الفن هو نقل التجربة الذاتية والشخصية لصاحبها، وتقديمها للناس دون الخضوع أو الالتزام بأي قيود محيطة. ولذلك فإن الفنانين الذين يلتزمون بلون الفن السائد والشائع بين الناس، والذين يقارنون أنفسهم بفنانين آخرين، لا ينتجون فنًا حقيقيًا.

هكذا بدأت الفلسطينية «ريم بنا» منذ أن انطلقت باكورتها الفنية عام 1985 في ألبومها الأول «جفرا»، ثم «دموعك يا أمي» بعدها بعام، وألبوم «الحلم» عام 1993 بالتعاون مع زوجها الموسيقي الأوكراني «ليونيد أليكسينكو»، ومن كلمات الشاعرين «توفيق زياد» و«سميح القاسم». وجهت ريم إنتاجها لخدمة القضية الفلسطينية طارحة أشكالًا عديدة تستوعب المقاومة، والاحتلال، والحب، والتصوف، والتراث.

ظهرت ريم وكان ما تقدمه في البدايات يُعد امتدادًا لتجربة فنان فلسطيني آخر ظهر في نفس الفترة بهدوء واختفى أيضًا في هدوء، وهو الرائع «چورچ قرمز» الذي قدم أغاني رائعة للمقاومة، كان من أبرزها «

الويل لكم

» و«

صبرًا لن ينتصر الناب

».

ستشعر حين تسمع أغاني ريم منذ أن بدأت أنها تغني للمقاومة، لكن من زاوية غير تقليدية، فلم تلتزم يومًا بقواعد الأغنية التجارية أو الشكل الموسيقي. وعلى الرغم من أن هناك بُعدًا تجاريًا أيضًا لأغاني المقاومة، وقام باستغلاله الكثير من الفنانين، فإنها لم تتعامل مع المقاومة يومًا بأي شكل من أشكال التجارية أو السطحية، فهي تغني لنفسها ولمن يشبهونها.


ريم أيضًا ليست من الفنانين الذين تحظى أغانيهم بملايين المشاهدات والاستماع على منصات الموسيقى المختلفة، فالغريب أن بعض أغانيها العظيمة لا تتخطى عشرات الآلاف من الاستماع! أظن أنها لم تلتفت لهذا الأمر يومًا؛ فهي تغني لأنها تريد أن تغني، حتى أنها حين شاركت كفنانة ممثلة لدولة فلسطين في أوبريت «بكرا» الذي ضم مجموعة من أشهر فناني الوطن العربي، صرحت في إحدى المقابلات الصحفية بعدها، بأنها لم تكن راضية عن العمل بشكل كامل، وشاركت لأنها رسالة إنسانية موجهة للأطفال والمستقبل.

معظم أغاني ريم من تأليفها وتلحينها أيضًا، وهنا نود الإشارة إلى أنه من النادر أن نجد مغنية تقوم بتلحين هذا الكم الكبير من أغانيها وبهذا التنوع؛ فمن المعروف أن التلحين مهنة يسيطر عليها الرجال على الأغلب، ولعلها لم تلجأ لملحنين آخرين وفضلت تلحين أغانيها بنفسها لأنها تسعى لأن تقدم تجربتها الذاتية هي فقط، والتي قد لا يدركها أحد سواها.

انتقد البعض ريم أن أغانيها تفتقد إلى «الجملة المحفوظة»، أو ما يسميه الموسيقيون «التيمة اللحنية» التي تلتصق بالأذن، ويسهل حفظها ودندنتها، وأنها لم تلتزم بالقواعد الخاصة بتكوين الأغنية وترتيب مقاطعها، ونظام الكوبليه واللازمة الموسيقية والسينيو – وهو ذروة الأغنية والجزء الذي تتم إعادته وتكراره أكثر من مرة.

هنا نقول إنه على الرغم من أنك بالفعل بعد سماعك لأغنية من أغانيها قد لا تجد تيمة تلتصق بأذنك، لكنك في كل الأحوال تستمتع حين تسمعها! وتجد بين طياتها شيئًا مريحًا، وذلك يكفي. فتناول ريم للكلمات والأشعار لم يكن تقليديًا ومنطقيًا، فهي تفكر دومًا خارج الإطار، تحلق بموسيقاها خارج حدود الزمان والمكان لتخلق إيقاعًا جميلًا ينقلنا إلى زمن مغاير.


هنا أيضًا نقف أمام سؤال مهم، وهو: هل يُشترط أن يحتوي اللحن على تيمة لحنية يسهل حفظها؟ أعتقد أن الإجابة ستكون لا، لأن كل الألحان ليس بالضرورة هدفها أن تكون تجارية وأن تنتشر وتُحفظ سريعًا، فالأغاني التجارية وأغاني الإعلانات يجب أن تكون كذلك كي تُحقق هدفها، لكن في أغاني الحالات والتجارب الذاتية أعتقد أن الأمر يختلف.

لم تكن إضافة ريم فقط في أنها قامت بإعادة تقديم التهاليل والأهازيج – التي تملأ التراث الفلسطيني العظيم – بشكل أكثر حداثة وبتوزيعات غربية بديعة سمعها الأوروبيون وراقت لهم وأُعجبوا بها! ولكنها قدمت ألبومين للأطفال من أروع ما يمكن أن تسمع؛ كلامًا بسيطًا سهلًا، وألحانًا تتسلل للقلب دون إذن. فتقول مثلًا حين تغني للأطفال اللاجئين:

نامي يا لعبة نامي .. تحت لحافي وحرامي

أيامي حلوة فيكي .. تحلى أكثر أيامي

نامي يا لعبة زغيرة .. عفرشتي بسريري

ولو نغفى عالحصيرة.. بتسعد فيكي أحلامي


ثم تقول في أغنية أخرى بإيقاع محبب للأذن، سهل وبسيط، حتى تشعر أن من يغني صديقك أو شخص مقرب منك:

ﻗﻤﺮ ﺃﺑﻮ ليلة .. ﺷﻮ ﺗﻌﺸﻴﺖ الليلة؟

ﺧﺒﺰﻩ ﻭﺟﺒﻨﻪ ﻣﺎلحة .. ﻣﻦ ﻋﻨﺪ ﻋﻤﺘﻲ ﺻلحة

ﻗﻤﺮ ﺃﺑﻮ ليلة .. ﺷﻮ ﺗﻌﺸﻴﺖ ﺍلليلة

ﺧﺒﺰﻩ ﻭﺟﺒﻨة ﻭﺧﻴﺎﺭة .. ﻣﻦ ﻋﻨﺪ ﺳﺘﻲ ﺍﻟﺨﺘﻴﺎﺭة


إذا سلّمنا بما قاله الفيلسوف الألماني «شوبنهاور» عن الموسيقى أنها لا تتحدث عن الأشياء، إنما تتحدث بكل بساطة عما وراء الأشياء؛ فسنجد أن ريم بنا طبقت هذه النظرية ببساطة، فهي تغني لما وراء الأشياء؛ فموسيقى المقاومة التي قدمتها ريم تحدثت عنا جميعًا، عن مكنونات نفوسنا، عن حبنا وفرحنا، وحلمنا البائس، وأملنا وألمنا.

شتا .. شتا .. شتا .. تجمعنا سوا

ونجوم بالسما غرقانة .. وعالدفا بيحلا السهر

ببساطة، كتبت ولحنت ريم ببساطة، وغنت ببساطة، ثم رحلت ببساطة!



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.