تشهد الساحة السورية اليوم فرزًا جديدًا بين الفصائل الإسلامية المسلحة، ويمكن أن يؤدي هذا الفرز إلى نتائج تودي بضحايا كثيرين نتيجة صراع الفصائل فيما بينها، أو استغلال النظام وداعميه هذا الصراع لإنزال ضربات موجعة بهذه الفصائل. فمع انحسار تنظيم «الدولة الإسلامية في الشام والعراق» داعش، وبوادر القضاء عليه، أو بدء العد التنازلي للقضاء عليه، بدأت بوادر اصطفافٍ جديدةٍ، وانشقاقاتٍ ذات طابع معين، ولعل تنظيم فتح الشام «النصرة سابقًا» هو التنظيم الذي يُخشى أن يحل محل داعش أو يلعب دوره. وكان تنظيم داعش أيضًا جزءًا من تنظيم قاعدة الجهاد العالمية عندما كان اسمه «الدولة الإسلامية في العراق»، وفك الارتباط بها نتيجة خياره الذاتي.

وكانت الساحة السورية قد شهدت سابقًا مراحل من الاصطفاف والفرز.


المرحلة الأولى: فرز إسلامي-علماني

مع انطلاق العمل المسلح ضد النظام في سورية ظهرت كثير من المجموعات الإسلامية، ولم تكن هذه المجموعات تتمايز فيما بينها كثيرًا. بعد سيطرة المعارضة السورية المسلحة على مساحات واسعة من الريف السوري، دخل الصراع بين الفصائل المسلحة مرحلة جديدة على مناطق النفوذ، فتوجهت غالبية البنادق الإسلامية نحو المجموعات المنضوية تحت مسمى الجيش السوري الحر، وبالفعل تم القضاء على كثير من هذه المجموعات، وكثيرٌ ممن بقوا على قيد العيش إما هجروا العمل المسلح أو انضموا إلى الفصائل الإسلامية.

يمكن أن نسمي ما حدث هذا عملية فرز أولى، وكانت الذريعة التي استخدمتها الفصائل الإسلامية دائمًا هي: «الفساد، والتعامل من الأمريكان، والعلمانية».


المرحلة الثانية: الغلو – قتال النظام

في مرحلة لاحقة بدأ الصراع بين تنظيم «داعش» وبقية الفصائل. وإذا كان «الغلو» هو الذريعة التي استخدمت بهذا القتال، فإن كثيرًا من الفصائل التي قاتلت داعش يمكن وصفها بالغلو. ولكن من ناحية الواقع يمكن القول إن اختراقات داعش الأمنية المتعددة، وعدم صدامها مع قوات النظام السوري خارج ساحات البترول، واعتبار «قتال المعارضة السياسية التي تخدم الولايات المتحدة الأمريكية، والمرتدين، والصحوات، والفصائل الإسلامية المنحرفة» بحسب وصفها أولى من قتال النظام، لعب دورًا أساسيًا في الحرب ضدها. بمعنى آخر، إن داعش هي التي أعلنت الحرب على الجميع، وشنتها بالفعل على الجميع ما عدا النظام، وهذا ما فرض الفرز الثاني، فتجمعت غالبية الفصائل الإسلامية لقتالها تحت اسم مكافحة الغلو.

في الحقيقة أن تنظيمًا واحدًا فقط برز بالتزامه الحياد في القتال بين داعش والفصائل الأخرى، بل حرّمه وأسمى هذا القتال قتال أخوة المنهج، وهذا الفصيل هو «جند الأقصى». لا يختلف تنظيم جند الأقصى عن تنظيم داعش سوى في نقطة واحدة؛ «قتال النظام»، فهو يعطي لقتال النظام أولوية مثل القتال ضد الفصائل المرتدة والمتعاملة من أمريكا، وبدرجة واحدة. وبالطبع هذه التهم هي التي تُوجه إلى فصائل الجيش الحر عمومًا.


المرحلة الأخيرة: الغلو – الاعتدال

منذ نشأة النصرة وبأسها في قتال النظام، مورست عليها ضغوط شديدة لفك ارتباطها بالقاعدة. إثر هذه الضغوط جاءت عملية فك الارتباط بالقاعدة بطريقة اعتبرها كثيرون ومنهم الداعمون تمثيلية ساذجة وغير مقنعة، إذ أعلنت قيادة القاعدة بأنها منحت «الإذن» للنصرة بفك البيعة، ثم أعلن «أبو محمد الجولاني» فك الارتباط بالقاعدة. وشبَّه البعض الأمر بتلميذ يطلب الإذن من معلمه بأن يقوم بعمل ما، ويقوم بهذا العمل، فهل يمكن أن يسمى هذا فك ارتباط؟



ما تشهده الساحة السورية اليوم عملية اصطفاف أو فرز جديدة، ويبدو أن فتح الشام باتت العنوان الذي يقصده المتشددون.

في هذه الأثناء مارست الدول الداعمة للمعارضة السورية المسلحة ضغوطًا شديدة على فصيل أحرار الشام الذي يعتبر أكبر الفصائل المسلحة في الشمال السوري من أجل الميل نحو الاعتدال، فقد كان ينشر في المناطق التي يسيطر عليها لافتات كتب عليها: «الديمقراطية كفر»، و«الديمقراطية طريق التخلف»، ويتم نشر هذه اللوحات، وتقدم باعتبارها دليلاً على غلو وعدم اعتدال. وقام هذا التنظيم بحملة علاقات عامة، وتواصل مع البعض في المعارضة السياسية، ووعد بمزيد من الليونة. إثر هذه العمليات انشق عدد من شرعيي هذا التنظيم الذين يمكن وصفهم الأكثر تشددًا، والتحقوا بتنظيم «فتح الشام» النصرة سابقًا.

انخرط أحرار الشام في القتال ضد داعش مجددًا، وبدأت عناصرها تنتقل عبر الأراضي التركية إلى شمال حلب حيث تدور المعارك هناك، ولكن عمليتين انتحاريتين في زمنين متقاربين استهدفتا حافلتين تقلان عناصر من هذا التنظيم أثناء خروجهما إلى الأراضي التركية، وخسر العشرات من مقاتليه. ووجه هذا التنظيم الاتهام فورًا إلى «جند الأقصى»، وأضاف إلى تهمته الأولى بيعته لداعش.

في الحقيقة أن الربط بين تنظيم جند الأقصى وداعش لا يكمن في التشابه العقائدي وأخوّة المنهج فقط، بل هناك عنصر تشابه آخر وهو أن غالبية مقاتليه من الأجانب أو من يسمون «المهاجرين». من جهة أخرى فإن كثيرًا من عناصر جند الأقصى التي اختفت من مناطق محافظة إدلب (الشمال) حيث يتواجد هذا التنظيم تبين لاحقًا أنها التحقت بتنظيم داعش.

كانت العملية الانتحارية الثانية ضد عناصر «أحرار الشام» هي الشرارة لصراع جديد بين «الجند والأحرار». تدخلت «فتح الشام» في عملية الفصل، ووجدت الحل بأن يندمج تنظيم «جند الأقصى» في بنيتها، مع التعهد بمحاسبة المسيئين.

رافق هذا الاصطفاف الجديد عملية خروج/ أو إخراج لعدد من «المهاجرين» من تنظيم جند الأقصى، وأعلنت فتح الشام أنها خيرتهم بين البقاء في منطقة معينة دون عمل عسكري «إقامة جبرية»، أو العودة إلى بلدانهم.

لعل عملية انضمام جند الأقصى إلى فتح الشام أعاد الأنظار مجددًا إلى هذا التنظيم. صحيح أنه كان مصنفًا تنظيمًا إرهابيًا بالنسبة إلى العالم كله باعتباره جزءًا من القاعدة، ولكن طبيعته المحلية، وعدم تهديده الدول الأخرى نأى به قليلاً عن الاستهداف المباشر وعلى نطاق واسع، ولكن هذا لم يمنع قوات التحالف الدولي من استهداف بعض قادته، وتصفيتهم. ولكنه بعد هذا الاصطفاف وُضع في دائرة الاستهداف.

ما تشهده الساحة السورية اليوم عملية اصطفاف أو فرز جديدة، ويبدو أن فتح الشام باتت العنوان الذي يقصده المتشددون. وبالمقابل تلعب الدول الداعمة للمعارضة المسلحة السورية دورًا بجمع ما تبقى من الفصائل، ولعل الفصائل المشاركة في عملية درع الفرات تقدم نموذجًا للبنية التي يُراد لها أن تشكل مستقبلاً نواة الاستقطاب على الطرف الآخر.