تمكننا الخبرة من تطبيق ما نعرفه، أما العلم النظري فيمكننا من تطبيق أشياء لم نحلم بها من قبل.





روبرت جودارد، يوليو/تموز 1906

كان عقله دائمًا عاصفًا ومتطلعًا، شغوفًا بعوالم أخرى لم تشهدها البشرية إلا بفضله لاحقًا. كانت لديه قناعة راسخة بأن على الأشياء المستحيلة أن تحدث في وقت ما، تلك القناعة التي عرضته إلى سخرية محرري الدوريات العلمية، وقادته أيضًا لنقل أفكار ما نطلق عليه «عصر الفضاء» من نطاق المراهقة إلى النضوج.

في مثل هذا اليوم، 14 يوليو/تموز 1914، حصل

روبرت جودارد

على براءة اختراع الصاروخ الذي يعمل بالوقود السائل، مؤسسًا بذلك لعلم الصواريخ الذي نعرفه اليوم.


من شجرة الكرز إلى المريخ

بينما يصبح أي جدل حول عبقرية جودارد الآن مجرد لغو، فإن الجدل حول وضع تاريخ لبداية تجلي هذه العبقرية لازال خاضعًا للميثولوجيا، الميثولوجيا التي غذتها

كتابات جودارد ذاته

وملاحظاته المطولة التي احتوت أفكاره المتسارعة.

ولد جودارد في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1882 في وورستر بولاية ماساتشوستس الأمريكية. يصعب إنكار اهتمام الفتى منذ نعومة أظافره بكل ما هو ميكانيكي، إلا أن بعض التصورات –التي يوثقها ديفيد كلاري في سيرته عن الرجل- تجعلنا نميل إلى أن جودارد كان راغبًا في تصوير ذاته كعبقري منذ الميلاد، وتصوير حياته كقدر يسير به نحو الفضاء. وقد ساعدت العائلة على رسم هذه الصورة بتوثيقها لأحداث طفولته، في مقابل صورة أكثر واقعية لشاب قادته خيالاته وطموحاته إلى السير في عدة طرق قبل أن يهتدي إلى سبيله.

هكذا أتى صوت أمه محذرًا من اللعب ببطاريات الزنك وهو في الخامسة من عمره. كان والده قد أراه كيف تتولد الكهرباء الساكنة في سجادة المنزل. اجتذبت الفكرة ذهن الطفل الصغير وقرر أن يمسك ببطاريات الزنك عله يتمكن من القفز لأعلى أكثر وأكثر.

لم تفلح التجربة في المحاولات الأولى، إلا أنه استسلم عندما حذرته أمه من احتمال نجاحها وفقدانه لطريق العودة. على النقيض من فقدان الطريق، بدا أن الطفل، الذي كانت طريقة إشغاله عن البكاء هي توجيه عربته نحو محرك القطار ليشاهده يتحرك جيئة وذهابًا، قد وجد وجهته الحقيقية ذاك النهار، نحو الميكانيكا.


حفلت مراهقة جودارد بسمات الشاب العبقري الذي يجمع بين النشاط والاهتمام، والفاقد للبوصلة المعرفية. سجل جودارد لحظة بداية ارتباطه بعلم الفضاء بالذات في مشهد يجدر وصفه بالسينمائي.

بعد قراءة رائعة إتش جي ويلز «حرب العوالم»، جلس المراهق البالغ من العمر خمسة عشر عامًا على فرع شجرة كرز متأملًا في فكرة السفر إلى المريخ، وكيف سيصبح شكل المروج على الأرض بينما يرتفع الإنسان إلى الفضاء رويدًا رويدًا. لم يكن جودارد مهتمًا بدرجة كبيرة بالأفكار السياسية التي ناقشتها قصة ويلز. كان اهتمامه قد انصب على الجزء «الحرفي» منها، السفر إلى الفضاء.

مع مرور السنين والتحاق الشاب بمعهد البوليتيكنيك في ورسستر، سينقسم يوم الشاب إلى نهارات من العمل وأمسيات من الكتابة المتواصلة والأفكار المتضاربة حول إمكانية تحقيق الحلم. الأمر الذي قاده إلى قرار التركيز على «الدفع – Propulsion».


الصواريخ تتلقى دفعة جديدة

سوف تبحر بعيدًا، وربما لن تتمكن من العودة مجددًا.

بدأت مسيرة الصواريخ بداية غير مثيرة على الإطلاق. الكثير من البارود والصواريخ المدمرة التي لا ترتفع كثيرًا. كانت فكرة الوصول للفضاء محض موضوع خيالي لكتابات ويلز وأمثاله من الأدباء البارعين، لكنها اقتصرت في ميدان العلم على بضع محاولات فاشلة معتمدة على الوقود الصلب.

تغير كل هذا في السادس عشر من مارس/آذار عام 1926. كانت فكرة الوقود السائل قد تبلورت في ذهن جودارد وحان وقت تجربتها للمرة الأولى. اعتمد الصاروخ الذي اختبره جودارد صبيحة ذاك اليوم على

الأكسجين المسال كعامل مؤكسد مع الجازولين كوقود

، مع بعض التغييرات الجذرية في هندسة الصاروخ لضمان تبريد الأكسجين، وضخ نواتج الاحتراق الغازية للخارج. ارتفع الصاروخ مسافة 12.5 متر تقريبًا لمدة ثانيتين ونصف الثانية ليرسم الأفق الجديد الذي سيصبو إليه علم الصواريخ من وقتها فصاعدًا.

في الفيديو التالي يمكنك إيجاد مشاهد أرشيفية مسجلة لهذا اليوم الجلل، وعدة تجارب تالية له:


بدا الصاروخ ساحرًا بينما ارتقى دون أي ضوضاء أو لهب إضافي، كما لو كان يقول: لقد بقيت هنا بما يكفي، أستميحك عذرًا فإنني سوف أذهب إلى مكان آخر الآن.





جودارد – اليوم التالي في مذكراته.

لم تقتصر فكرة الوقود السائل على الأكسجين المسال والجازولين بالطبع. تطلق ناسا على الهيدروجين المسال لقب

الوقود المميز

لبرنامج الفضاء الأمريكي. لكن تحويل الأنظار من الطاقة الكيميائية المولدة للدفع والمستمدة من المواد الصلبة إلى المواد السائلة كان بمثابة نقل الأرض من مركز الكون إلى مدارها الطبيعي.

كان كل المطلوب من صاروخ جودارد هو أن يرتقي، وقد فعل. بعد ثلاث سنوات في عام 1929، ارتقى صاروخه ثانية، هذه المرة وهو يحمل معدات علمية للمرة الأولى، باروميتر (أداة لقياس الضغط) وكاميرا.

كل رؤية هي أضحوكة إلى أن يحققها أحدهم لأول مرة. بمجرد أن تتحقق، تصبح عادية.

روبرت جودارد،

ردًّا

على سخرية صحفي النيويورك تايمز من ورقته المنشورة عام 1920 بعنوان: «طريقة للوصول إلى ارتفاعات شاهقة» التي ذكرت للمرة الأولى إمكان إرسال معدات إلى القمر.

في العاشر من أغسطس/آب عام 1945، وافت المنية الأب الرائد للصاروخ الحديث، لكن الموت لم ينل أفكاره التي ستوصل المركبات الفضائية التي صنعها البشر إلى الكواكب الخارجية للمجموعة الشمسية، بل ما بعدها. عاش جودارد عقلًا متكاملًا تنبثق من ذهنه النظريات وتتحول لمادة ملموسة على يديه.

كان جودارد هو من أثبت أن الصاروخ سيتحرك في الفراغ، وكان هو أيضًا من صنع أول صاروخ متعدد المراحل. هذا كله دون أن يوليه أحد بالتبجيل الذي كانت أبحاثه تستحقه، اللهم إلا بعد وفاته كعادة البشر مع أعلامهم، عندما أطلق اسمه على أحد أهم معامل أبحاث رحلات الفضاء التابعة لناسا «Goddard Space Flight Center».