أمام حشد من المحتجين الذين تجمعوا حول مبنى الاستخبارات السوفيتية KGB بألمانيا الشرقية

وقف ضابط روسي شاب

يتفاوض مع الجماهير الغاضبة لإثنائهم عن اقتحام مقر عمله، عقب انهيار جدار برلين عام 1989، وعندما فرغ من حديثه معهم، اتصل بقيادة قوات بلاده طالبًا التوجيهات والنجدة، غير أن رؤساءه لم يجيبوه وقتها، لتتسلل إلى نفسه مشاعر الغضب واليأس، بينما كان الاتحاد السوفيتي يلفظ أنفاسه الأخيرة لينتهى رسميًّا في ديسمبر/كانون الأول 1991.

تركت تلك اللحظات القاسية أثرًا كبيرًا في وجدان الضابط «بلاتوف» – الاسم الكودي

للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال عمله في KGB

– الذي أصبح منذ ذلك الحين مسكونًا بدافعية ورغبة في الانتقام من خصوم بلاده الذين أسقطوا اتحاد الجمهوريات السوفيتية، بيد أن الظروف الاستثنائية التي عاشتها روسيا الاتحادية (وريثة الاتحاد المنحل) خلال السنوات التالية، حرمته من إدراك ثأره، وإن منحته فرصة أخرى للترقي في هرم السلطة السياسي في عهد الرئيس بوريس يلتسن (1991-1999).

بحلول عام 2000 صار فلاديمير بوتين رئيسًا لروسيا الاتحادية، ومنذ ذلك الوقت انخرط الضابط السابق في الاستخبارات السوفيتية في رحلة البحث عن إرث ومكانة روسيا العالمية، بعد سنوات التركيز على الوضع الداخلي المضطرب.

العودة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا

ركزت إستراتيجية موسكو في السنوات الأولى من عهد بوتين على قارتي أوروبا وآسيا، بشكل أساسي، باعتبارهما ساحة لصراع جيوسياسي مع خصومها المفترضين، بينما حل الشرق الأوسط وقارة أفريقيا في ذيل قائمة أولويات السياسة الخارجية الروسية، وفقًا لتقارير وزارة الخارجية الاتحادية.

غير أن روسيا الطامحة إلى استعادة مكانتها العالمية بدأت منذ العام 2005 بالعودة التدريجية إلى الشرق الأوسط، ثم القارة السمراء التي رأتها بمثابة

قارة الفرص الجديدة وأرض الأسود الأفريقية الصاعدة

، قياسًا على دول النمور الآسيوية التي نجحت في تحقيق قفزات اقتصادية ومعدلات نمو مرتفعة وطفرات صناعية في الفترة من 1960-1999.

وفي هذه الأثناء احتلت مصر مكانة محورية في استراتيجية موسكو الإقليمية، واستهل الرئيس فلاديمير بوتين جولاته في المنطقة بزيارة مصر عام 2005، بعد أكثر من 40 عامًا على آخر زيارة قام بها رئيس روسي للبلاد، وكذلك فعل خلفه ديمتري ميدفيديف (الذي تبادل مع بوتين منصبي الرئيس ورئيس الوزراء) عام 2009، معلنًا أن من واجب روسيا استعادة كل ما فقدته من نفوذ في الشرق الأوسط.

لكن الانخراط الروسي في المنطقة اختلف بشكل واضح عن نظيره السوفيتي، فرغم أن موسكو استغلت الرمزية التاريخية التي يمثلها الاتحاد المنهار للترويج لسياستها في المنطقة، فإنها اعتمدت استراتيجية إقليمية جديدة قائمة على المصالح الذاتية، متبنيةً مبدأ التعاون متعدد الأطراف (العلاقة/الصداقة مع الجميع).

عملت موسكو على تعزيز علاقتها بدول عديدة في المنطقة منها مصر، وجنوب أفريقيا، ومالي، والكونغو، والسودان، إضافةً لإثيوبيا التي احتلت مكانة خاصة في السياسة الخارجية الروسية لاعتبارات عدة، منها الروابط القديمة بين البلدين منذ الحقبة الشيوعية والثقافة المسيحية المشتركة.

وفي هذا الإطار انتهج الكرملين (الرئاسة الروسية) مقاربة براجماتية بحتة وغير مؤدلجة في التعامل مع الفاعلين في المنطقة (الدول، والفاعلين دون الدول)، وأصبحت المصالح هي المحرك الأساسي والدافع للسلوك الروسي في المنطقة.

روسيا الانتهازية: تكتيك بلا إستراتيجية

عمدت موسكو إلى استغلال الثغرات والفرص السانحة لتحقيق انتصارات لحظية في علاقتها بالدول الأفريقية، وأولت اهتمامًا واضحًا للبعد الاقتصادي والعلاقات العسكرية، فيما عُدَّ تجسيدًا واضحًا لانتهازية الرئيس فلاديمير بوتين.

ورغم أنها نجحت في تحقيق مكاسب تكتيكية أحيانًا،

مستفيدةً من التناقضات والاضطرابات التي تمر بها المنطقة

، فإنها لم تنجح في تطوير آلية تعاملها مع دول القارة السمراء في صورة إستراتيجية شاملة، كما كشفت الأوضاع الإقليمية غير المستقرة حجم المشاكل البنيوية في سياسة روسيا تجاه أفريقيا.

فمع أن

روسيا تحظى بوجود دبلوماسي كبير في أفريقيا

(سفارات في 40 من أصل 54 دولة أفريقية، بجانب 4 بعثات تجارية)، فإن نشاطها الرئيس انصب على مراقبة الأوضاع واستشراف الفرص التي قد تسمح لها باكتساب نفوذ إضافي داخل القارة، كما لم تنجح

تجربة مركز التصدير الروسي

الذي أُنشئ عام 2015، ليكون بمثابة قاعدة عملياتية تسمح للمصدرين الروس بالتغلغل داخل أفريقيا، وتحول المركز إلى ممارسة الأدوار التقليدية للبعثات التجارية الروسية.

في مقابل السلوك الروسي القائم على الانتهازية نجحت دول أخرى في التفوق على موسكو في لعبة التنافس على أفريقيا. فعلى سبيل المثال تبنت الصين إستراتيجية الدبلوماسية الملموسة، مركزةً على الوجود القوي داخل دول القارة، ففضلًا عن وجود بعثات دبلوماسية كبيرة (سفارات في 51 دولة)، ركَّزت بكين على الجانب التنموي والانخراط في تمويل مشروعات عديدة عن طريق المنح والقروض مقابل عقود مع الشركات الصينية.

وعلى غرار الصين ركزت الهند التي تملك 34 سفارة في أفريقيا على دبلوماسية التنمية، وأولت اهتمامًا لمجالات الطب والرعاية الصحية والزراعة والاتصالات التي تُشكل أهمية حيوية للدول الأفريقية، وكذلك عمدت اليابان (37 سفارة في دول القارة) إلى اتباع إستراتيجية تكاملية عبر التعامل مع الفاعلين المحليين والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي.

قدرات محدودة وأزمات معقدة

لم يكن غياب الإستراتيجية هو المعضلة الوحيدة التي واجهتها موسكو في المنطقة، إذ بقيت فاعلية روسيا الإقليمية

مقيدة بقدراتها وإمكانياتها المحدودة نسبيًّا

، خصوصًا أن الاقتصاد الروسي الخاضع لعقوبات أمريكية يعتمد بشكل جوهري على قطاع الطاقة، وهو ما يجعله تحت رحمة تقلبات أسواق الطاقة العالمية.

في سياق متصل، تُشير بيانات وزارة الخارجية الروسية إلى أن إجمالي المساعدات التي قدمتها روسيا لدول القارة السمراء مجتمعة نحو 10 ملايين دولار فقط (إحصائية عام 2018)،

في مقابل 878 مليون دولار

قدمتها الولايات المتحدة (غريم موسكو التقليدي) لإثيوبيا وحدها في نفس العام، ولعل هذا يعطي لمحة عن الإمكانات الحقيقية لروسيا الاتحادية.

على الجهة الأخرى، واجهت موسكو تحديًا ديموغرافيًّا يتعلق بتغير التركيية الإثنية داخل الدول الصديقة لها (كإثيوبيا وتشاد والكاميرون وبنين وغيرها). ففي الوقت الراهن

تواجه إثيوبيا خطر التقسيم

على أسس عرقية في ظل استمرار ثورة شعب التيجراي (شمال البلاد، نحو 6.1% من إجمالي السكان) والأورومو (وسط البلاد، 40% من السكان) وهي التي تنحدر من عرقية مسلمة مختلفة لا تجمعها مع روسيا روابط دينية مشتركة بعكس عرقية الأمهرة المسيحية (26.9%) التي يجمعها إرث ديني وتاريخي مع روسيا.

كما حاولت موسكو توظيف قوتها الناعمة لكسب النفوذ الإقليمي وإرسال رسائل لخصومها،

عبر توظيف قنواتها الفضائية

ومنصاتها الدعائية المملوكة بطبيعة الحال للكرملين الروسي، بيد أن التغيير السريع الذي مرت به أفريقيا قلَّص نسبيًّا التأثير الذي تحققه أدوات الدعاية الروسية.

كما أدى الانخراط الروسي في القارة والقائم على فكرة العلاقة مع الجميع إلى إثارة الريبة في نفوس الأطراف التي تتعامل معها، وانعكس ذلك سلبًا على قدرات موسكو في المنطقة، وبالتالي أثَّر على إمكانية إدراكها لأهدافها الخاصة، ومن ثم نحت القيادة الروسية تجاه العمل مع مجموعتين اختباريتين من الدول، أولهما الدول الأفريقية الكبرى وفي مقدمتها مصر، وثانيهما الدول غير المستقرة كالسودان وأفريقيا الوسطى.

اقتناص الفرصة المصرية

على أن التغيير الذي حدث في القاهرة صيف العام 2013 هيأ الظروف أمام

تقارب روسي مصري أكبر

، خصوصًا مع فتور العلاقات بين واشنطن والقاهرة عقب إطاحة الجيش بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي.

استثمر الكرملين التوترات الحاصلة بين البيت الأبيض وقصر الاتحادية، وفتح الأول أبوابه أمام وزير الدفاع، آنذاك، الفريق أول عبد الفتاح السيسي الذي زار موسكو في سبتمبر/أيلول 2013، وناقش مع المسؤولين الروس التعاون العسكري المشترك وصفقات السلاح المقرر توريده لمصر، كما تكررت الزيارة بعد نحو شهرين من انتخاب السيسي رئيسًا لمصر في أغسطس/آب 2014، وجرى الاتفاق على

صفقة سلاح كبرى بقيمة 3.5 مليار دولار

.

على مدى السنوات التالية سلكت العلاقات الثنائية بين البلدين مسارًا أكثر تطورًا على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين

قرابة 8 مليارات دولار (7.9 مليار- إحصاء 2018)

، كما شاركت قوات عسكرية من الجيشين المصري والروسي في مناورات مشتركة (حماة الصداقة)، وجرى الاتفاق على إنشاء محطة نووية بمدينة الضبعة (محافظة مطروح، غرب البلاد) بتمويل روسي عن طريق قرض قيمته 25 مليار دولار تقدمه موسكو للقاهرة.

عند تلك المرحلة كانت العلاقات المصرية الروسية قد بلغت قمة المنحنى، وبدا الرئيس الروسي متفائلًا أثناء توقيع العقود النهائية لإنشاء محطة الضبعة النووية، واصفًا القاهرة بـ «الشريك القديم والموثوق فيه داخل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، ولاحقًا شارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جوار بوتين في أول قمة روسية أفريقية بمدينة سوتشي (على ضفاف البحر الأسود) عام 2019.

بيد أن التقارب والغزل الظاهر بين موسكو والقاهرة لم يدم طويلًا، خاصةً مع الخلافات التي حدثت بينهما حول العديد من الملفات الإقليمية، أبرزها ملف الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا والسودان، التي نشبت بالتوازي مع تحسن العلاقات المصرية الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.

ففي تلك الفترة شهدت العلاقات بين واشنطن والقاهرة حميمية واضحة، وانعكس ذلك على التنسيق المشترك بين الدولتين، مما أغضب بدوره «القيصر الروسي» فلاديمير بوتين.

بوتين والسيسي وجهًا لوجه

وإلى جانب التقارب مع الولايات المتحدة أبدت القاهرة

موقفًا متحفظًا على الوجود العسكري الروسي في ليبيا

، مشددةً على ضرورة إخراج القوات الأجنبية النظامية وغير النظامية من البلاد، بحسب تصريحات سابقة لوزير الخارجية سامح شكري، كما استخدمت مصر نفوذها للضغط على قائد قوات الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر،

ومنعه من توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار

مع حكومة طرابلس/الوفاق، في يناير/كانون الثاني 2020، التي تمت صياغتها بناءً على اتفاق روسي تركي.

مثَّل إجهاض اتفاق وقف إطلاق النار لحظة محورية في العلاقات بين موسكو والقاهرة، إذ تمسكت الأخيرة بموقفها الرافض لوجود قوات عسكرية أجنبية داخل دول جوارها، فيما خسرت روسيا جولة من صراع المصالح الجيوسياسية، وبدت مدركةً أن مصر لديها خطوط حمراء متعلقة بأمنها القومي تمنعها من الدخول في لعبة التفاهمات والمصالح كما تفاعل تركيا دومًا مع الدب الروسي.

قبل أن ينقضي عام 2020 سددت القاهرة لكمتها الثانية لموسكو برفضها

إقامة قاعدة عسكرية روسية على الشواطئ السودانية

المطلة على البحر الأحمر بالقرب من ميناء بورتسودان، وهي القاعدة التي راهنت عليها الدولة الأولى بقوة للعودة إلى المنطقة، ومنافسة الوجود الأمريكي.

حال رفض القاهرة، بجانب عوامل أخرى، دون الشروع في تشييد القاعدة البحرية الروسية التي كان يفترض أن تُعطي موسكو

مكانة عسكرية خاصة في المنطقة

بجانب زيادة مكاسبها من تصدير السلاح إلى دول القارة الأفريقية التي تستقبل نحو 18% من إجمالي صادرات السلاح الروسية (تمثل

حوالي 49% من إجمالي واردات السلاح للقارة

)، بحسب إحصائية أجراها معهد ستوكهولوم الدولي لأبحاث السلام عام 2020.

نكأ الجراح القديمة

علاوة على رفضها التدخل الروسي في دول الجوار شاركت مصر بقوات عسكرية، مع 30 دولة أخرى،

في مناورات «نسيم البحر»

التي استضافتها القوات الأمريكية والأوكرانية في البحر الأسود، رغم اعتراض موسكو على إجراء هذه المناورات بالقرب من حدودها.

ساهمت المواقف السابقة في إعادة تموضع «القيصر الروسي» من جديد على رقعة المصالح الدولية والإقليمية، لكنها أثارت – على ما يبدو – ذكرياته السيئة المرتبطة بسقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي الذي تُعلِّق «نخبة موسكو الحاكمة» جزءًا من أسبابه على حلفائها السابقين – كمصر – الذين باعوها في مقابل التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن رجل الاستخبارات السابق، بوتين، لم يتخذ موقفًا حديًّا، وآثر أن يواصل اللعب بانتهازية محاولًا التقرب من الأطراف المتناقضة كما اعتاد. ففي نفس اليوم الذي

وقع فيه مرسومًا بعودة السياحة الروسية لمصر

بعد توقف دام قرابة 6 سنوات، كان مندوبه الدائم في مجلس الأمن، فاسيلي نيبينزيا، يعلن

انحياز بلاده لإثيوبيا

في أزمة سد النهضة، بينما انشغلت آلة الدعاية (التابعة للكرملين) بتبرير الموقف الروسي الذي اعتبرت أن جذوره تعود للحظة حصار مقر الاستخبارات الروسية في ألمانيا، ملمحةً إلى أن «روسيا-بوتين» لا تنسى ثاراتها.