حين أغار إمبراطور بيزنطة على المسلمين في عمورية بآسيا الصغرى (تركيا الحالية) صرخت سيدة: «وامعتصماه» حين اقتادها جنوده إلى السجن، فوصلت صيحتها عن طريق رجل هرب إلى سامراء حيث يقيم الخليفة العباسي المعتصم، فغضب وأرسل رسالة إلى أمير عمورية قائلًا له:

من أمير المؤمنين إلى كلب الروم: أخرج المرأة من السجن، وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي.

فلم يستجب الأمير الرومي وانطلق المعتصم بجيشه وفتح المدينة الرومية، وأخرج المرأة من السجن وقال لها:

هل أجابك المعتصم؟ فردت: نعم.

الرواية تبدو أسطورية، بها من الخيال أكثر من الحقيقة بكثير، ولكن إعجاب خطباء المساجد والدعاة المسلمين بها، كمعبر عن قوة الدولة الإسلامية واستعلائها على أوروبا في ذاك الزمان تجعلهم يرددونها، رغم عدم موثوقيتها التاريخية.

فالمؤرخون الثقات ينقلون كلامًا مختلفًا تمامًا عن غزو عمورية، التي لم تكن أرضًا للخلافة بالأساس وقتها، ولا يقيم بها مسلمون من الأصل، بل كانت مدينة بيزنطية.

وبصرف النظر عن أسطورية الرواية، فإن المتأمل في غزو عمورية يجد أن العصبية الإمبراطورية ودسائس السياسة كانت تحيط به من أوله لآخره، سواء داخل الإمبراطورية البيزنطية أو داخل الخلافة العباسية، بدليل أن المعتصم لم يفتح عمورية كما يرددون، بل انتقم من أهلها وأهلكهم، ولم يضمها لأرض الخلافة أو ينشر الإسلام بين أهلها.

ما ملابسات غزو عمورية، وكيف كان الصراع على الحكم داخل الدولة الإسلامية، والصراع على الحكم داخل الدولة البيزنطية محركًا لهذا الصراع وحاسمًا له؟ هذا ما نوضحه في سطورنا التالية.

المسلمون هم البادئون

كان الخليفة المأمون (تـ218هـ – 833م) قد دعم ثورة توماس الصقلبي ضد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني، حيث عقد معه صفقة تقتضي الاعتراف به إمبراطورًا على بيزنطة، في مقابل التنازل عن بعض الثغور البيزنطية المتاخمة لأراضي دولة الخلافة.

وكان توماس قد عاش في بلاد الشام بين المسلمين أكثر من 10 سنوات هاربًا من سلطات بيزنطة، وحين تمرد كان من بين قواته جنود من العرب والفرس والأرمن، وكل هؤلاء كانوا أبناء الأراضي الخاضعة للمسلمين، بل وأعلن بطريرك أنطاكيا الخاضع لسلطة الخليفة العباسي مباركته تولية توماس الإمبراطورية.

وبعد أن سيطر توماس على آسيا الصغرى (تركيا الحالية) حاول غزو القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية عام 821م فانهزم ووقع في قبضة الإمبراطور الذي عذبه حتى الموت.

كان ما سبق مستفزًا للإمبراطورية البيزنطية، وزاد الطين بلة حين نزل الأندلسيون إلى جزيرة كريت في البحر المتوسط عام 827م، ثم غزو القائد العباسي زيادة الله بن أغلب جزيرة صقلية، وهي من أملاك الإمبراطورية البيزنطية.

في هذه الأثناء توفي الإمبراطور ميخائيل الثاني، وتولى الحكم ابنه ثيوفيل أو «ثيوفيلوس» عام 829م – 214هـ، والذي وجد أن عليه مواجهة العباسيين، حفاظًا على إمبراطوريته الآخذة في التآكل.

فعل ثيوفيل مع العباسيين نفس ما فعلوه معه، فتحالف مع بابك الخرمي الفارسي المتمرد على الدولة العباسية، الذي كان قد انفصل بأراض تابعة للخلافة، وأسس دولة باسمه في مناطق من أذربيجان وإيران الحالية.

وقامت بين المسلمين والبيزنطيين المتحالفين مع الخرمية معارك مختلفة في آسيا الصغرى، حتى توفي الخليفة المأمون وجاء من بعده أخيه المعتصم، الذي حاول تهدئة الأمور مع بيزنطة ليتفرغ لمحاربة المتمردين الخرميين.

ولكن الهزائم المتولية للخرمية واستنجاد زعيمهم بابك الخرمي بإمبراطور بيزنطة ثيوفيل، المتوجس من زحف العباسيين إليه بعد فراغهم من الحرب على الخرمية، جعلته يهب بجيشه لدعم الخرمية ضد العباسيين.

قرر ثيوفيل التحرك بقواته تجاه أراضي الخرمية وإزالة أي حصون إسلامية في الطريق، لتتصل الأراضي البيزنطية بالخرمية، لكن الإمبراطور لم يستطع نجدة الخرمي الذي انهزم قبل وصول المدد البيزنطي له وأسره العباسيون وأنهوا دولته.

فلما علم ثيوفيل بالأمر وكان على مشارف مدينة زبطرة الحصينة والتابعة للخلافة، اقتحمها وأحرقها وقتل ذكورها وأسر نساءها وأطفالها، وتعامل مع الناس بمنتهى الوحشية.

ويبدو أن سبب قسوته المفرطة، هو فقدانه اتزانه النفسي نتيجة علمه بخبر هزيمة حليفه بابك الخرمي وأسره، الذي سيترتب عليه بالطبع مهاجمة المعتصم له، انتقامًا منه لتحالفه مع الخرمي.

وامعتصماه: أسطورة السيدة التي استنجدت بالخليفة

فرَّ كثير من أهالي زبطرة إلى عاصمة الخلافة وقتها «سامراء»، وعلم المعتصم منهم بتصرفات الروم الوحشية، فقرر أن ينتقم.

المؤرخ الوحيد الذي ذكر حكاية عن سيدة صرخت «وامعتصماه» هو ابن الأثير (تـ1233م – 630هـ)، وقال إنها كانت امرأة من بني هاشم.

ولكنه لم يقل إن المرأة كانت في عمورية أو إن المعتصم قابلها أو أخرجها من السجن، كما في الرواية الشعبية، كذلك فإن انفراده بالرواية يضعفها، خصوصًا وأنه لم يعاصر الواقعة، بل تأخر عنها بنحو 4 قرون.

أما باقي المؤرخين الذين كانوا أقرب للحدث كالطبري والمسعودي واليعقوبي فلم يوردوا الحكاية، ولكنهم قالوا إن المعتصم استعظم ما حدث من سلب ونهب وقتل في زبطرة، وقرر تجهيز حملة لينتقم من إمبراطور بيزنطة.

لكنه لم يتحرك بحملته إلا بعد مرور 8 أشهر على الحادث على الأرجح، لأن الأحوال الجوية كانت سيئة، إذ وصل الخبر للمعتصم في سبتمبر 837م، وكان وقتها ينتظر وصول بابك الخرمي أسيرًا إلى سامراء، والذي لم يصل إلا في يناير من العام الجديد 838م – 223هـ.

انتظر المعتصم حتى يعود جيشه من حرب الخرمية، وحتى يسيل الجليد وتهدأ العواصف في مرتفعات آسيا الصغرى، وخرج لقتال الروم البيزنطيين في أبريل 838م، جمادى الأولى 223هـ، وبدأت معاركه معهم في الصيف (يوليو، شعبان).

ولكن أي أرض للروم سيغزو؟ السؤال كان محيرًا للمعتصم الذي يريد الثأر من غريمه ثيوفيل، فسأل قادته ومستشاريه عن مدينة توجع امبراطور بيزنطة، ووقع الاختيار على عمورية، لأنها أكثر حصون الروم قوة، وأعزها مكانة دينية بل وشخصية لدى امبراطور الروم.

من الناحية العسكرية كانت عمورية حصنًا منيعًا، يحيطها خندق واسع لا بد من اجتيازه للوصول إلى سورها المحصن بـ44 برجًا يتحصن بها الرماة، ومن يحاول اجتياز الخندق بالطبع سيكون هدفًا سهلًا لهم، وبالتالي كان اقتحامها صعبًا جدًا، واجتياز هذه الصعوبة يمثل إذلالًا عسكريًا للروم وتفوقًا كبيرًا للعباسيين.

روحيًا وسياسيًا، كانت عمورية هي مدينة الأسرة الحاكمة في بيزنطة، فهي مسقط رأس مؤسسها ميخائيل الثاني، ولهذا أنشأ بها أسقفية مسيحية مستقلة غير خاضعة لأي سلطة دينية أعلى منها، وبالتالي فإن غزوها سيمثل إذلالًا سياسيًا وشخصيًا لإمبراطور بيزنطة.

هذه المهمة الصعبة كانت ضرورية لشفاء قلب المعتصم الموجوع لعدة أسباب، وضمنها سبب شخصي؛ فلم يكن التنكيل بأهل زبطرة من قبل ثيوفيل مجرد اعتداء على أرض خاضعة للخلافة، وإنما كان اعتداءً شخصيًا على الخليفة، إذ كانت زبطرة هي مسقط رأس المعتصم، وبلد أمه التركية، وقد كان المعتصم يولي عناية كبيرة بأخواله، لدرجة أنه مكنهم من مفاصل الدولة والجيش.

الطريق إلى عمورية: جيش لم يسبق له مثيل

جمع المعتصم جيشه في العراق وكتب على ألويته «عمورية»، وتجهز جهازًا لم يتجهز مثله خليفة قط من قبله، بحسب وصف الطبري، من حيث السلاح والعتاد وعدد الجنود.

وقيل إن تعداد الجيش وصل إلى نصف مليون جندي، شملوا العرب والترك وعرب مصر، بل ضم فرقة من الأرمن قادها بطريرق البطارقة بنفسه.

قسم المعتصم جيشه إلى 3 جيوش، قاد أحدهم بنفسه، والثاني قاده قائده الأهم والأبرز حيدر بن كاوس «الأفشين»، أما الجيش الثالث، فكان تحت قيادة أشناس التركي، وكان المعتصم بالطبع هو القائد الأعلى للجيوش الثلاثة.

قرر الخليفة غزو أنقرة أولًا، ومنها ينطلق إلى عمورية، فسار جيشه مع جيش أشناس متقاربين قاصدين إياها، وسبقهما بيومين من طريق آخر جيش الأفشين، كنوع من الخداع العسكري ليطبق الخناق عليها من أكثر من اتجاه.

تفاجأ الأفشين وهو في الطريق إلى أنقرة بجيش الروم يقوده الإمبراطور ثيوفيل بنفسه، ووقعت بين الجيشين معركة طاحنة انتهت بهزيمة الروم وانسحاب الإمبراطور، وتقدم الأفشين نحو أنقرة.

ودعم موقف العباسيين أن ثيوفيل علم بمحاولة انقلاب عليه في القسطنطينية وتنصيب إمبراطور آخر بدلًا منه، بعد إشاعة وفاته في المعركة، وكذلك كان الإمبراطور على علم بأن هدف العباسيين الأساسي هو عمورية فترك عندها جيشًا كبيرًا وانسحب إلى عاصمته القسطنطينية.

في هذه الأثناء فر أهالي أنقرة إلى الجبال بعد علمهم بهزيمة ملكهم، فدخلها جيش أشناس التركي بلا مقاومة تذكر، ولحق به جيش المعتصم وجيش الأفشين في ما بعد.

وكاد العباسيون يهلكون جوعًا لولا أن أسيرًا بيزنطيًا أخبرهم بمكان اختباء أهالي أنقرة في الجبال، فأغاروا عليهم وأخذوا منهم ما يكفيهم من طعام وشراب، وقتلوا كثيرًا من جنود بيزنطة المختبئين مع الأهالي.

في هذه الأثناء حاول إمبراطور الروم الصلح، متعهدًا للمعتصم بتسليم كل من أهان أهالي زبطرة من جنوده وقواده، وإعادة بناء كل ما هدم بها، وإطلاق سراح كل أسرى المسلمين، فلم يرد عليه المعتصم وانطلق إلى عمورية بجيوشه الثلاثة مجتمعة.

وألحقت الجيوش العباسية الخراب والدمار بكل ما قابلته في طريقها، حتى وصلت عمورية بعد 7 أيام وحاصرتها في أول أغسطس 838، أواخر شعبان 223هـ.

وجد المعتصم ثغرة في سور عمورية، أخبره بها رجل مسلم من أهل عمورية كان الروم قد أسروه في معركة سابقة وأعلن تنصره نفاقًا، والثغرة كانت عبارة عن منطقة ضعيفة في السور، تبدو من الخارج مثل غيرها، ولكنها غير مدعومة بأحجار كثيفة من الداخل، فركز المعتصم ضربات المجانيق عليها حتى انهارت.

بعدها بدأت الجيوش العباسية تتحرك لاقتحام المدينة وخرج لها جيش الروم ودار القتال العنيف لمدة 3 أيام، حتى انتصر العباسيون، ودخلوا عمورية في أوائل رمضان 223هـ – أغسطس 838م.

فتح إسلامي أم انتقام إمبراطوري؟

المصادر البيزنطية تشير إلى أن رجال دين مسيحيين حاولوا التفاوض مع المعتصم حقنًا لدمائهم، وأوقفوا القتال من طرفهم كبادرة حسن نية منهم، بعد أن أيقنوا من أن الهزيمة واقعة لا محالة، إلا أن المعتصم رفض ذلك، وأمر قواته بالتقدم.

لكن المصادر العربية تشير إلى أن الجيوش العباسية وقت هذا التفاوض كانت بالفعل قد اقتحمت سور عمورية، وأن البيزنطيين لم يكونوا قد استسلموا.

لكن المؤكد من مؤرخي الطرفين العربي والبيزنطي أن العباسيين حين دخلوا المدينة عاثوا فيها فسادًا وقتلوا أو سبوا ونهبوا كل ما وقعت أيديهم عليه، حتى إن الناس احتموا بكنيسة كبيرة في المدينة، فأحرقها العباسيون عليهم وماتوا جميعًا داخلها.

ومن وقع في أيدي العباسيين من الأهالي أو الجنود حيًا بيع في سوق النخاسة، ومن كثرتهم كانوا يباعون خمسة بخمسة، وعشرة بعشرة وبأبخس الأثمان، وبدا التمييز والعنصرية في سلوك المعتصم، حين أمر باستثناء من وصفهم بأشراف عمورية من بيعهم كعبيد وجوار.

كما أمر المعتصم بهدم سور المدينة وتشويه وحرق معالمها، ثم تركها خاوية، وانسحب بقواته ولم يدعُ من تبقى من أهلها إلى الإسلام على عادة الفاتحين المسلمين القدامى.

انسحب المعتصم بجيوشه وفكر في غزو القسطنطينية نفسها، عاصمة بيزنطة، وذلك بتأثير زهوه بانتصاراته السريعة نسبيًا في أنقرة وعمورية، إضافة إلى الوضع المهلهل للجيش البيزنطي، لكنه تراجع بعد أن علم بمؤامرة تدبر ضده في العراق.

حيث علم المعتصم أن ابن أخيه العباس ابن المأمون يقود مؤامرة ضده، إذ التف حوله كثيرون، وأرادوا أخذ البيعة له، وإزاحة المعتصم من الخلافة، عقابًا له على تمكينه أخواله الأتراك من مفاصل الدولة وتنحية رجال البيت العباسي والفرس والعرب.

عاد المعتصم سريعًا من عمورية إلى سامراء وأجرى حملات اعتقال طالت كل من تآمروا عليه، بمن فيهم العباس بن المأمون الذي وضعه في السجن.

مما سبق يتبين أن غزو عمورية لم يكن فتحًا، ولم يكن هدفه نشر الإسلام، ولم يكن دفاعًا أو نجدة للسيدة المسلمة التي صرخت، بل كان انتقامًا لشرفه الشخصي ولإثبات الوجود والقوة، ولأجل أتراك زبطرة أخواله الذين كانوا يسيطرون على الدولة العباسية، الذين بسببهم حدث الانقلاب عليه، فلم يكمل حربه على بيزنطة الضعيفة التي هلك جيشها.

وكانت بيزنطة على وشك الانهيار تمامًا أمام العباسيين، لينفتح له الطريق إلى غزو أوروبا من الشرق، لكنه لم يفعلها حرصًا على عرشه المهدد في سامراء.

بعض المحللين كالدكتور محمد مرسي الشيخ قالوا، إن عدم استكمال الغزو ومهاجمة القسطنطينية يرجع إلى سبب عسكري، وهو أن جيش المعتصم كان بريًا، والقسطنطينية تحتاج إلى جيش بحري أيضًا يدعم الجيش البري، نظرًا لموقعها (إسطنبول حاليًا).

إلا أن ذلك مردود عليه، بأن أساطيل الأغالبة الحاكمين لشمالي إفريقيا تحت إمرة التاج العباسي كانت جاهزة للانطلاق من صقلية لمساندته إذا طلبها، لكنه عاد خوفًا على عرشه.

صحيح أنه بعد أن فرغ من القضاء على تمرد العباس بن المأمون جهز أسطولًا لغزو القسطنطينية ولم يمهله القدر لتنفيذ هدفه حيث مات، ولكن بالتأكيد كانت المهمة قد صارت صعبة جدًا؛ لأن مرور الوقت أعطى مهلة لثيوفيل لطلب النجدة من ملوك أوروبا الغربية، فصاروا متأهبين للدفاع عن وجودهم بعد سقوط القسطنطينية المحتمل.

وكان المعتصم في غنى عن ذلك لو واصل الزحف سريعًا بعد عمورية مباشرة، وطلب من أسطول الأغالبة دعمه.


المراجع



  1. «تاريخ الأمم والملوك» للطبري
  2. «مروج الذهب» للمسعودي
  3. تاريخ اليعقوبي
  4. «الفخري في الأداب السلطانية» لابن الطقطقي
  5. «التنبيه والإشراف» للمسعودي
  6. «الكامل في التاريخ» لابن الأثير
  7. «كتاب العبر» لابن خلدون
  8. «العرب والروم» لفاز يليف
  9. «سياسة الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل تجاه الخلافة العباسية» لمحمد محمد مرسي الشيخ


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.