منذ فترة ليست بالقصيرة، قررت الابتعاد عن تشجيع ممثلي مصر بشكل عام في المحافل الرياضية، سواء كان هؤلاء الممثلين فرقًا جماعية أو لاعبين فرديين؛ ليس لنقصِ في وطنيتي أو حقدٍ على هؤلاء اللاعبين، ولكن لأنني صرت أخشى أن يفوز أي من هؤلاء بأي بطولة أو لقب عالمي أو أن يحوز أحدهم ميدالية عالمية فأضطر إلى مشاهدة تلك المقاطع الكريهة التي تحتوي على تلك المشاهد المزيفة التي يؤتى بها باللاعبين ليلتقوا بالقيادة السياسية ليتم شكر الرئيس وإعلان دوره الهام في الإنجاز ثم يقوم أحدهم بجراءة ويعلن إهداءه اللقب أو الميدالية إلى السيد الرئيس راعي الرياضة في مصر، أو أن تستغل الدولة نجاح أولئك الفائزين في عملية تسويقها لنفسها باعتبار ذلك نصرًا وطنيًا!.

لتلك الأسباب والمخاوف صرت أتحاشى تشجيع كل ما هو مصري.


تايسون ودجوكوفيتش وآخرون

مايك تايسون واحد من أقوى الضاربين في مجمل تاريخ الألعاب القتالية، وربما يكون أيضًا صاحب الطفولة الأصعب في تاريخ جميع الرياضيين.

طفولة تايسون تصلح تمامًا أن تتحول إلى فيلم درامي عن الطفل مايك الصغير الذي هجره والده وتركه وحيدًا مع أمه وهو في عمر عامين، فسعت أمه جاهدة أن توفر له ما يبقيه على قيد الحياة، لكنها لم تستطع حينها الحفاظ عليه، حيث أن مايك الصغير كان قد تم اعتقاله أو احتجازه أكثر من 30 مرة وهو في الثالثة عشر. تايسون الصغير لم يكن ليختلف كثيرًا عن تايسون الكبير في الغضب السريع والعنيف حتى إن إدارة مدرسته اضطرت إلى فصله نهائيًّا؛ خوفًا من خطورته الكبيرة على بقية التلاميذ، وتم إيداعه إحدى دور رعاية الأحداث. وفي هذه الدار لفت تايسون بعضلاته الضخمة وتكوينه القوي نظر أحد مدربي الملاكمة فتولاه بالرعاية، وتنبَّأ له بمستقبل كبير في دنيا الملاكمة، وهذا ما حدث بالفعل عندما احترف تايسون الملاكمة، ولعب القدر بعد ذلك دوره وساعده في ذلك تايسون الذي نحت في الصخر من أجل أن يصير على ما هو عليه الآن.

تايسون ليس الوحيد الذي واجه ظروفًا قاسية، لاعب التنس نوفاك دجوكوفيتش، المصنف الأول عالميًا، كذلك مرّ بطفولة صعبة في ظل الحرب. الملك ليبرون جيمس أيضًا عاش طفولة من الصعب مجرد تخيلها، حيث الأب هو سجين سابق، يهجر الأم وابنها الرضيع لأنه لم يرد أن يصبح أبًا، وحتى اليوم ما زال ليبرون يحمل اسم عائلة أمه وليس والده. لكن ما هو الرابط بين هؤلاء جميعًا؟!.

الفقر، الظروف القاهرة، المعاناة على الصعيد النفسي، كل هذا صحيح حيث أن كلهم عانوا بأشكال مختلفة في طفولتهم وواجهوا صعوبات وعراقيل واستطاعوا تجاوزها بكفاءة تشهد لهم. لكن ما لا يُسلَّط عليه الضوء غالبًا، وهو أن المجتمع والدولة قد وقفوا وراءهم، وآمنوا بحقهم في أخذ الفرصة لإثبات أنفسهم. لقد وجدوا دولة كاملة ومؤسسات مدنية وبلدًا بأسرها تقدّر الرياضة وتعلي من شأنها، وجدوا منشآت مجهزة لإخراج أبطال عالميين، المجتمع لم يكن يكتفي بالنظر إليهم وهم ينحتون في الصخر بل كان يمد لهم يد العون دائمًا ولو بالكلمات فقط.

هؤلاء النجوم ليسوا وليدي التحدي والإرادة فقط، بل هم أبناء منظومة كاملة تسعى وراءهم وتلبي احتياجاتهم وتوفر لهم كافة الظروف والعوامل التي تنتج أبطالًا.


موظف الكهرباء الذي أضاء مصر بأسرها


الرباع المصري محمد إيهاب يوسف محمود، مواليد الحادي والعشرين من نوفمبر عام 1989، والحاصل على الميدالية البرونزية في حمل الأثقال وزن 77 كجم رجال. ربما سنتذكر هذا الاسم لفترة من الزمن وسنرى وجهه عدة مرات إضافية على شاشات التلفاز أو صفحات المجلات والجرائد الأولى، ثم يختفي مثلما اختفى سابقوه. نشوة الميدالية الأولمبية ستزول وسينتهي الخطاب الإعلامي القائل بإن محمد إيهاب فخر لمصر وربما ستلتقي به القيادة السياسية وربما لا، وربما يهديها محمد الميدالية وربما لا، لكن المؤكد أن محمد سيُنسى حيث أن آفة حارتنا النسيان، ولن يتذكر أحدهم الإنجاز الفائق والخارق للموازين الطبيعية الذي أنجزه إيهاب، الذي يفوق أولئك الذين فازوا بالذهب والفضة.

محمد إيهاب، لم يواجه فقط صعوبات الحياة في مصر التي يحياها أغلب الشباب المصري، بل واجه أولاً كل المعوقات الطبيعية التي ستواجهك لتصير بطلًا أو لتصبح شخصًا ذا حيثية أو مكانة مرموقة. محمد لا يلعب كرة القدم في وطن يبيت منقسمًا على نفسه بسبب ديربي العاصمة، محمد ليس من أبناء القوات المسلحة أو الشرطة ولا يملك تلك الواسطة الكبيرة التي تفتح له الأبواب المغلقة. موظف شركة الكهرباء المصرية، الذي أخذ إجازة مفتوحة ليستكمل الحلم الذي بدأه مع والده، كان يتقاضى راتبًا من وزارة الشباب والرياضة مقداره 2000 جنيه مصري؛ أي ما هو أقل من 200 دولار شهريًا!، ولن أكمل في سرد كل ما واجه الشاب الذي كانت تتمحور أحلامه في أن «يشتري شقة في عمارة فيها أسانسير». فقد ذهب ابن الفيوم بعيدًا، واضعًا كل شيء وراء ظهره وقرر وخاض مغامرته التي كُلّلت بالنجاح لحسن الحظ.

إن أمثال محمد والبطلة الأولمبية سارة سمير يعيدون تعريف الوطنية المصرية في السياقات الرياضية بعيدًا عن التشنجات والعصبيات الحمقاء.

كل من الرباعة سارة سمير والرباع محمد إيهاب، هم أمثلة لا يمكن تجاهلها أو رفضها لأنهم يمارسون لعبة غير شعبية بشكل كبير، أو لأنني أخشى من التوظيف السياسي لفوزهم. محمد وسارة يضيفون حسًا وطنيًا فريدًا، قائمًا على الكفاح والمثابرة والنحت في الصخور وتجاوز العقبات دونما بكاء على لبن مسكوب، وليس قائمًا على بطولات زائفة أو سهلة المنال، أو ربما لأنني شعرت أنني أشبههم وأنهم يشبهون أولئك الذين عرفتهم يصارعون الدنيا، تصرعهم تارة ويصرعونها تارة. أعتقد أن هذا هو الذي منع نفسي من مراودتي لتمني خسارة أي منهما.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.