كونها في المنتصف بين روسيا وتركيا اضطُرت دول جنوب القوقاز (أذربيجان، جورجيا، أرمينيا) أن تكون طرفًا في الصراع المشتعل بين تركيا وروسيا، بالطبع هي لم تختر لنفسها هذا الموقف الحرج، لكن في حرب باردة كهذه يبحث كل طرف عن حلفائه الدوليين والإقليميين ليحاربوا عنه بالوكالة وإن كانت الحرب لا تعدوا كونها حربًا دبلوماسية.

بات الاصطفاف واجبًا في مثل هذه المواقف وباتت الدبلوماسية المعتدلة ضربًا من الخذلان ومؤشرًا على الضعف ولها ما بعدها، فالعالم لا يُرتجى هدوءه فى قادم الأيام.


تركيا و قوقاز – ما بعد السوفييت

مع انتهاء الحرب الباردة ذهبت كل الدول لإعادة تموضعها وتحديد الأدوار المنوطة بها وبمشاريعها الإقليمية والدولية وكانت بالطبع تركيا ضمن هذه القوى، يقول مؤرخون بأن الدور الذي رُسم لتركيا لا يتعدى كونها منطقة عازلة (Buffer Zone) بين الشرق -دول الاتحاد السوفييتي- والغرب -دول أوروبا-. لكن على ما يبدو أن هذا الدور لم يرق للأتراك، وقد كانوا مع بداية القرن العشرين -أي قبل الحرب العالمية الأولى- قوة عظمى، فقدموا تجربتهم لدول المنطقة الناشئة كنموذج صاعد جدير بالاتباع (Model Country) متسلحين بتجربتهم الديموقراطية الناشئة وسوقهم الاقتصادية الحرة.

ساعدهم على لعب هذا الدور كذلك الدعم الغربي، الذي قُدم لهم لتحجيم الدور الروسي والإيراني بالمنطقة. وقد تأخر الأتراك كثيرا عن لعب دورهم الإقليمي بالشكل الذي ينبغي لظروف الأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار الداخلي فترة التسعينات فملأت روسيا الفراغ الإقليمي.

قدمت تركيا الحديثة نفسها لدول جنوب القوقاز -وهي دول سوفيتية سابقة، جورجيا وأرمينيا وأذربيجان- كتجربة ديموقراطية ليبرالية جديرة بالاتباع، تُولي اهتمامًا لمصطلحات التعاون الاقتصادي والتكامل الإقليمي والاستقرار والسيادة. وقدمت سياسات استباقية تجاه دول الجوار. وكانت تركيا تبحث في حقيقة الأمر عن أسواق جديدة لمنتجاتها خلاف الأسواق الغربية، وكان يلزمها لذلك علاقات إقليمية ودولية جيدة بعيدة عن الصراعات المفتوحة واللا حوار.

كذلك فإن دول القوقاز اعتبرت تركيا بوابتها إلى أوروبا ولذلك فعليها التقرب من تركيا كسوق للنفط الخاص بهم وكبوابة للعبور من خلالها إلى السوق الغربية المتعطشة لهذا النفط.


حق الجيران

حققت تركيا المعادلة الأصعب في تثبيت وضع داخلي يوازن بين العلاقات المدنية العسكرية ويحقق الأمن القومي ويرسم كذلك الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع. هذا الوضع الداخلي انعكس إيجابًا على علاقات الأتراك الخارجية التي باتت تمشي بخطىً ثابتة وتسعى للحوار والسلام.

في إطار هذه القاعدة، تقربت تركيا لدول القوقاز ابتداءً بتقديم المساعدات والمنح كنوع من قوى تركيا الناعمة. فعلى سبيل المثال لا الحصر،

خصصت وكالة التطوير والتعاون الدولية التركية TIKA نسبة 44.4% من المساعدات التي تقدمها لدول القوقاز ودول الشرق الأوسط

. هذه المساعدات كانت في مجالات البنى التحتية والتعليم والصحة. وعطفًا على ذلك تحركت مجموعات رجال الأعمال التركية لترسيخ أقدامها في هذه الأسواق الجديدة وتحولت تركيا من دولة تمثل معبرًا بين الشرق والغرب لدولة مركزية في ذاتها تؤسس لمنطقة تجارة حرة أوروآسيوية تمتد بين البحر الأسود وبحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط. وفي هذا الإطار

زاد حجم التبادل التجاري بين تركيا وأذربيجان

-إحدى بلدان القوقاز- في 2010 إلى 1059 مليار دولار. وكان يبلغ فقط في عام 2000 نحو 326 مليار. كما تضاعفت معدلات الصادرات والواردات بين تركيا وجورجيا بينما تظل أرمينيا الموالية لروسيا مغلقةً حدودها في وجه الأتراك.


أذربيجان الأهم

توثقت علاقة الأتراك بأذربيجان وانعكس هذا الأثر على البلدين الآخرين، هذه الصلات وُثقت بمرور خط النفط الأذربيجاني BTC خلال تركيا إلى أوروبا والذي دخل الخدمة في 2006 لتستفيد منه تركيا بنحو مليون برميل يوميًا وقرابة ال50 طن سنويًا، لاحق هذا الخط أنابيب الغاز الطبيعي BTE في 2007.

من حينها صارت أذربيجان البلد الأهم في المنطقة لتركيا وكذلك باتت تركيا بالنسبة لأذربيجان وبموجب اتفاقية وقعها أردوغان -رئيس الوزراء في ذلك الوقت- أكتوبر 2011، ستنقل تركيا وتستفيد من الغاز الطبيعي الأذربيجاني في الفترة من 2017-2042 بموجب اتفاقية وقعها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس أذربيجان د.إلهام علييف في نهاية أكتوبر 2011، ما يعمق الصلة بين البلدين لعقود من الزمن مستقبلًا.

إحدى نقاط القوة في العلاقات التركية الأذربيجانية ما عُرف بأزمة كاراباخ Karabagh، وهو إقليم ضمن الأراضي الأذربيجانية يغلب على سكانه العرق الأرميني، ما جعل هناك حربا بين أرمينيا وأذربيجان على هذا الإقليم. انتهت المفاوضات وقبول أذربيجان احتلال أراضيها لوقف الحرب وحقن الدماء في مفاوضات مينسك 1994. تعتبر تركيا إقليم كاراباخ أرضًا أذربيجانية محتلة، فيما يعد تحيزً وعداءً لأرمينيا.

أضف لما سبق، التعاون المتزايد بين البلدين في مجالات التعليم والتجارة، وتعد جامعة القوقاز -التي أنشأتها تركيا بقرار من أردوغان أثناء رحلته لأذربيجان 17 مايو 2010- إحدى أهم المنصات التعليمية بأذربيجان.


أرمينيا: توازن المعادلة

اعتبرت أرمينيا التقارب الأذربيجاني التركي خطرًا على أمنها القومي فوثقت الصلة بلاعبَين إقليميين آخرين (روسيا وإيران). بدت روسيا بالاخص شريكًا إستراتيجيًا لأرمينيا في معادلة تقاربات المنطقة. إلا أن هناك بعض النقاط السلبية كانت بحق أرمينيا. فهي لم تكن على حدود مباشرة مع روسيا وكانت تعتمد في تجارتها على الموانئ الجورجية ما جعلها في أزمة كبيرة مع اندلاع الحرب الروسية الجورجية 2008، وضرب روسيا -حليفتها- لهذه الموانئ!

كذلك لم تكن أرمينيا رقما صعبًا في نقل الغاز الأذربيجاني رغم وقوعها جغرفيًا بين تركيا وأذربيجان، لأن الدولتان اتفقتا على تجنبها وإمرار خطوط النفط بأراضي جورجيا بدلًا عنا.

اتساقًا مع الرؤية الخارجية التركية للمنطقة كسوق لمنتجاتها وحلفاء أو على الأقل دول معارضة على طاولة الحوار، حاولت تركيا التخفيف من حدة توتراتها مع أرمينيا، ووُقعت عدة بروتوكولات ثنائية بينهما في 2009، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ.


تركيا وجورجيا: التقارب الحذر

كونها الفاصلة بين تركيا وروسيا فإن التدخل التركي فيها محدودًا للغاية، حرصًا من تركيا على عدم استفزاز موسكو. واتخذت في الأعوام الأخيرة منعطفًا تصاعديًا لاسيما مع مرور خطي النفط والغاز BTC وBTE عبرها بين أذربيجان وتركيا. كما أصحبخت تركيا أكبر الشركاء التجاريين لجورجيا في النصف الأول من عام 2010 بحجم 496 مليون دولار. تبع هذا التقارب تشارك في مشاريع واسعة في قطاعات الطاقة والتجارة والأمن وتمثل جورجيا لتركيا منطقة أمن حدودية ومصدرًا مهمًا للطاقة كما تمثل تركيا لجورجيا شريكًا إقليميًا واقتصاديًا ومدخلًا لأوروبا. بينما تمثل روسيا لجورجيا منطقة أمن قومي حدودي ومحطة لإمدادات النفط الروسي لتركيا ودول أوروبا.

وتعد المنطقة بأسرها منطقة تصارع على النفوذ وكسب الحلفاء الإقليميين بين تركيا المدعومة غربيًا وروسيا التي تحاول استعادة امبراطوريتها المفتتة ومع كل أزمة إقليمية يستدعى هذا الصراع ليطفوا، ويتباهى كل طرف بما يملكه من مفاتيح قوة وضغط محتملة على خصمه.


ما الذي غيرته الأزمة الروسية-التركية الأخيرة؟

خطوط النفط والغاز الطبيعي من أذربيجان لتركيا -البوابة لأوروبا-

خطوط النفط والغاز الطبيعي من أذربيجان لتركيا -البوابة لأوروبا-

لم تتحير أرمينيا كثيرًا قبل تحديد موقفها من التوتر المتصاعد بين تركيا وروسيا، بعد أن أسقطت الأولى طائرة مقاتلة روسية من نوع سوخوي24. فلم تكن لدى أرمينيا علاقات دبلوماسية تربطها بتركيا وتخشى فسادها، لذلك أعطت الحادثة ذات الوصف الذي تلفظ به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “

هذه الحادثة بمثابة طعنة في الظهر

هذا الموقف بالطبع ليس متعجبًا، فالرأي العام الأرميني

كما يراه محللون

داعم للتحركات الروسية في الأجواء السورية وتقدم الدولة الأرمينية الدعم اللوجيستي الكامل للقوات الروسية. أهم مظاهر هذا الدعم القاعدة العسكرية الروسية في الأراضي الأرمينية “قاعدة غيومري العسكرية” النقطة العسكرية الروسية الأقرب للأراضي السورية وهي كذلك قريبة من الأراضي التركية.



أغارت الطائرات الروسية على جورجيا عشرات المرات ولم تحرك ساكنًا، لذلك تعد الحادثة بمثابة إشارة ضمنية لجورجيا بأهمية أن تكون عضوًا في تجمع دولي قوي كحلف شمال الأطلسي.

أذربيجان في الفترة الأخيرة تقاربت مع روسيا بعد الانتقادات الغربية لحكومتها في مجال حقوق الإنسان، إلا أن الهوى الشعبي في أذربيجان صفق للأتراك على فعلتهم، مستحضرين الدعم الروسي لأعدائهم الأرمينيين في قضية كاراباخ المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا.

أعلن الرئيس الأذربيجاني استعداده للوساطة بين البلدين محاولًا التماهي مع الأمر دونما تحزب واضح وربما ساعده على ذلك أن تركيا لم تمارس ضغطًا عليه لتأييدها.

أغارت الطائرات الروسية على جورجيا عشرات المرات ولم تحرك ساكنًا، لذلك تعد الحادثة بمثابة إشارة ضمنية لجورجيا بأهمية أن تكون عضوًا في تجمع دولي قوي كحلف شمال الأطلسي..

هذه هي الإشارة الأهم التي أوصلها الحادث لصناع القرار في جورجيا. لا ننسى طبعا أن روسيا وجورجيا حديثا عهدٍ بالحرب في 2008. إضافةً للتعاون الجورجي التركي في مجال الطاقة وخطوط الغاز والنفط.

رغم ما سبق إلا أن الإدارة الجورجية لم ترد استفزاز روسيا بتصريحاتها فلجأت لعبارات دبلوماسية ذات مضمون ملحوظ.

“لا أحد يريد صراع آخر مع دولة من دول الناتو”، وزير الدفاع الجورجي في خطاب متلفز.

تبدو استفادة دول جنوب القوقاز في المستقبل القريب ممكنة جراء الصراع التركي-الروسي، في شغل الفراغ التجاري الروسي الناتج عن العقوبات الروسية في مجال التجارة والأغذية. كذلك ستتمتع جورجيا بزيادة عدد السائحين الروس لديها مع العقوبات الروسية المفروضة على مجال السياحة بين البلدين. لكن بالطبع في منطقة متقلبة كجنوب القوقاز تبدو الخسارة أكبر وإن تأخرت.