لدينا في الأدبيات القومية العربية أسطورة حية يمكن أن نسميها «أسطورة تقرير كامبل – بنرمان»، ترتبط بتقرير مزعوم عن مؤتمر بريطاني عُقد في الهند عام 1907 لاستعراض واقع ومستقبل الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وخلص إلى عدة توصيات فيما يتعلق بالعرب وفلسطين. وحسب هذا التقرير المزعوم/ المقبول لدى النخبة العربية حتى الآن فإن المشاركين في ذلك المؤتمر خلصوا إلى الكشف عن أهمية المنطقة العربية وعن خطورة وحدتها السياسية، ولذلك رأوا «من الضروري زرع جسم غريب في قلبها (إسرائيل) يمنع وحدتها في المستقبل».


الإيمان بالتقرير الأسطورة!

وفي الواقع جاء الكشف عن هذا التقرير المزعوم في نهاية الأربعينيات؛ أي بعد أن تحول «الوطن القومي الموعود» في 1917 إلى «دولة اسرائيل» في 1948، ثم انتشر بشكل غريب في الأدبيات القومية العربية بعد أن روجت له النخبة القومية العربية في كتاباتها وندواتها ومذكراتها، حتى أصبح يشار إليه فقط باسم «تقرير كامبل- بنرمان» على اسم رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ليمثل الدليل القاطع على دور بريطانيا في خلق إسرائيل ويغطي في المقابل مسؤولية القيادات العربية (والفلسطينية بالتحديد) عما حدث في 1948.

وكنت كغيري قد قرأتُ هذا التقرير في أحد الكتب المدرسية السورية في مرحلة الدراسة الثانوية، حيث تتكرس المسلّمات في نفوس الناشئة، ثم قرأته في العديد من الكتب باعتباره من المسلمات لفهم ما حدث في 1948، وحتى أنني أشرتُ إليه في مقالة نشرتها في يوغسلافيا في 1978 حين كانت يوغسلافيا تتعاطف مع العرب ومع الحل العادل للقضية الفلسطينية.

رئيس الوزراء البريطاني هنري كامبل بنرمان

وقد تصادف في الذكرى المئوية لذلك المؤتمر، الذي عقد في الهند وأصدر ذلك التقرير المزعوم، أن نشر الباحث الفلسطيني المعروف أنيس صايغ مذكراته التي كشف فيها عن هذه «الأسطورة» (تقرير كامبل- بنرمان)، بعد أن كان مؤمنًا بها في شبابه وعن الرحلة الطويلة التي جاب فيها الآفاق ليكشف تلك الحقيقة المرة: لا وجود لما يسمى بـ «تقرير كامبل-بنرمان» عن فلسطين وإسرائيل، وإنه لم يكن أكثر من أسطورة أفادت الفكر القومي العربي في النصف الثاني للقرن العشرين.

ومع أنني كتبت عرضًا لهذه المذكرات في إحدى الصحف الأردنية المقروءة (الغد 18/11/2006)، وبيّنت فيه كيف تشكلت هذه الأسطورة، إلا أن الأسطورة تبقى حية عند الشعوب ولايمكن استئصالها بكتاب أو مقال. لكن الغريب أن تبقى مثل هذه الأسطورة حية عند النخبة العربية حتى الآن؛ أي في الذكرى الـ 110 لمؤتمر الهند ولتقريره المزعوم عن فلسطين وإسرائيل. ففي الجريدة ذاتها (الغد 5/12/2016) كان الدور في ركن «سياسي يتذكر» للشخصية المعروفة عبد اللطيف عربيات، أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين في الأردن ورئيس مجلس النواب الأسبق، الذي كشف في الحلقة الأولى عن بدايات وعيه السياسي وربط ذلك بما «ذكره رئيس وزراء بريطانيا في العام 1907 لحكومات أوروبا: إننا نسعى لإقامة كيان غريب في فلسطين تكون مهمته الأساسية فصل شرق البلاد العربية عن غربها، ويبقى معسكرًا متقدمًا لنا للسيطرة وإدارة شؤون العالم».

وكما يلاحظ هنا فإن التقرير المزعوم الذي حمل اسم رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل – بنرمان (1836-1908) تحول الآن إلى رسالة منه إلى حكومات أوروبا بنصٍ يختلف قليلاً عما ورد في الكتب السابقة التي اعتمدت على «تقرير كامبل – بنرمان» للكشف عن التآمر الاستعماري على المنطقة ودور بريطانيا بالذات في خلق إسرائيل. ومن الملاحظ هنا في عشرات الكتب التي اعتمدت على التقرير أن كل كتاب قد يضيف كلمة هنا وجملة هناك، ولكن لا أحد منها يشير إلى المصدر الأصلي الذي استقى منه هذا التقرير. وهكذا بقي هذا التقرير المزعوم حقيقة حية حوالي نصف قرن من الزمن إلى أن كشف أنيس صايغ عن أسطوريته في 2006. لكن هذا الكشف لم يفد بشيء لأن عبد اللطيف عربيات، وهو من هو، لا يزال حتى هذه الأيام يتحدث عنه كحقيقة تفسر ما حدث في المنطقة خلال 1917-1948؛ أي من وعد بلفور إلى الإعلان عن دولة إسرائيل في 1948.


أنيس صايغ يكشف اللغز!

هنري كامبل

هنري كامبل

وكان أنيس صايغ، وهو أحد رموز القومية العربية/ الناصرية في مرحلة توهجها في الخمسينيات والستينيات، قد وجد بعد أن أصبح في 1966 مديرًا لمركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت أن كل كاتب يعتمد على غيره في ذكر هذا التقرير المزعوم (برهان الدجاني ومنذر عنتباوي وخيري حماد وشفيق ارشيدات وغيرهم)؛ أي دون ذكر المصدر الأصلي للتقرير المزعوم. وبنوع من التحدي قرر أنيس صايغ أن يذهب إلى لندن حيث بقي شهرًا كاملاً في مراكزها المعروفة (مكتبة المتحف البريطاني، ودار الوثائق البريطانية وأرشيف جامعة كامبردج حيث درس كامبل- بنرمان وأودع كل أوراقه الشخصية بما في ذلك رسائله الغرامية). ومع أنه وجد الكثير من الوثائق عن المؤتمر الذي عقد في الهند عام 1907 إلا أنه لم يجد التقرير المزعوم، ولذلك راجع أعداد جريدة «التايمز» عن تلك الفترة التي سبقت وأعقبت المؤتمر المذكور، فوجد فيها الكثير عن المؤتمر وقراراته وبياناته دون أي ذكر للتقرير المزعوم.

أنيس صايغ عن أنيس صايغ

أنيس صايغ عن أنيس صايغ

ومع ذلك لم يستسلم أنيس صايغ، بل إنه بدأ بحثًا شاملاً بعد عودته إلى مركز الأبحاث في بيروت ليكتشف أن أول ذكرٍ للتقرير ورد في كتاب للمحامي الفلسطيني أنطون كنعان الذي كان قد غادر فلسطين واستقر في القاهرة. وبنوع من التحدي ذهب أنيس صايغ إلى القاهرة ليبحث عن المحامي كنعان فوجده على قيد الحياة، ولكن اكتشف عنده الحقيقة المرة: لا وجود للتقرير ولا لمصدر عن هذا التقرير.

كان التقرير المزعوم نتيجة صدفة جمعت في الطائرة بين الشاب كنعان المسافر إلى لندن لدراسة القانون مع راكب هندي، حيث انطلق الحديث بينهما لتمضية الوقت. فقد ذكر له كنعان كيف تآمرت بريطانيا على العرب وأصدرت وعد بلفور في 1917، وهنا ذكر له محدثه الهندي أنه قرأ شيئًا عن مؤتمر بريطاني عقد في الهند عام 1907 وناقش مصير المنطقة العربية ومنع وحدتها بإقامة دولة يهودية.

بعد هذا الاكتشاف المحبط قرر أنيس صايغ بعد عودته إلى بيروت أن يتخذ ما يمكنه على رأس هذا المركز الذي كانت كتبه عن فلسطين والصراع العربي–الإسرائيلي تعتمد على التقرير المزعوم: منع أو شطب هذا التقرير المزعوم في أي كتاب يقدم للنشر في مركز الأبحاث احترامًا للحقيقة التاريخية. وبعد مرور سنوات وسنوات على ذلك عاد وأوضح قصة هذا الاكتشاف والإحباط الذي رافقه في مذكراته التي صدرت عام 2006 بعنوان «أنيس صايغ عن أنيس صايغ».

ومع كل هذا يبقى للتقرير المزعوم تأثيره السحري على النخبة حتى الآن؛ لأنه يساعدها على تفسير مبسط لما حدث 1948 في المنطقة؛ أي بإلقاء كل المسؤولية على التآمر الخارجي، وإخفاء دور العامل الذاتي (الصراع بين القيادات الفلسطينية والعربية). فقد كانت القيادة الفلسطينية تتصارع بين «المجلسين» و«المعارضين» في 1947-1948، حتى وصل الأمر إلى ما يشبه “الحرب الأهلية” كما يسميها حسن سعيد الكرمي في مذكراته، كما أن القيادات العربية كانت منقسمة إلى محورين متصارعين: المحور الهاشمي (الأردن والعراق) والمحور المعادي (سوريا ومصر والسعودية). وفي هذا السياق يكشف وزير الخارجية السوري محسن البرازي في مذكراته كيف أنه في آب/أغسطس 1947، حين كانت القيادات العربية تتبارى في الإعراب عن استعدادها للدفاع عن فلسطين، نقل رسالة من الرئيس شكري القوتلي إلى الملك السعودي يعبّر فيها عن استعداده لتقاسم شرق الأردن بين سوريا والسعودية: «حين عودة شرق الأردن إلى أمها سورية نوافق على انضمام العقبة ومعان إلى المملكة السعودية». وهذا في الوقت الذي كان فيه الملك عبد الله يسعى إلى ضم فلسطين إلى شرق الأردن في إطار دعوته إلى توحيد «سوريا الكبرى»، التي كانت فزاعة للمحور المعادي!.


نُشر في

معهد العالم للدراسات

، للكاتب محمد م الأرناؤوط.