ماذا لو كانت حقيقة تصورك – عن ذاتك – الرابض في أغوار اللاوعي، هي حقيقة ما ستكون عليه صورة البشر بعد ألف عام؛ مسخ خالص ينتظر الموت ولا يدرك الزمن؟

وماذا لو كانت صورتنا البشرية الحالية، مسخًا من صورة قديمة كان عليها البشر قبل ألف عام أو عدة آلاف من الأعوام، وانطمر من وعينا ما ردمته كل هذه الأعوام؟

ماذا لو كان وجود كل منا مجرد اعتمال في طبقة غائرة في لاوعي نسخة بشريّةٍ قديمةٍ منه، أكثر نُضجًا وأرقى وجودًا؟

ليست هذه الأسئلة بعينها هي ما يدور حولها العرض المسرحي «هدوء نسبي»؛ غير أنه يفجر بداخلك طوفانًا من الأسئلة، هذه عينة مبدئية منها. هو لا يدللك ويقدمها لك جاهزة، وإنما يعيد تنشيط تيار الأسئلة بداخلك، ربما إلى حدوده القصوى، من أسئلة الوجود الكبرى إلى أدق الأسئلة التي تختلف من ذات إلى أخرى.


في البدء كان الوعي

هل اللاوعي «لاوعي»حقًا؟ أم أننا يمكننا اعتباره طبقة أخرى من الوعي، لكنها بعيدة الغور، شديدة الضحالة، بالغة الخطورة، متترسة الازدحام، تتواجد فيها المدركات على نحو مختلف، وتتفاعل بطريقة شديدة الخصوصية؟

بعض من مروا بخبرات خاصة في حيواتهم، ومنهم كاتب المقال، يميلون إلى الاعتبار الثاني، وهو أن ما يسمّى «لاوعيًا» هو وعي رابض له قوانينه الخاصة، وشروطه المبهمة في الولوج إليه والتفاعل فيه والعودة منه. وفيما يبدو، فمؤلف العَرض ومخرجه «عمر المعتز بالله» يتماس مع هذه الفكرة، حتى وإن لم يكن قاصدًا.

تبدأ ترتيبات العرض بتسليم كل فرد من الجمهور أدوات وقائية، مع مجموعة من التنبيهات والتحذيرات يشدد عليها مرشد سيتولى قيادة المتفرجين، عبر طرقات وسلالم الواسع المبنى المهجور الذي أعيد تشكيل معالمه ليجري فيه العرض.

من الآن فصاعدًا، لا شيء مما حولك طبيعي أو عقلاني، ربما يمكنك أن تستشف منطقية خاصّة لما يجري، ولكن لا بأس، فالمنطق حيلة يتترس بها العقل البشري ليكون على قناعة بذلك النذر اليسير الذي فهمه عن الوجود. بالتالي ستنحي المنطق جانبًا، تاركًا نفسك لتيار العرض.

ههنا – ونحن ما زلنا خارج موقع العَرض – إيقاع جديد للزمن يبدأ العرض في إنشائه؛ ضربات رتيبة منتظمة بالساطور على عظمة فخذ حيوان مجهول، وفي الخلفية موسيقى انغماسية (downer) يتخلّلها مواء قط يطلب النكاح. تكتشف أنك ملقى وسط مشهد يجسد الردة إلى البدائية؛ ملابس الفتاة البشرية والقذارة والعظام الحيوانية المفتتة والإضاءة الشمعية واللوحة الفوتوغرافية النيجاتيف على الحائط ملطخة بالدماء بسخاء، كلها تفاصيل تعمل على انبلاعك داخل هذا التجسيد.

يتدخل إيقاع جديد آت من أعلى، يهبط إلينا مسخ ذكَر يعتمد على كرسي يدفعه أمامه. المسخ له رأس خنزير، أنفاسه حيوانية ثقيلة متحشرجة، نظراته مقلقة لامبالية، يتقدم في رتابة ويفتح بابًا وينزل سلمًا، وتتبعه الفتاة البشرية. هذا هو الطريق إلى الفضاء المسرحي للعرض.

رغم أن الفضاء المسرحي للعرض يمثل، بحسب تلميحات صناع العمل، منزلًا آخر أسرة باقية من البشر الممسوخين على الأرض، إلا أن بعض تفاصيل الحوار وحركة شخصيات مثل الدبدوب الأبيض، تستقر بك على أرضية مختلفة لتلقي العمل وتأويله؛ أنت في داخل عقل شائه، والشخصيات التي تراها أمامك هي تشظيات الأنا. أنت لست حتى على عتبات الوعي؛ وإنما أنت في أسفل أرضية ممكنة من هذا الوعي.

بدت لي الفتاة البشرية هي الذات المعنية، ويصحبها تشظيان في هيئة مسوخ، أحدهما ذكر متسلط متوحش، والآخر أنثى عقربية لعوب.



ليست هذه مرتي الأولى مع عروض تجسد تشظيات الذات المفككة


،


إلا أن «


هدوءًا نسبيًا» يتميز باتخاذه منحى موغلًا في ما بعد الحداثة، متمثلًا في عدم التزامه ببنية درامية كلاسيكية يمكن الجزم بوجودها في النص، إلى جانب تجسيده لحالة التشظي والانمساخ والتشوه بأدق التفاصيل في إصرار صارخ ووقاحة ضرورية.


التورط في النجاة

توفيق الحكيم

لافتة جدًا للنظر، جملة «صنع في مصر» على أفيش العمل. ورغم اختلاف سياقِها فإنها تحضر جملة الحكيم هذه إلى صدارة الذهن. نحن إما في صراع مع الزمن ، وإما في صراع عبر الزمن لتحقيق شيء أو للفرار من شيء. في جميع الأحوال سينتهي هذا الصراع عند محطة أخيرة، لكن لا بد من خطوة أخيرة قبل النهاية. لا بد من الانمساخ. لهذا كان العنوان الجانبي للعمل «The Metamorphosis» دالًا على هذه الخطوة. أوليست تقوم الساعة على شرار الخلق؟!

«عم كنا نتحدث؟»، «فيمَ كنا نتحدث؟». دوامة متكررة من السؤال، بعد دورات متكررة من الصمت. ههنا إعادة ضبط لإيقاع الزمن داخل العمل، عبر تبادلات السؤال والصمت، في انتظار الموت الذي يكتفي بالمشاهدة ولا يأتي. ولكن إلى متى؟ تأتي الإجابة عبر انقطاعات الانهيار. أنقاض من الأركان البعيدة لسقف البيت تسقط. انقطاعات تمهيدية لا تبشر بموت قادم فحسب، وإنما بالأبوكاليبس العظيم.

«تزوجتُ بهاتف، وأنجبت منه حلمين ميتين». قداس تأبين لأحلام التقدم والتكنولوجيا عبر ألف عام مقبلة. تتطور التكنولوجيا ويفقد الإنسان قدرته على ممارسة أدواره الطبيعية في العالم، فيتأخر نمو النوع الإنساني، ولا تسعفه التكنولوجيا، ثم ينمسخ الإنسان ولم تحقق له التكنولوجيا أي قدر مأمول، لا من أحلامه ولا من واجباته الواقعية.

حتى على مستوى الاستجابة الطبيعية للغريزة الجنسية، التي هي معبر طبيعي إلى التكاثر والحفاظ على النوع، تتسبب حالة الانمساخ في انفراد كل مسخ بتحقيق شبقه ونشوته، وفي اللحظة التي يحدث فيها ما ينبغي أن يكون اتصالًا جنسيًا طبيعيًا بين البشر، تتخذ الأنثى المسخ سلوكًا حشريًا بعد إنجاز نشوتها، وتخنق المسخ الذكر بخرطوم رغبته!

«ماذا جرى له؟»، «لعله مات». هكذا تقرر الفتاة البشرية الانتفاع من جثة المسخ الذكري، وترفعه على خطاف اللحم لتعلقه تمامًا كما علقت حيوانًا ضخمًا مذبوحًا من قبل. تظل ترفعه غير آبهة لإيقاعات الانهيار الأبوكاليبسي العظيم، وتشحذ سكاكينها الطويلة لتبدأ في تقطيعه، تاركة إيانا في هاجس أن يكون عظم الفخذ الذي رأيناه في أول الدخول: عظم مسخ راحل.

العرض الذي يبدأ مسخه بإيقاعات النهش، يبحث عن الموت، ينتظره، وحتى بعد موته الرمزي ما زال يقنعنا بأنه ما زال ثمة وقت. وقت لماذا؟ لعله وقت لنجاتنا نحن، من الانمساخ التدريجي البطيء أولًا، ومن الأبوكاليبس الحتمي ثانيًا.

في طريق الخروج للنجاة من فوضى الانهيارات، ينتظرنا مسخ برأس تلفاز، يتأملنا واحدًا تلو الآخر بإيماءات روبوتية مستفزة، وكأنه يذكرنا بالفرصة التي ما زالت متاحة أمامنا.


التذوق الفني للتشوّه

«ديفيد لينش» فنان تشكيلي ومخرج سينمائي حاصل على الأوسكار. يقرّر لينش أن كل ما ينفذه على اللوحات أو على الشاشة، ينقله فقط من داخل رأسه إلى خارجها. وكأن أفكار لينش تتحقق أولًا من لا وعيه إلى وعيه، ثم من وعيه إلى الوسائط التي يستخدمها. ماذا لو قرر ديفيد لينش أن ينفذ عرضًا مسرحيًا؟ في تقديري سنحصل على منتج تتماشى روحه مع عرض «هدوء نسبي».

ليس المقصد هنا المقاربة بين لينش والمعتز بالله، بقدر ما هو تأكيد على الملمح الجوهري المشترك: أن ينجح المخرج في نقل الرؤية السريالية الكابوسية التي في ذهنه ويجسدها خارجًا عبر النوع الذي يختاره من الفنون. هذا النقل يمثل تحققًا فنيًا في حد ذاته، يمكن تذوقه جماليًا والاستمتاع به فنيًا، وهكذا.

من هنا، جاءت الرؤية السينوغرافية التي كوّنها عمر المعتز بالله في فضاء عرضه المسرحي، بعناصر الإضاءة ومجسمات الحيوانات وأشلائها وقطع الديكور. جاءت بسيطة شائهة مربكة مقبضة في أغلبها، ومركبة مبهمة في أجزائها المتبقية، فضلًا عن إعادة تشكيل جغرافية المكان ومداخله ومخارجه بما يتناسب مع أجواء العرض.

الموسيقى الممتدة على مدار العرض أيضًا، جاءت انغماسية (downer)، ونجحت في أداء مهمتها في تعميق حالة الإحباط والشجن والإحساس بالضياع. وإن كانت قد خلت من القدر الكافي من الاختلاجات التي تتخلل مثل هذه المستويات من الإدراك.

إيقاع العمل. حسنًا، يبدو أنّ صنّاع العمل تعاملوا مع عناصر العرض بقبضةٍ من حديد كي يحافظ على هذا المستوى من الهدوء الظاهريّ، على مستوى الصّوت والإضاءة وحركة الشخصيات وأصواتها، ومِن ثمّ إيقاع العمل ككل. رغم أن أجواء العمل تضعك في حالة من الهوس بالتهديد والترقب، وتنتظر سماع صرخة من إحدى الشخصيات أو انتفاضة عليا من الموسيقى والمؤثرات الصوتية.. إلا أن هذا لا يحدث.

ربما يكون هذا هو سبب اختيار «هدوء نسبي» كعنوان عربي للعرض، وإلا فالعنوان الإنجليزي «The Metamorphosis» يذهب بك في اتجاه مختلف يتماشى مع التهديد المصيري بالانمساخ الذي يجسده العمل.


التوريط ﻻ التطهير

مأساة الإنسان الإغريقي كانت في الصراع مع القدر، أما مأساة الإنسان المصري فهي في الصراع مع الزمن.

الأداء التمثيلي – مدعومًا بالمكياج المتقن لـ«دينا سالم» – جاء متقنًا هو الآخر بدرجة لافتة. «سارة خليل» أدّت شخصيّة الفتاة البشريّة بمزيجٍ رئيسيٍ من الآليّة والشيئية والحيوانية، تخللته بعض الثغرات البشرية الضرورية. أداء «نورهان صالح» للمسخ الأنثى جاء رفيعًا باقتدار، وأنشأت رابط اتصال بصري شديد الفاعلية مع الجمهور، مع حركية معبرة وصادمة ومتقنة أغلب الوقت. جسد «أحمد الشرقاوي» شخصية المسخ الذكر بتفان مقلق، معتنيًا بأدق التفاصيل، خاصة وأن بعض حركاته ووضعياته كانت خطرة لدرجة أن خطأ واحدًا فيها قد يهدد صلاحية جسده للحياة الطبيعية.

وإجمالًا، ومع تضافر كل هذه العناصر، فأنت لا تحصل على حالة من «التطهير» – ولو ضئيلة – كما هي عادة العروض المسرحية؛ وإنما تتشرب جرعة طويلة المفعول من «التوريط» في أسئلة الذات والوجود والمصير، وفي إحلال زوايا جديدة لوجهات النظر.

أخيرا، من التسطيح المعيب تصنيف عرض «هدوء نسبي» باعتباره عرض رعب. الرعب ينمّي مساحة الخوف، التي بدورها تقلل مساحة التفكير إلى حد أدنى. وهو ما يفعل العرض عكسه، حيث يولد مساحة واضحة من التأمل والأسئلة المستثارة. يكفي أن شريحة من جمهور العرض بدا عليها أنها داخلة إلى جولة مسلية في الملاهي، ليخرجوا بعدها وعيونهم ملآى بالأسئلة، يحملون معهم – والباقون أيضًا – أساور طبية تسلموها مع المعدات الوقائية قبل العرض، ربما لتذكرهم برسالة يرسلها صناع العمل لكل منهم: «أنت أيضًا في خطر. لا تنس هذا الأمر».