تُعرَف الصهيونية كمصطلح سياسي بأنها

الحركة اليهودية

التي ظهرت في العقد الأخير من القـرن التاسـع عشر، وهي مشتقة من كلمة (صهيون) في إشارة إلى «جبل صهيون» (أو جبل النبي داود) في القدس. وكان الكاتب الصحفي النمساوي اليهودي ناثان بيرنباوم أول من استخدم كلمة الصهيونية بالمعنى السياسي في صحيفته «الانعتاق الـذاتي» عـام 1890، ليصف بها التحول الذي لحق بالتعلق اليهودي بجبل صهيون وأرض فلسطين، من البعد الديني إلى برنـامج سياسي يستهدف نقل اليهود إلى فلسطين. وعنـدما تمكن ثيودور هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، ظهرت الصهيونية كفكرة واضحة المعالم وكبرنامج سياسي عـام 1897، وأُعلـن عـن قيـام «المنظمة الصهيونية».

وقد
اختلفت تصنيفات والتيارات الصهيونية كل حسب أهدافها وأفكارها، وكان من أبرز هذه التيارات
ظهور «الحركة الصهيونية التصحيحية».

صهيونية «الحد الأقصى»

تعددت

الاتجاهات والتيارات

داخل الحركة الصهيونية، ما بين صهيونية توطينية واستيطانية، وعملية وسياسية، وعلمانية ودينية، وعُمّالية وإقليمية، وغيرها. وقد مثّلت «الصهيونية التصحيحية» أحد تيارات الصهيونية السياسية.

ارتبطت

الصهيونية التصحيحية

بشخصية فلاديمير زئيف جابوتنسكي الذي يُعتبر رمزًا من رموز التطرف الصهيوني. ولد جابوتنسكي عام 1880 في مدينة أوديسا بروسيا، وكان من

المُطلعين على كتابات الصهاينة

الأوائل أمثال ليوبنسكر وثيودور هرتزل.

وقد ظهرت علاقته بالصهيونية في أعقاب بعض الأعمال المضادة لليهود في أوديسا، وأخذ ينادي بضرورة محاربة التوجهات المعادية لليهود في روسيا وأوروبا، وتوصّل إلى قناعة بأن مصير الصهيونية مرتبط إلى حد كبير بما سماه «تحرير فلسطين من أيدي الأتراك»، وأنه من الضروري المساهمة في المجهود الحربي إلى جانب الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى.

ظهرت الصهيونية التصحيحية داخل المنظمة الصهيونية عام 1923، ولعبت دورًا في محاولة إقامة الدولة اليهودية على ضفتي نهر الأردن، والمطالبة بأن تكون الدولة الصهيونية هي الهدف المعلن للحركة الصهيونية. تمكنت الحركة التصحيحية من عقد عدة مؤتمرات، ناقشت من خلالها العديد من القضايا السياسية المتنوعة، بهدف تصحيح أو تنقيح أو مراجعة السياسة الصهيونية.

فقد اعتبر جابوتنسكي أن توجه الصهيونية في هذا الوقت ليّن ومرن أكثر من اللازم، مما دفعه في عام 1923 إلى الانشقاق عن المنظمة الصهيونية، وتأسيس المنظمة الصهيونية الجديدة، ودعا إلى التعامل مع القضية الصهيونية بالمزيد من الحسم وإقامة الدولة الصهيونية بالقوة. كما نادى بتفريغ أوروبا من اليهود وتهجير أكبر عدد ممكن من اليهود في أقصر وقت، وذلك من خلال توطين أغلبية يهودية في فلسطين وتأهيل الشباب الصهيوني عسكريًا.

تشكّلت الحركة التصحيحية

في شرق أوروبا

، ثم انتقلت إلى باقي التجمعات اليهودية. وشكّلت الحركة أكبر اتجاه مُعارِض للاتجاه الصهيوني العمالي؛ لأسباب سياسية وأيديولوجية. لذلك أُطلق عليها صهيونية «الحد الأقصى».

وعند التمعن أكثر في أسباب الخلاف بين المنظمة الصهيونية العالمية والتصحيحيين، نجد أن أهم أسباب الخلاف كان بسبب اعتبار التصحيحيين أن مواقف المنظمة الصهيونية العالمية مهادنة تجاه السياسة البريطانية التي صاغها وزير المستعمرات- حينئذ- «ونستون تشرشل» في الوثيقة المعروفة باسم الكتاب الأبيض في عام 1922، والقاضية بفصل شرقي الأردن عن فلسطين، وهو جزء أصيل في فكر التصحيحيين، لا يمكن التنازل عنه.

وطالب التصحيحيون بأن تكون

الدولة الصهيونية

الهدف المعلن للحركة الصهيونية إلا أن مطلبهم رُفض، وكان من أهم أسباب الانفصال أيضًا، افتقار المنظمة الصهيونية آنذاك للطابع العسكري، وأنها لم تستعمل القوة المفرطة في ذلك الوقت في استعمار فلسطين، وأنه كان يجب استعمال العنف والإرهاب لغزو فلسطين، وتأسيس الكيان الصهيوني بالقوة العسكرية، وهي خطة جديدة في العمل تقضي بعدم اتباع الأسلوب السياسي وسيلةً للوصول إلى الهدف، ولا بد من البدء بتشجيع الهجرة الجماعية واحتلال الأراضي الفلسطينية والاستيطان وفرض الأمر الواقع ولو بالقوة.

ومع تصاعد

حملة اليسار الصهيوني

ضد جابوتنسكي قرر الاستقالة من اللجنة التنفيذية للمنظمة
الصهيونية، وأرسل رسالة في 18 يناير/كانون الثاني 1923، لرئيس اللجنة التنفيذية، تضمنت
انتقادات لعمل اللجنة التنفيذية الصهيونية، وكان أهم ما قاله:

طالبت القيادة بالالتزام بمبادئ الصهيونية السياسية التي أقرّها هرتزل وبرنامج بازل، فأصرّت القيادة على أنها ستسير على التكتيك نفسه… ولأنني أمشي في اتجاه معاكس لنهج القيادة الصهيونية، فإنني أرى نفسي خارج المنظمة الصهيونية.

ويبدو أن السبب الأقوى لاستقالة جابوتنسكي شعوره بالتقييد الكبير، وعدم شعوره بالحرية أثناء وجوده في المنظمة الصهيونية، وعدم اقتناعه بشخصية وايزمان القيادية، وميل المنظمة الصهيونية أكثر فأكثر نحو اليسار.

الغزو أو الموت

عندما

استقال جابوتنسكي

من اللجنة التنفيذية الصهيونية والمنظمة الصهيونية، ذهب إلى برلين للعمل في صحيفة «رازسفيت» الناطقة باسم الاتحاد الصهيوني الروسي- الأوكراني، وسرعان ما أصبحت الصحيفة ناطقة باسمه، وفي ديسمبر/ كانون الأول 1923، أعلن عن تأسيس منظمة «بيتار» من خلال اتحاد أربع مجموعات شبابية في إطار تنظيمي واحد سُمي «هستدروت ترومبلدور».

ثم نشر جابوتنسكي سلسلة مقالات في «رازسفيت» بعنوان «برنامجنا»، حدّد
فيها البرنامج السياسي لمنظمة بيتار، وكان هو نفسه البرنامج السياسي للحركة التصحيحية
لاحقًا، وباختصار شديد كان كالتالي:

  1. هدف الصهيونية: دولة عبرية.
  2. الأرض: على ضفتي نهر
    الأردن.
  3. الخطة: الاستيطان
    المُكثف.
  4. حل المشكلة المالية:
    القرض القومي.

وقد رأى جابوتنسكي أن تلك المبادئ الأربعة
لا يمكن تحقيقها دون مساعدة دولية، وحدّد جابوتنسكي لهم الطريق حيث قال:

خطتنا: الصراع المكشوف، وإنشاء قوة دفاع مستقلة. فمن دون صراع، ومن دون قوة حماية، لن تكون هناك صهيونية… الطريق الجديد تعليم الشباب اليهودي في «أرض إسرائيل» وخارجها فنون القتال العسكري، وأن يكونوا دائمًا مستعدين للنداء الأول.

أُعجب جابوتنسكي بأولئك الشباب الذين لمس فيهم الحماسة والتطرف، وهما ما سعى لتأكيدهما بين الأوساط الشبابية لتحقيق هدف الصهيونية ضد ما سماه «الصهيونية الغاندية» (نسبةً إلى مبادئ اللاعنف عند مهاتما غاندي)، والتي تدعو- من وجهة نظره- إلى اتباع الطرق السلمية، وأوضح جابوتنسكي أن العرب يجب أن يجدوا شبابًا يهوديًا يُدافع عن مصالحه في اغتصاب فلسطين! لأن في ذلك تأكيدًا للحق اليهودي فيها.

كان فكر جابوتنسكي

متأثرًا أيديولوجيًا بالفكر الفاشي

الذي ساد أوروبا آنذاك، فكان يرى أن الإنسان أمامه اختياران لا ثالث لهما: الغزو أو الموت، وأن كل الدول التي لها رسالة قامت على السيف وحده.

«الجدار الحديدي»

طرحت

الحركة التصحيحية

نظريتها حول طبيعة الصهيونية وموقفها تجاه العرب، وكان جابوتنسكي مُخالِفًا للنظرية الصهيونية الأولى التي تقول إن «الصهيونية كانت من أجل اليهود ولم تكن ضد العرب… وهي ستكون نعمة على فلسطين». وجاء بنظرية «الجدار الحديدي» بين اليهود والعرب، حيث قال:

هذه هي سياستنا تجاه العرب… وأي طريق أو سبيل آخر هو نفاق فقط.

فقد نظر التصحيحيون للشرق الإسلامي نظرة تكبر واحتقار، وآمنوا بأهمية منطق القوة أي «الجدار الحديدي» في تحديد العلاقة بين التجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين والعرب، وطرحوا خططًا عدة لترحيل العرب (الترانسفير).

ويرى باحثون إسرائيليون أن المقصود
من مصطلح «

الجدار الحديدي

» هو السعي إلى فرض سلسلة من
الظروف السياسية التي تحرم العرب من التدخل في المشروع الصهيوني، وذلك من خلال استعراض
القوة، وفي حالات الضرورة، استخدام القوة المادية الفعلية، لأن تحقيق الهدف القومي
الصهيوني لا يمكن له أن يكون مشروطًا بالموافقة العربية، ويتعين على السياسة
الصهيونية ألّا تترك أي مجال للشك في العقل العربي بأن اليهود واليهود فقط،
سيكونون أصحاب السيادة في «أرض إسرائيل».

واستنادًا إلى الفرضية التي جاء بهاجابوتنسكي في مقالتين بعنوان «عن الجدار الحديدي؛ والنظرية الأخلاقية للجدار الحديدي» والتي تقول بأن الشعب العربي عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، لم ولن يتنازل عن حقه في بلاده وتحويلها إلى شعب آخر، بغض النظر عن مساحة البلد وقوة استيعابها الاقتصادية. فهو يخلُص إلى:

ليس ثمة مجال للحديث، لا في الحاضر ولا في المستقبل المنظور، عن تصالح بين العرب وبيننا، يتحقق عن طيب خاطر… فمن غير الممكن أبدًا الحصول على موافقة طوعية من العرب على تحويل أرض إسرائيل من بلاد عربية إلى بلاد ذات أغلبية يهودية… وذلك لأن كل شعب يحارب المستوطنين طالما بقي لديه بصيص أمل في التخلص من خطر الاستيطان، هكذا فعل العرب، وهكذا سيفعلون طالما بقي لديهم بصيص أمل.

لذلك، يرى جابوتونسكي أن على اليهود إخضاع السكان الأصليين أن يفقدوا أي «بصيص للأمل» في التغلب على الكيان الصهيوني الذي سيقام على ضفتي الأردن، سواء من خلال بناء قوة قهر لا تقوى عليها شعوب المنطقة، أو من خلال إضعافها، أو كليهما معًا. ويستطرد مُوضحًا، أن الطريق الوحيد نحو اتفاق مستقبلي هو الابتعاد التام عن جميع محاولات التوصل إلى اتفاق في الوقت الحاضر. وأمّا بشأن اللحظة التاريخية الملائمة للدخول في مفاوضات وإبرام الاتفاقيات، يرى جابوتنسكي أنها لحظة انكسار الأمل وانعدامه لدى العرب في الانتصار على الكيان اليهودي.

ويمكن أن نُلخِّص أفكار جابوتنسكي عن الجدار الحديدي في أربع نقاط أساسية:

  1. السعي إلى فرض أكثرية يهودية على ضفتي الأردن.
  2. التحالف مع القوى الإمبريالية العظمى لتعزيز
    ضعف المحيط العربي عمومًا والاستعانة بها لإنشاء دولة يهودية على كامل التراب على
    ضفتي الأردن.
  3. الإحجام عن أي محاولة للتفاوض مع المحيط العربي
    عمومًا والفلسطيني خصوصًا، إلى حين ينعدم لديهم «بصيص الأمل».
  4. بناء قوة عسكرية جبارة لا يمكن للمحيط العربي
    وسكان البلاد العرب التغلب عليها.

أبناء اليمين وورثة التصحيحيين

شكّلت الصهيونية التصحيحية المُكوِّن الأساسي لليمين الصهيوني، منذ منتصف عشرينيات القرن العشرين، فنجد أنه عام 1948، تأسس

حزب حيروت

، وهو حزب سياسي إسرائيلي قام على يد مناحيم بيغن ومنظمة إرجون، وذلك لنشر أفكار جابوتنسكي والصهيونية التصحيحية، وشكّل أهم وأكبر حزب في الكتلة اليمينية التي تشكلت في وقت لاحق وسُميت «الليكود».

وقد أثّرت الحركة

الصهيونية التصحيحية

في مجمل النظام السياسي الصهيوني منذ تأسيسها عام 1925، وقبل وبعد قيام الدولة الصهيونية عام 1948، فقد سيطر قادة وأبناء قادة الحركة التصحيحية– ممثلين في الليكود وأحزاب اليمين المتطرف- على الحكم في (إسرائيل) منذ عام 1977، فزعيم منظمة ايتسل، مناحيم بيغن، أصبح رئيسًا للوزراء، وكذلك الأمر بالنسبة لـيتسحاق شامير أحد قادة منظمة ليحي.

ونجد حاليًا أن تسيفي ليفني هي ابنة يروحام ليفني، قائد العمليات في «ايتسل». ونجد بنيامين زئيف بيغن الوزير اليميني المتطرف، هو ابن مناحيم بيغن. والوزير آرييه إلداد هو ابن يسرائيل إلداد، أحد أهم مفكري منظمة ليحي. وكذلك الوزير تساحي هانغبي هو ابن غيئولا كوهين التي تزعمت حركة «هتحيا» والتي كانت تعمل في الإذاعة السرية لـ«ليحي».

وقد أثبتت العديد من الدراسات أن

«الجدار الحديدي»

كان بمثابة عقيدة استراتيجية ارتكزت إليها الحركة الصهيونية منذ العشرينيات، ومن بعدها جميع حكومات إسرائيل، بل تم اعتبارها أساسًا للعقيدة العسكرية التي لا تزال سائدة. كذلك يخبرنا شموئيل كاتس الذي كان أحد أعضاء منظمة «ايتسل» ومن قيادات حزب حيروت، أن عقيدة «الجدار الحديدي» ظلت معتمدة في إسرائيل، حتى مع دخول القرن الـ21، وقد اتفق معه عدد من الباحثين مثل آفي شلايم وإيان لوستيك، وقيادات صهيونية، ومُنظِّرون عسكريون مثل ليمور ليفنات وإسحق بن يسرائيل.

وعلى الرغم من أن  جدار جابوتنسكي  يشتمل- أيضًا- على نظرية لتغيير العلاقات اليهودية الفلسطينية ويقود إلى المصالحة والتعايش السلمي، بحسب «آفي شلايم» في كتابه «الجدار الحديدي»، فإنه يلاحظ أن سياسيي اليمين الإسرائيلي، مع أنهم

حَمَلة إرث جابوتنسكي

، كانوا أكثر ميلًا للوقوع في أسر الجدار الحديدي وتبنيه وسيلة دائمة للحياة.

فمثلًا تلخّص فهم إسحق شامير للجدار الحديدي على أنه حصن في وجه التغيير ووسيلة للإبقاء على الفلسطينيين في حالة خضوع دائم لإسرائيل. ونجد أن نتنياهو قد أكد في مناسبات عديدة التزام إسرائيل

بالجدار الحديدي

، فها هو يخبرنا في جلسة خاصة للهيئة العامة للكنيست لإحياء ذكرى جابوتنسكي (في 3 أغسطس/آب عام 2016) أنه ينتمي إلى التيار الذي يستكمل طريق جابوتنسكي، ويؤكد أنه من العسير إدراك مساهمة جابوتنسكي في الثقافة العبرية والوعي القومي، ومساهمته البالغة لتجديد قوة شعبنا للدفاع وتعزيز مفهوم الجيش العبري، وتجذير عقيدة الجدار الحديدي الأساسية. وأكد نتنياهو أنه لا يوجد- تقريبًا- أحد حاليًا لا يتفق مع جابوتنسكي.

وأضاف نتنياهو أنه ورث سياساته عن
والده، الذي أخذها بدوره عن جابوتنسكي، والتي تتلخص في مفهوم «تعزيز القوة». ويخلص
نتنياهو إلى القول إنه تلميذ جابوتنسكي، ويسعى إلى ترجمة أفكاره ومفاهيمه على أرض
الواقع.

وعند النظر إلى رئيس الوزراء الجديد «نفتالي بينيت»، نجده يحمل

أيديولوجية يمينية واضحة

، فهو ينتمي إلى تيار الصهيونية الدينية، ويناضل من أجل «نيل الشعب الإسرائيلي حقوقه كافة»، مؤمنًا بـ«أرض إسرائيل من النهر إلى البحر».

كما يرى بينيت أن «الوقت حان لضم الضفة إلى إسرائيل»، ويؤكد وجوب استخدام الخيارات العسكرية للتصدي لما يُطلِق عليه «الإرهاب الفلسطيني»، ومنع أي محاولة لإقامة دولة فلسطينية. وقد وصفت الصحافة الإسرائيلية قبل أعوام بينيت بأنه «مسيح الصهيونية الدينية المنتظر»، والتي يمكن اعتبارها تطويرًا لمبادئ أيديولوجية جابوتنسكي.