(1)

في بدايات الدراسة لعلم الحديث، كنا نتساءل عن كيفية الوثوق بالنقل، فتعرفنا على الشروط الخمسة التي يعرفها الباحثون في توثيق السنة النبوية وهي: (اتصال السند – عدالة الراوي – ضبط الراوي – الخلو من الشذوذ – الخلو من العلة)، وأن هذه الشروط صالحة للتوثق من أي خبر.. إلخ.

ولكن أهم ما طرأ على فهمي للعلوم هو ملاحظة الجانب البشري في بناء العلوم الشرعية، فهي ليست ضربًا من المعارف المتعالية عن الخطأ الإنساني، بل في الحقيقة هي دائرة في هذا الفلك، معترفة به وتضع القواعد والضوابط لتجنب الوقوع فيه.

أسمع الكثير من محاورات بعض الشباب المتدين ودفاعهم عن السنة، كان معظم هذه الدفاعات يستبطن معنى أن أئمة الحديث هم «قوم خارقون للعادة»، وربما يحكون لك بعض الحكايات عن قوة حفظهم، وقصص اختبارهم، كتلك التي قلبوا فيها الأسانيد على أحدهم فحفظ الخطأ في المجلس ثم رده إلى الصواب.

لا أنكر هذه الحكايات ولا أنكر قوة حفظ العديد من المحدثين الكبار، ولكن لم يقم علم الحديث في الحقيقة على ملاحظة هذا المنزع الخارق للعادة، بل هذا عين ما يجعل الكثير من الناس يتشكك في هذه العلوم جملة وتفصيلاً.

هنا كان لابد من إيضاح أن قوة هذه العلوم في بشريتها، يعني أنها لاحظت أوجه الخطأ البشري التي يمكن أن تقع في عملية النقل، ووضعت لها طرق الاختبار الرياضية –التي وضّحت أحدها في

المقال السابق

– لا أنهم فروا منها واعتمدوا على السمات الشخصية لرجالها.

وبسبب الغفلة عن هذا الأصل تعجّب البعضُ في

المقال الثاني

من ذكري لبعض الحكايات من حياتي اليومية عن رجل ينسى وآخر اختلط، ولسان مقاله يقول: ما علاقة هؤلاء برجال علم الحديث؟، ولسان حاله يقول: من ذكرتهم «أشخاص عاديون» أما رواة الحديث فهم «رجال من نمط فريد»!.

نعم «بعضهم» رجال من نمط فريد، وكثير منهم من نمط عادي، طلبوا العلم وأدوا ما تعلموه للناس، وكلهم يعتريهم ما يعتري البشر من عوارض البشرية من النسيان والخطأ والوهم والكذب وسوء الفهم، فنهض أهلُ التوثيق بأمانة البحث، ووضعوا مناهجهم المختلفة لاختبار وجود هذه الاحتمالات البشرية بطريقة يمكن لغيرهم أن يشاركهم فيها، فيحاكم أحكامهم وينظر فيما نظروا فيه.

وإذا كانت عملية معرفة حال الرواة هي أحد خطوات التوثيق، فهي ليست بآخرها، ولكن قبل أن نغادر الكلام عليها ننبه إلى أمر هام.


(2)

إن الشائع في دروس مصطلح الحديث وكتبه أن الكلام في عدالة الرواة هو الخطوة الأهم عند المحدثين وأن معنى العدالة هو بعينه المعنى المذكور في باب الشهادة في كتب الفقه، أعني من ترك المنكرات والكبائر وعدم ظهور الاستهانة بالدين ..إلخ.

وهذا الأمر صحيح بنسبة ما، فكان لابد لـ «نبدأ» الاستماع لراوٍ ما أن يشهد ظاهره بالديانة، وإلا فالمنطق يقتضي ألا يكون هناك مدخل للديانة أصلاً في عملية الرواية، فكتب السيرة تروي لنا أنفة أهل الجاهلية –على كفرهم– من الكذب من باب المروءة، ولكن أهل التوثيق احتاطوا في باب الرواية، فجعلوا التهاون بالدين الظاهر مانعًا من قبول الرواية ابتداء حتى ولو كان صادقًا في نفسه، ولكن هذا الأمر هو أمر ابتدائي وليس هو «كل الأمر» كما يظن الكثير من الناس.

حتى إن أمر الديانة الظاهرة هو أمر نسبي، فما أكثر ما طعن بعضهم –تشددًا- في رجل، فلم يقبل أهل البحث طعنه وتشدده، ولهذا شاعت بينهم قاعدة «لا يقبل الجرح إلا مُفسَّرا»؛ يعني لا يقبل طعن أحد في أحد إلا أن يبين لنا لماذا طعن فيه، فقد يكون الطاعن صاحب هوى أو متشددًا في دينه ويحمل الناس على رأيه الضيق أو يكون هناك خلاف شخصي بين الراوي والطاعن فيه ..إلخ.

فالحقيقة أن أمر الديانة الظاهر ليس هو المحور الأكبر في عملية القبول والرد، بل هو فقط مصحح لبداية البحث، ولا تكاد تُترك رواية أحد الرواة بسبب ديني إلا لظهور فسقه ومَجَانته وعبثه ظهورًا بيّنًا للخاصة والعامة يغني عن كلام الأفراد من المحدثين فيه قدحًا أو ذمًا.

أما البحث الحقيقي فهو يكون باختبار مروياته ومقارنته بأقرانه -التي أوضحت طرفًا منها في

المقال السابق

– ثم يعبّرون عن هذه النِسب بعبارات لغوية دالة –بقدر ما تسمح به اللغة- على «نسبة» ما وجدوه من اتساق رواياته أو اضطرابها إجمالاً، سواء كان الاضطراب الواقع فيها عامًا أو مخصوصًا بالنسبة إلى جهة معينة، فيقولون مثلاً: «ثقة ثقة، ثبت، صدوق، صدوق له أوهام، صدوق يَهِم، ثقة ما لم يحدث عن الحجازيين، تركوه، كذاب، دجال، …إلخ» بعبارات في غاية الكثرة تدل على نِسب واعتبارات نتيجة الاستقراء الرقمي لمروياتهم.


(3)

هذه إحدى مراحل البحث –ولست بصدد استيعابها ولكني أشير إلى أهمها والباقي يُطلب تعلمًا– ولكن يلي ذلك البحث في حقيقة المعنى المروي، وهنا شاع القول باختصاص الفقهاء بهذا البحث، وهذا خطأ، بل أهل الفقه يشتركون مع المحدثين في جميع مراحل البحث، ولكن بمنهج مختلف سنوضحه في مقال لاحق إن شاء الله.

نعم، لم يغفل المحدثون عن النظر إلى المعاني المروية، وكم من حديث ردوه لركاكة المعنى أو فساده، ولكن ما يرونه فاسدًا قد يراه غيرهم صالحًا، والعكس صحيح، وهنا نشأت قضية مشكل الحديث، وتعارض المعارِف مع بعضها، وهي أمور سنفردها بمقال إن شاء الله تعالى.

كان نظرهم يعتمد أكثر على مدى توافق معنى الحديث مع غيره من الروايات الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- توافقًا عدديًا، ومقدار التعارض والمخالفة، لذا ظهر بينهم اصطلاح «الغريب» و«الشاذ» و«المنكر» وهي اصطلاحات دالة –عندهم- على التفرد أو المخالفة.

وليس كل تفرد بضعف، غاية ما في الأمر أن قدرتنا على التوثق في الحديث الذي تفرد به واحد تقل، فحين يكثر الرواة لخبر واحد فإنه يكون عندك طريقتان للتوثق من هذا الخبر، الأولى: هي توثقك من أشخاصهم ونسبة الخطأ في مروياتهم إجمالاً، والثانية: هي توثقك من ذات الخبر بمقارنة رواياته المتعددة، وحين تفقد تعدد الرواة لخبر فإنه لا يكون أمامك سوى الطريقة الأولى للتوثق، ولذا اصطلحوا على تسمية هذا النمط من الأخبار بـ(الغريب).

ومن ثمّ كانت الغرائب محل توقف في كثير من الأحيان، ولكن فرقوا بينها وبين الآحاد!، وهذا أمر يستدعي مزيد البيان:

إن الخبر الذي يخبرك به إنسان واحد تعتريه احتمالات الخطأ والوهم والكذب، ولكن مجرد وجود هذه الاحتمالات لا يقدح في قبولك لخبره ما لم تتأكد هذه الاحتمالات بأمارة ما.

فعندما تقود سيارتك للذهاب لبيت صاحبك الذي تذهب له لأول مرة فتسأل عن طريق ما ولا تجد إلا رجلاً واحدًا تسأله، فإنك لا تترك خبره لمجرد أنه واحد، ما لم تظهر لك علامات تدل على أن كلامه غير صحيح، كتلعثمه أو معارضة كلامه بلافتة أخرى أو بوصف كان عندك من صاحبك، أما إن انتفت هذه العلامات فأنت تأخذ بكلامه رغم وجود (احتمال) الخطأ فيه.

بالتأكيد إن أتيح لك التأكد منه بسؤال غيره فهذا جيد، ولكن ليس الكلام في هذا، بل الكلام في حالة عدم وجود غيره.

المثال الذي ذكرته هو ما يعبر عنه عند أهل الحديث بخبر الواحد وأنه مقبول إن كان من ثقة، ولكن في الحقيقة هم يجعلون حتى خبر الاثنين والثلاثة والأربعة وأكثر من ذلك من باب «خبر الواحد»!

ولكن الخبر الذي أخبرك به أربعة ثقات أحسن حالاً –من حيث الناحية الشكلية– من الخبر الذي أخبرك به واحد فقط، ففي حالة تعدد المخبرين فإن أمامنا حالة تكرر رقمية يمكن للمحدث فيها تطبيق المنهج الإحصائي في هذا الخبر ذاته.

أما أمام حالة التفرد بالخبر، فليس أمامنا سوى تطبيق المنهج الإحصائي على مرويات المُخبِر نفسه لا على خصوص هذا الحديث، فتترجح نسبةُ الصدق في شخصه على نسبة الكذب أو العكس.

لذا اصطلحوا على تسمية ما روي من جهة فرد واحد بـ(الغريب)، تشبيهًا له بالمسافر الغريب الذي لا يعرفه أحد، لا ليكون ردًا له، بل ليكون البحث فيه أدق وأوثق، فإنه مظنة وجود الأوهام والأخطاء، لذا نقل الذهبي وغيره عن أبي يوسف القاضي قوله: «من طلب الغرائب كذب»، يعني لا ينبغي أن يكون هم المحدث الاعتماد على هذه المرويات فقط وإلا وقع في الخطأ.

أما الأخبار التي رويت من أكثر من واحد، فهي أيضًا من باب الآحاد عندهم، ولكنها يمكن اختبارها في ذاتها –إلى جوار اختبار راويها– فظهرت عندهم اصطلاحات مثل: «الشاهد» و«المتابِع».

ثم إن زاد مخبروك بخبر ما بحيث بلغوا عددًا كبيرًا، يسمونه حينها «المتواتر»، والتواتر اصطلاح يخلط عامة الناس بينه وبين «السند»، وهذا موضوع مقالنا القادم، قبل أن نبدأ في الكلام عن النظر في ذات موضوع الكلام وصحته وهل يمكن تصديقه أم لا في المقال الذي يليه بإذن الله.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.