبدو لنا ساحرة، وعجيبة، لكنها مهما كانت مبهرة فهي ليست موسيقى؛ لأن الموسيقى لا تقوم على بضع نغمات عشوائية، فهي فن معروف بالنظام، أي إنه يظهر في حالة النظام، بخلاف كل الفنون الأخرى.

من تعريفات الموسيقى أصلًا أنها الصوت الذي لا هو بكلام، ولا هو بضوضاء، أي الصوت غير اللغوي المنظَّم. وهذا النظام النغمي، أي المقام، والنظام الزمني، أي الإيقاع، لا يمكن أن يتواجد في الطبيعة دون منظِّمٍ واعٍ فعَّال. أما سائر الفنون الأولية، التي لا تعتمد على مزج فنين أو أكثر، فقادرة على التوالد التلقائي؛ فالمعمار موجود في شكل خلايا النحل، والبلورات، وأشكال الصخور، والقواقع والمحار … إلخ. والتصوير قائم في مَشاهد الطبيعة، والفن الديناميكي ظاهر في حركة أسراب الطيور، والأسماك، والموج، والسحاب.

كما أن الأدب، شعرًا ونثرًا، موجود في كلامنا اليومي بمحض الصدفة، حتى لو لم نتعمده. بعض الجمَل العفوية منظومة نظمًا تلقائيًّا حسب بحور الشعر. هذه العبارة الأخيرة نفسها: «بعض الجمَل العفوية منظومة نظمًا تلقائيًّا حسب بحور الشعر» موزونة على بحر المتدارَك. بعض آي القرآن منظومة تلقائيًّا «قل هو الله أحد» على بحر الرمَل، «ولم يكن له كفوًا أحد» على بحر الرجز.

بالتالي كل الفنون يمكن أن تتواجد تلقائيًّا في الطبيعة، وفي المجتمع، دون قصد منَّا، إلا الموسيقى. الموسيقى وحدها صنعة بشرية خالصة، وإضافة إنسانية محضة. وهذا نفسه كان سببًا في التخوف منها؛ فهي «إضافة» على الطبيعة التي خلقها الله. إضافة لم يخلقها الله بشكل مباشر على الأقل. وهو ما يكسب الموسيقى عمومًا طابعًا شيطانيًّا، تخوف منه رجال الدين، والفلاسفة، في العصر القديم، والعصر الوسيط.

لكن السبب الأهم في التجريم الديني، الكلي أو الجزئي، للموسيقى هو طريقة تأثيرها على الشعور البشري. إن الشعر مثلًا قد يحدث أثرًا هائلًا على القارئ أو السامع، لكنه يتم من خلال فكرة محددة، ينقلها النص. وكذلك سائر الفنون الأولية والمركبة؛ مثل السينما، والمسرح، واللوحة الفنية، والعمل النحتي، والأوبرا، والباليه، ولكن الاستثناء هنا هو الموسيقى والعمارة، وما يتبع العمارة من تصميم وزخرفة ومقرنصات ومنمنمات. وهذا الاستثناء بسبب أن كلًّا من الموسيقى والعمارة لا ينقل فكرة أصلًا.

مع ذلك تختلف الموسيقى عن العمارة بصدد التأثير الشعوري؛ فالعمارة لا تحدث أثرًا شعوريًّا، بل عقليًّا، حين نتأمل هندستها، وتناظُرَ عناصرها، وتناسبها، وعلاقة الكتلة بالحمل والجاذبية. وإذا أحدثت العمارة في أحدنا أثرًا شعوريًّا فإن هذا بسبب علاقة العمارة بالتاريخ، لا العمارة نفسها. العمارة فن تاريخي في جوهره، موضوع ليبقى لأطول فترة ممكنة، وليلخص لنا مرحلة تاريخية معينة. وحين يتأمل المغترب العربي مثلاً مسجدًا على طراز مملوكي في بلد الغربة، فإنه قد يشعر بالحنين، والفقد، لكنه لا يستقبل أية منبِّهات شعورية من العمارة نفسها، إنه يُحيل العمارة إلى تاريخها، وهذه الإحالة تعني أنه في تلك اللحظة لا ينظر للمعمار، بل إلى ما يعبر عنه من تاريخ.

أما الموسيقى فهي تتميز عن كل الفنون، بما فيها العمارة، في خاصية الأثر الشعوري المباشر بلا وسيط ذهني. وهذا ما جعلها «خطِرة» بشكل ما؛ فهي قادرة على تغيير الحالة النفسية للسامع دون أن تحمل فكرة. وهي النقطة التي توقفت عندها فلسفة الموسيقى في كل عصورها: هل يمكن للموسيقى أن تحمل مضمونًا؟

أجاب غالبية فلاسفة الموسيقى أن الموسيقى شكلٌ بلا مضمون، ومع ذلك فهي أكثر الفنون قدرة على الانتشار (بسبب أن الصوت ينتقل في شكل فقاعة في كل الاتجاهات، أما الضوء فينتقل في خطوط مستقيمة)؛ فكي نرى لوحة علينا أن ننظر إليها، وكذلك العمارة، والسينما، والمسرح، والأوبرا، أما الموسيقى فقد تتسرب إلى عقر ديارنا مغلقة الأبواب، والنوافذ. ولأنها لا تحمل أفكارًا، فهي «متعة بلا ثقافة» كما قال كانط، يعني أنها لذة لا تحمل لنا فكرة ذات قيمة. ولهذا أعلى كانط وهيجل من شأن الشعر على حساب الموسيقى. وقبلهما فعل ذلك فيلسوف مصر أفلوطين. ومع كل ذلك فإن انتشار الموسيقى أكبر من كل الفنون؛ بسبب طبيعة الصوت نفسها.

النزعات الباطنية في الإسلام

لهذين
السببين: كون الموسيقى صناعة بشرية خالصة من جهة، وكونها تؤثر في المشاعر تأثيرًا
مباشرًا بلا وسائط ذهنية، فقد اعتقد لاهوتيون وفقهاء وفلاسفة في خطرها على
المشاعر، بسبب قوة أثرها وانتشاره، لا بسبب أنها تنقل دائمًا مشاعر سلبية.

لهذا
كذلك فقد احتضنت الاتجاهات الصوفية والباطنية عمومًا الموسيقى كلغة للتعبير عن
العلاقة مع المقدس تتجاوز قدرات اللغة الرمزية. ولكن كيف نعتبر الموسيقى لغة، وهي
التي لا تنقل أفكارًا؟ إجابة السؤال هي كذلك إجابة: لماذا احتضنتها المذاهب
الروحانية؟

الإجابة هي: أن للموسيقى نظامًا داخليًّا، يظهر في اللحن، والإيقاع، وربما تفاعُل الألحان، ولكنه نظام محض، لا ينتظم فيه شيء محدد، ولا ينقل لنا فكرة محددة، لها وجود موضوعي، يمكن أن نقولها، شفاهةً أو كتابةً. وبالتالي فهي اللغة التي لا يمكن أن نتكلمها أو نكتبها. ولهذا صارت قناةً للتعبير عما هو غير محدود، أو متجسِّد، أو قائم في الأعيان، مثل ذات الإله، أو الروح، أو أي مبدأ قدسي، يريد المتصوف التعبير عنه.

وربما كان أفضل ما وصلنا من المذاهب الباطنية الإسلامية في الموسيقى من جهة التكامل والعمق هو «الرسالة الخامسة: في الموسيقى» من رسائل إخوان الصفا. ونقرأ في هذه الرسالة تعريف إخوان الصفا للموسيقى: «ماهية الموسيقى […] ألحانٌ مؤتلِفة، ونغمات متَّزنة، لا تَحدُث إلا مِن حركات متواترة بينها سكنات متتالية».

الموسيقى لدى إخوان الصفا ذات طبيعة خاصة: «كل المصنوعات الهيولى الموضوعة فيها أجسام طبيعية جسمانية إلا الموسيقى؛ فإن الهيولى فيها كلها جواهر روحانية، وهي نفوس المستمعينَ، وتأثيراتها فيها». وتعنى «المصنوعات» في اصطلاح الفلسفة الإسلامية ما هو حادث، أي مخلوق، لا خالق، وبالتالي يتحدث النص هنا عن كل المخلوقات؛ فإنها جميعًا تتكون من مادة محسوسة إلا الموسيقى؛ فهي المخلوق الوحيد، الذي هو روحاني في مظهره، وجوهره، وقوامها نفوس المستمعين نفسها، وآثارها فيها.

ويؤمن إخوان الصفا بأثر الموسيقى على النفس، وعلى الأخلاق، والأفعال، وذلك بناء على ما سبق أيضًا من وصفهم لماهيتها. يعقد المؤلفون مشابهة بين الجسم والنفس فيما يتعلق بالأثَر؛ فكما يؤثِّر الصانعُ على المادة، أي الجسم، بفعل مادي، فإن الموسيقار يؤثر على الروح بفعل روحاني: «لصناعة الموسيقى تأثيرات في نفوس المستمعين مختلفة كاختلاف تأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعاتهم».

هذا هو ما أهَّل الموسيقى في رأيهم لتصير في أحايين كثيرة وسيلة للتواصل مع الله في الإسلام والمسيحية؛ فاللحن الحزين يناسب الدعاء، واللحن الفرح يناسب الشكر. الفكرة هنا أن التواصل مع الله طبقًا لمذهبهم هو تواصل روحاني؛ لأنه بين روحين، والموسيقى هي لغة الأرواح في هذا المذهب. والنفوس لديهم أسرع استجابة للنغمات من الكلمات، رغم أن النغمات أبسط، وليس لها حروف، أو معجم، وذلك أن النفوس –بتعبيرهم – جواهر روحانية بسيطة. والمقصود بالبساطة هنا في اصطلاح الفلسفة هو ما لا يقبل الانقسام إلى ما هو أبسط منه، وبالتالي فهو غير مركَّب، ولأنه غير مركَّب فهو خالد في الحقيقة، لأن ما يتحلل لا بد من أن يكون مركَّبًا من أجزاء أبسط، يمكن لها أن تنحلَّ. وعلى أية حال لا يدرك كل الناس الخاصية الروحانية في الموسيقى، ومعانيها الرمزية، إنما يدركها فقط الزهَّاد أصحاب النفوس الصافية والبريئة من الشوائب البهيمية.

إن قولهم بأنها موجود روحاني بحت غير واضح بذاته، وأقرب
إلى عقيدة نازلة من فلسفة صاعدة. على كل حال فهذا الطرح من إخوان الصفا يدخل كذلك في
نطاق موسيقى الدين، فالموسيقى لديهم ليست جانبًا من الديانة، بل هي نوع من الرياضة
الروحية.

دين الموسيقى

دين الموسيقَى بامتياز هو الهندوسية. إن الترانيم المسيحية، أو القراءات المنغمة للقرآن في الإسلام، مثلًا، ليست ركيزة من ركائز الديانة. يمكن أن نقول عنها إنها نغم مُصاحِب، أو «نشاط له طابع ديني»، ولكنها في جميع الحالات ليست عقيدة، أو طقسًا أساسيًّا في هاتين الديانتين. لكن الحال مختلفة لدى الهندوس بدرجة واضحة، وهو ما سيتبين لنا من بحث مفهوم «أُوم».

يمكن القول إن مفهوم الأُوم OM هو أهم مفاهيم الهندوسية، وعنه تتفرع عدة مفاهيم أخرى مهمة. وهو عند الهندوس رمز لجوهر الحقيقة والكون. وهو يتكون من حيث النطق من ثلاثة مقاطع هي – بالعربية – الألف، والواو، والميم، أو بالإنجليزية O, U, M. وهي ترمز بدورها إلى عدة مستويات من الثالوث: ثالوث العوالم الثلاثة: الأرض، والهواء، والسماء، وثالوث الإنسان: الفكر، والكلام، والفِعْل، وثالوث حالات المادة: الخير، والعاطفة، والظلام، وثالوث النصوص الفيدية: رِجْ-فيدا، وياجورْفيدا، وسامافيدا.

ما يعنينا على الأكثر في هذه الثالوثات هو النص الأخير «سامافيدا»، والذي يعني حرفيًّا: عِلم الأغنية، من «ساما» بمعنى أغنية أو ترنيمة، و«فيدا» بمعنى العِلم. ولا يقصَد بالعلم هنا العلم النظري، أو نظرية الموسيقى مثلًا، بل العلم بمعنى المشاهدة، وهو الجذر الهندوآري نفسه، الذي منه الفعل اللاتيني vidēre الذي يعني الرؤية.

وقد وضع السامافيدا نحو عام 1000 قبل الميلاد، ويعتقَد بين الهندوس أن ترانيمه –خاصة في الهندوسية المبكرة – لها قوة خارقة، قادرة على التواصل مع الآلهة، والتحكم في قوى الكون. كان يعتقد أن لمثل هذه الترانيم قوة مغناطيسية تجذب الآلهةَ إلى من يترنم بها. وفي السامافيدا اتصل مفهوم الأُوم بالنغم منذ بكارة استعماله، حيث لا ينطَق فيه الأوم إلا منغَّمًا، إلا إذا كان همسًا غير مسموع. ولا يمكن تنغيمه بوليفونيًّا، بل لا بد أن يكون أحادي النغم (مونوفونيًّا). ومن هنا كانت الموسيقى الهندية مونوفونية بالأساس، ومن هنا قلنا إن الهندوس يهتمون باللحن أكثر من الهارموني.

ولنقرب ذلك إلى الأذهان يمكن لنا أن نقارن الأوم بالكلمة في المسيحية والإسلام، فقد تجسدت الكلمة، اللوجوس، في الديانتين على هيئة السيد المسيح، في شكل شخص حيٍّ، أما الأوم، أو الكلمة الهندوسية، فقد تجسدت في الموسيقى. وهو فارق واضح. الفرق بين الأوم واللوجوس أن اللوجوس «كلمة حاملة لفكرة» في أصلها الإغريقي، لكننا لا نعرف ما هي، أو ماذا تقول، ولا يشترط فيها التنغيم. أما الأوم فهي كلمة منغَّمة معينة، بقطع النظر عن مدى الغموض والاختلاف في معناها، وتحمل كما أسلفنا معاني ثالوثات متعددة.

وإلى حدٍّ أبعد يعتقد الهندوس أن الأوم هو أصل الطبيعة نفسها، وأن الطبيعة عبارة عن تَمَوْضُع objectification للمقطع أوم. ومن هنا نفهم علاقة الموسيقى بالطبيعة المحسوسة عند الهندوس. وبدرجة أكبر من الجذرية يعتقد الهندوس أن البراهما، الإله الخالق، هو الذي صاغ قواعد الموسيقى الهندية، ثم قامت الإلهةُ ساراسْفاتي Sarasvatī برعاية الموسيقى، والإشراف عليها.

ويعتقَد في الهندوسية أن لبعض الآلهة صوتًا محددًا؛ فالإله فِشْنو، وهو «الحافظ»، أي الذي منه يكتسب العالَم تَماسُكَه، له صوت الصدَف، أما كريشنا، أهم تجلياته، فله صوت الفلوت، أو الناي. هذا بينما يَعزف شيفا، إله التفكك والدمار، على الطبل، أثناء رقصة تفكُّكِ العالَمِ.

لهذا يمكن أن نعد الهندوسية دينًا للموسيقى، لعبت فيه النغمة دور الكلمة، وارتفعت فيه الموسيقى إلى مكانة تربو على التحريم الكلي، أو الجزئي، أو أي محاولات للسيطرة والتوظيف النفعي.


المراجع



  1. Thomas Aquinas,

    Summa Theologica

    , Part II-II (Secunda Secundae), trans. by Fathers of the English Dominican Province, Benziger Brothers, New York, Second Article [II-II, Q. 91, Art. 2]: «Whether God Should Be Praised with Song?».
  2. St. Augustine,

    The Confessions

    , translated and annotated by J. G. Pilkington, Book X, Ch. XXXIII, Edinburgh : T. and T. Clark, p. 272.
  3. Raymond L. Weiss,

    Maimonides’ Ethics: The Encounter of Philosophic and Religious Morality

    , University of Chicago Press; 1991, p. 79.
  4. Guy L. Beck (Editor),

    Sacred Sound:


    Experiencing Music in World Religions

    , Wilfrid Laurier University Press; Ontario, Canada, 2006, p. 173.
  5. إخوان الصفاء وخلان الوفاء: الرسالة الخامسة (في الموسيقى)، من القسم الرياضي، رسائل إخوان الصفاء وخِلَّان الوفاء، ج1، مؤسسة هنداوي سي آي سي، ص 168.
  6. Guy L. Beck, «Sacred Music and Hindu Religious Experience: From Ancient Roots to the Modern Classical Tradition»,

    Religions,

    2019, 10, 85; doi:10.3390/rel10020085.