أن يكتب المرء عن الحرب لَهو أمر جلل، كيف يصف تلك الأهوال والفواجع، آلام الفقد وصرخات الثكالى، الجوع والمرض، الركض خوفًا مما تمطره السماء من نيران، الاختباء في القبور أحياءً حتى تنتهي الغارة.

اختارت الكاتبة النيجيرية «تشيماماندا نجوزي أديتشي» أن تكتب عن الحرب الأهلية، كيف يمكن لوطن واحد أن يقتتل، كأنها تصف يدًا يمنى تقاتل يدًا يسرى في نفس الجسد، راغبةً في اقتلاعها من جذورها ومحو أثرها وكأنها لم تكن.

«نصف شمس صفراء» هو الاسم الذي اختارته الكاتبة لعملها ويرمز لعلم إقليم بيافرا الجنوبي الذي انشق عن نيجيريا الشمال، بعد تعرض قبائل «الإيبو» في الجنوب للاضطهاد من قبل قبائل «الهاوسا» و«الفولاني» في الشمال. كانت نصف الشمس تتوسط العلم على خلفية مؤلفة من ثلاثة ألوان؛ الأسود يرمز للقتلى من الإيبو، والأحمر يرمز لدمائهم التي سالت على الأرض، والأخضر هو أرض بيافرا الخضراء التي كان أهلها يتمنون إعمارها.

تدور أحداث القصة في الفترة بين عامي 1967 و1970. تتابع الأحداث من خلال خمسة شخوص أساسية والعديد من الشخصيات الفرعية على امتداد 600 صفحة، كل منهم يدور في فلكه، ولكنهم جميعًا يتطلعون نحو مستقبل آمن في وطن مستقر، رغم عذابات الحاضر وأوجاع الماضي.

الخادم والسيد

كان «آجو»، الطفل القروي ذو العشر سنوات، أتت به عمته ليخدم في بيت البروفيسور «أودينيبو» الأستاذ الجامعي، لم يصدق آجو أنه يمكنه أن ينام على سرير في غرفة مضاءة بالكهرباء، وأن يشرب ماءً باردًا من الثلاجة، وأكثر ما أسعده وكاد يُذهب بعقله أنه سوف يأكل اللحم بشكل يومي.

كان آجو يقرأ بالكاد، أسرته الفقيرة لم تكن لتتحمل عبء تعليمه، فلما علم أودينيبو بذلك أصر على أن يذهب إلى المدرسة ليتعلم. كان آجو مثابرًا، فلم يدخر جهدًا في التعلم، كان نَهِمًا للمعرفة، فقرأ كل ما وقعت عليه عيناه، وكانت مكتبة السيد مصدره الأكبر.

كان أودينيبو ناقمًا على العنصرية، عنصرية العالم الأبيض ضد كل ما هو أسود، كانت أفريقيا مستودعًا للمادة الخام بالنسبة للرجل الأوروبي لا أكثر، لا ضير في أن يموت كل الأفارقة في سبيل تحقيق المزيد من النهضة للعالم الأبيض. استقلت نيجيريا عن بريطانيا في أوائل الستينيات، ولكن العنصرية لم تنتهِ أبدًا. لم يكن أودينيبو يحب أن يناديه آجو بـ «السيد»، بل كان يحب أن يسمع اسمه مجردًا حتى من خادمه، ليقينه أنه ليس هناك أسياد وعبيد، وأن الجميع سواسية حتى إن أصر العالم على غير ذلك.

كان آجو يعمل كل ما بوسعه ليسعد السيد ويبقيه راضيًا عنه، فهو لم يكن يتصور أن تنتهي الحياة التي ينعم بها معه ومع أولانا وبيبي لاحقًا.

كان هذا السيد مجنونًا تقريبًا، أمضى سنوات كثيرة من عمره فيما وراء البحار في قراءة الكتب، يتحدث إلى نفسه في مكتبه، ولا يرد التحايا، كما أن شعره غزير جدًّا؛ قالت عمة آجو هذا التعريف بصوت خفيض فيما يسيران في الدرب، لكنه رجل فاضل، أضافت. وما دمت تعمل بجد، فسوف تأكل جيدًا، حتى إنك سوف تأكل اللحم كل يوم، لم يكن آجو ليصدق أن أي إنسان، ولا حتى هذا السيد الذي هو على وشك المعيشة معه، يأكل اللحم كل يوم، لكنه لم يجادل عمته، لأنه كان مزدحمًا بالأفكار والترقب.





جزء من النص.

الحرب تمحو ما قبلها

كانت أولانا وكاينين توأمين، لم تكونا متطابقتين كحال معظم التوائم، ولم تكونا حتى متشابهتين ذلك التشابه المألوف بين الإخوة، كان التنافر بينهما هو السائد في الشكل والمضمون، استطاعت الكاتبة أن تجعل القارئ يشعر أن ما بين أولانا وكاينين من تضاد يشبه كثيرًا ما بين شمال نيجيريا وجنوبها، وكأنها تقول إن هذه حرب أهلية على نطاق أصغر.

يختلف الإقليمان بعضهما عن بعض في التكوين الإثني واللغة والديانة، وتختلف الأختان في الطباع والشخصيات، ولكن ما بين الأختين لم يكن سوى حرب باردة أقرب إلى عدم الوفاق.

كانت أولانا هي الأخت الأكثر جمالًا والأكثر تحررًا من قيود الأسرة، لم تكن ترغب في الانضمام لأي من أعمال والدها الثري، كانت تفضل أن تحيا مع أودينيبو حياة الثوار المثقفين، حياة مُطعمة بالوعي المؤلم، عالم مفتوحة نوافذه على ما يحدث في ساحة السياسة المحلية والعالمية.

أمَّا عالم «كاينين» ووالدها فكان أهم أعمدته الاقتصاد، تأثير السياسة على الاقتصاد هو أكثر ما يهم، لكن تأثيرها على الإنسان يبقى في المرتبة الأدنى. كانت كاينين ذات شخصية قوية، سيدة أعمال بكل معنى الكلمة، المرأة التي تعرف قدراتها جيدًا فيما يتعلق بالعمل وإجراء المفاوضات وإبرام العقود.

اشتدت الحرب، وأُحكم الحصار على قبائل الإيبو في الجنوب بعد إعلان استقلال بيافرا، كان الدعم العالمي للدولة التي تتلمس طريقها حديثًا محدود جدًّا.

كانت بيافرا تُدك بالصواريخ، وكان أهلها لا يجدون ما يأكلون إذا ما تأخرت عليهم قوافل الإغاثة، وهو ما كان يحدث كثيرًا، تحول الإقليم إلى مقبرة جماعية، من لم يمت فيها بالقصف فإنه سوف يموت من المرض أو الجوع.

كان الشكل التقليدي للطفل البيافري هو الطفل النحيف جدًّا، ذو جلد مجعد وبطن منفوخ، علامات واضحة لسوء التغذية، كانت المعونات ضئيلة، والحليب المجفف لا يكفي احتياجات ربع الأطفال، والدواء غير متوفر، اضطرت الأمهات لذبح الكلاب والقوارض لإطعام أسرهن، وصناعة حساء أوراق الأشجار في معظم الأحيان.

في ظل تلك الحرب الطاحنة عاد السلام المفقود لعلاقة أولانا وكاينين، بعد أن قررت كل واحدة منهما على حدة أن تبقى في بيافرا، بعد أن قرر والداهما السفر إلى إنجلترا حتى تستقر الأمور في الداخل، كانت كاينين في فترة من فترات الحرب المسئولة عن المعونات، اهتمت بالجوعى وأرادت إيصال الطعام إليهم، أرادت أن تقي الأطفال شر سوء التغذية، كانت كل من الأختين تمد يد العون للأخرى، تتحايلان على ضراوة الحرب بكلمة طيبة أو عناق دافئ أو استحضار ذكرى عذبة من الطفولة البعيدة، حتى جاء اليوم الذي خرجت فيه كاينين لتقايض على بعض الطعام في الجهة الأخرى ولم تعد.

أطلقت كاينين حركة «لنزرع طعامنا»، وحينما جمعت الرجال والنساء تساءلت أولانا كيف تعلمت أن تحمل المجراف، لكن التربة كانت جافة، شققت الريح الشفاه والأقدام، ثلاثة أطفال ماتوا في يوم واحد، البئر جفت، كانت كاينين تذهب بين الحين والآخر إلى المديرية لتحصل على صهريج مياه، لكنها كانت تعود في كل مرة بوعد غامض من المدير، الرائحة البشعة للأجساد غير المغسولة، اللحم البشري المتعفن من الأضرحة وراء البنايات غدت أقوى.





جزء من النص.

كان العالم صامتًا حينما كنا نموت

هذا هو الاسم الذي اختاره «ريتشارد» ليعنون به كتابه عن الحرب والحصار والأيام التي كان الموت يحيط بهم فيها كسياج من كل جانب. كانت رائحة الجو مزيجًا من البارود والجوع والعفن، أحب ريتشارد كاينين واختار أن ينتمي للإيبو مثلها، فتحدث لغتهم وتضامن معهم وكتب عنهم المقالات إبان الحصار، ولكنه كان دومًا يتطلع لمشروع أكبر من تلك المقالات، كان يرغب في أن يحكي كل ما حدث في كتاب، أن يكتب عن التهجير والاعتداء، عن المنازل التي هرب منها قاطنوها خوفًا من مطاردة جيش نيجيريا، حتى تنامت الأشجار على الجدران ولم تترك مكانًا للإنسان، رأى ريشتارد بعض تلك الوقائع رأي العين وسمع البقية ممن عاشوها وشهدوا عليها، كان يكتبها بقلم يقطر دمًا وبقلب محب مكلوم.

رأى ريشتارد أن آجو يكتب كثيرًا منذ عاد من الجيش، كان يقص ما رآه أثناء خدمته العسكرية الإجبارية، ربما كان يحكي أيضًا ما سمعه من أهله وجيرانه بعد عودته، ربما كان يكتب عن تفاصيل حياته مع أودينيبو وأولانا وبيبي، كان ثمة شيء ما يتمحور حول ثنائية الحرب والحب، فبالرغم من كل الظروف الحالكة كان الحب يختبئ دومًا في مكان ما، كان الرفق والرعاية يسودان الموقف، عطف أولانا على أودينيبو الحزين على فقد أمه وعدم قدرته على دفنها ولا إلقاء نظرة وداع عليها بسبب الحصار، رعايتها الكاملة لـ «بيبي» ابنة أودينيبو من امرأة أخرى، رعاية الجميع لآجو بعد عودته مصابًا من الجيش، جميعها ممارسات تبرهن على أن الظروف الحالكة أبقت على شيء من الإنسانية.

بعد اختفاء كاينين شعر ريتشارد أنه بات كشجرة اقتُلعت من جذورها، اختار الرجل البريطاني أن ينتمي لهذه البقعة في أفريقيا، حتى إنه حينما أراد أن يؤرخ للحرب قال «حينما كنا نموت»، توحد مع ضحايا الحرب وكره صمت المجتمع العالمي، وبطبيعة الحال صمت وطنه الأم، والذنب لم يكن فقط بغض الطرف عن ضحايا الحرب الذين بلع عددهم مليون قتيل، وإنما كان وطنه يؤازر نيجيريا في حربها ضد وطنه الثاني.

كان ريشتارد يتابع آجو وهو يكتب، وشعر بعد أن فقد انتماءه أو ربما فقد من كانت تربطه بتلك الأرض، أن هذا الكتاب وهذا العنوان من حق آجو وليس من حقه، آجو هو المواطن الأسود، الذي شربت بيافرا من دمه، تجرع ظلم نيجيريا هو وأسرته وأقربائه، ودفع ثمن الاختلاف الإثني بين الشمال والجنوب من كرامته وآدميته.

كتب آجو لخاتمة كتابه هذه القصيدة:

هل كنتم صامتين حينما كنا نموت؟

هل شاهدتم الصور عام 67

صور الأطفال الذين اعتلى شعرهم الصدأ

بقع المرض تسكن تلك الرءوس الصغيرة

ثم يسقطون كما تسقط أوراق الشجر الذابلة في الغبار

تخيلوا أطفالًا بأذرع مثل سواك الأسنان

إنه سوء التغذية المميت… كلمة عسيرة

الكلمة التي ليست قبيحة بما يكفي… إنها الخطيئة





جزء من النص.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.