إذا أردت البحث عن ملف ما على جهاز الحاسوب الخاص بك؛ فإنك تقوم بالنقر فحسب. ومع كل نقرة واحدة؛ تقوم بإعطاء أمر واحد لوحدات المعالجة للبدء بالعمل من أجل إعطائك النتيجة -الملف- المطلوب، يقوم المعالج بالحسابات أمرا واحدا تلو الآخر. لكن لو تصورنا أنك تعطي أمرًا واحدًا أيضًا، أو أوامر مركبة في الوقت نفسه، لكن هنا تقوم وحدات معالجة بالقيام بعمليات معقدة في وقتٍ واحد من أجل العثور على ما تريده، ما مدى سرعة ودقة النتيجة التي ستظهر؟

ببساطة؛ نتحدث هنا عن «الحوسبة الكمومية – Quantum Computing»؛ ولعل أشهر المواقف التي ارتبطت بمفهومها حين سُئل رئيس الوزراء الكندي «جاستن ترودو» في أحد

اللقاءات الصحفية

عن الفرق بين الحواسيب العادية والكمّية؛ كانت إجابته من شخص غير متخصص في الكم؛ هو أن الفرق يكمن في النظام الذي يعمل به كلا النوعين.

فالحاسوب العادي يعمل بنظام ثنائي (0 و 1) يعطي إجابة واحدة صحيحة، والحاسوب الكمّي يعمل بنظم معقدة ومتعددة من العمليات التي تستطيع إجراؤها في وقتٍ واحد وفقًا لمبادئ النظرية الكمّية.


مفهوم الكم

قبل الحديث عن أي شيء؛ يجب أن نعي تمامًا أننا نتحدث عن قوانين وأنظمة تعمل في عالم متناهي الصغر في المادة؛ هو العالم دون الذرّي. فمفهوم الكم؛ هي مجموعة النظريات التي حاولت تفسير المشاكل المعقدة في الفيزياء، وهي امتداد وتطور لقوانين للفيزياء الكلاسيكية المعروفة.

بدأ هذا المفهوم في

الظهور

في بداية القرن العشرين؛ بعد أن صاغ النظرية نخبة من فيزيائيي القرن؛ مثل «ماكس بلانك، آلبرت أينشتاين، لويس دي بروجلي، نيلز بوهر، فيرنر هايزنبرغ، إروين شرودنغر، ماكس بورن، بول ديراك، وغيرهم من الفيزيائيين».

كان لكل واحد منهم نظريته تجاه المادة، بالتالي أصبح لكل واحد منهم تفسيره الخاص عن المادة في ظل النظرية الكمّية. لكن ما يهمنا اليوم في الكم هما مبدأي التراكب والتداخل في الذرة اللذين تشرحهما النظرية.

ببساطة؛ مبدأ «

التراكب – Superposition

» هو حالة يتخذ فيها «الجسيم – particle» في الذرة وضعين مختلفين في الوقت نفسه.

أما «

التداخل – interference

»؛ فهو مفهوم أشمل ينص على أن الجسيمات الأولية لا يمكن أن توجد في أكثر من مكان في الوقت نفسه من خلال التراكب فحسب؛ بل إن الجسيمات الفردية الخفيفة مثل الفوتونات؛ يمكن أن تعبر مسارها الخاص، وتتداخل مع اتجاه مسارها هي.


اقرأ أيضا: تفسير كوبنهاجن: الدالة الموجية وانهيارها


الحوسبة الكمومية – Quantum Computing

أذهلت فكرة الحوسبة الكمومية عقول العلماء منذ نحو 50 عامًا، حيث مبدأ عملها يجري في العالم متناهي الصغر للمادة وفقا لمبادئ ميكانيكا الكم.

وكما أن النظرية الكمية صيغت لحل المشاكل المعقدة التي تعجز النظريات -الفيزيائية- التقليدية عن حلها؛ فإن

الحاسوب الكمّي صمم

أيضًا لإيجاد طريقة لحل أنواع معينة من المسائل أو الاحتمالات التي لا يمكن حلها بالحواسيب العادية، ومن أجل أن يقوم بالعمليات الحسابية المعقدة.

سرعة إجراء العديد من العمليات داخل الحاسوب الكمي كبيرة جدًا، حيث

تفوق سرعة

إجراء العمليات في الحواسيب العادية بنحو 3600 مرة. هذه السرعة تتيح الفرصة أمام عمليات البحث أو إيجاد الحل داخل الحاسوب الكمي لاختيار الإجابات الصحيحة؛ حيث تنفذ تلك العمليات من خلال عملية «التداخل الكمّي – quantum interference».


في عملية التداخل الكمّي هذه يتم إظهار أو «تضخيم – amplified» الإجابات الصحيحة للمشكلة المراد حلها، وإلغاء باقي الحلول الأخرى. مبدأ العمل هذا مثله مثل مبدأ عمل الموجات حين تتلاقى موجتان مع بعضهما؛ فتندمج قممها لتصنع نبضة أو إشارة كبيرة واضحة، وتخفي -تلغي- البقية.

تشمل الأمثلة التي يمكن أن تقوم الحواسيب الكمّية بحلها؛ محاكاة التفاعلات الكيميائية في المادة لتطوير جزيئات ومواد جديدة، والتي يمكن أن تساهم في حلول متنوعة، وحل المشاكل المعقدة من خلال اختيار أفضل الحلول من بين العديد من الاحتمالات الممكنة.


رحلة مع كيوبت – Qubit

الفرق بين البت الكمّي والعادي

الفرق بين الـ Bit العادي الذي يتخذ إحدى القيمتين (0 أو 1)، والـ Qubit الذي يتخذ القمتين معًا

في الحواسيب العادية؛ تسمى أصغر وحدات تخزين البيانات والمعلومات ومعالجتها أو حملها ونقلها بـ «بت – bit» الذي يعتبر الوحدة الأساسية للمعلومات في الحواسيب والاتصالات الرقمية.

مصطلح «البت – bit» يعبر عن الأرقام الثنائية في نظام العد الثنائي «Binary digit»؛ وهو عمليًا عبارة عن نبضة كهربائية تتخذ قيم رياضية إما (0 أو 1)، أو يعبر عنها أحيانًا بـ (نعم، لا) أو (صح، خطأ).

داخل الحواسيب العادية؛ يتم إجراء العمليات أو معالجة البيانات من خلال إعطاء قيمة واحدة لـ Bit إما (0 أو 1) في أي وقت محدد لحل أي مشكلة أو معالجتها لتعطي نتيجة أو احتمالا واحدا فقط.

في

الحواسيب الكمومية

يتم تحويل الـ Bit العادي إلى «بت كمّي – Quantum Bit» الذي يعرف باسم «كيوبت – Qubit»، حيث يصبح هو وحدة المعلومات الكمية في الحواسيب الكمومية. يعمل الكيوبت وفقًا لمبدأ «التراكب – superposition» الذي تُظهره النظرية الكمّية؛ حيث يمكنه تخزين قيمتين (0 و 1) معًا.

بسبب تراكب القيمتين أو الاحتمالين (0 و 1) في الكيوبت الواحد؛ يسمح ذلك بإجراء عمليتين باحتمالين أو عدة احتمالات في وقتٍ واحد. بالتالي يعمل على تحسين أداء وسرعة عملية الحوسبة الكمومية.

أما عن إيجاد أو تصنيع «كيوبت – Qubit» نفسه؛ فإننا بحاجة لإيجاد تفاعل بين الفوتونات المعروف أنها لا تتفاعل مع بعضها بالأساس. لكننا نستطيع إتمام هذا التفاعل؛ إذا تم استخدام ذرات نادرة لمواد يتم تبريدها لدرجات حرارة متدنية جدًا، والتي تعمل على إيجاد مواد فائقة التوصيل تسمح للتيار الكهربائي كله بالمرور فيها دون أي مقاومة كهربائية.

وفي تطور ربما يكون الأفضل؛ كشف فريق بحثي من الفيزيائيين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT؛ عن تقنية جديدة تعمل على

إيجاد تفاعل بين الفوتونات

في درجات الحرارة الطبيعية باستخدام بلورات من السيليكون بأنماط محددة.


تقنيًا؛ كيف تصمم الحواسيب الكمية؟


استخدم فريق البحث في جوجل

صفا من تسعة كيوبتات صلبة، مصنوعة من ملفات ذات أشكال متقاطعة من الألومنيوم طولها نحو 400 ميكرومتر تصل من طرف إلى طرف آخر حيث يتم وضعها على سطح

سافاير – sapphire

. هذه الأسطح هي مواد يتم التحكم بها على مستوى الذرة من أجل تهيئتها لتصبح لبنة أو ركيزة أساسية للمواد التي يتم زرعها عليها. مثال تلك الصناعات التي تعتمد على هذه الأسطح؛ هي الصناعة الضوئية مثل الـ LED أو ما يعرف باسم «الصمام الثنائي الباعث للضوء – light emitting diode»، والأنابيب النانوية، أو أي مادة أخرى يتم صناعتها بتقنية النانو، أو صناعة الدوائر المتكاملة، والعديد من التطبيقات العلمية الأخرى.

يقوم الباحثون بتبريد الألمنيوم إلى درجة متدنية جدًا تصل إلى 0.02 درجة كلفن (أي ما يعادل 273.13 – درجة مئوية) حيث تحول المعدن إلى مادة موصلة فائقة للتيار الكهربي (ليس لها أي مقاومة كهربائية). يمكن بعد ذلك ترميز المعلومات في الكيوبتات في حالة فائقة التوصيل.

يتم التحكم في التفاعلات بين الكيوبتات المتجاورة من خلال بوابات منطقية تقوم بتوجيه الكيوبت رقميًا إلى حالة يستطيع فيها تشفير الحل لأي مشكلة ما يراد حلها. وكما شرح الباحثون طريقة العمل؛ فإنهم يقومون بإعطاء التعليمات بترتيب الكيوبتات لمحاكاة صف من الذرات المغناطيسية في حالة دوران. ومن خلال هذه الخاصية؛ يمكن أن يكون الكيوبت وسيلة من أجل تحديد حالات دوران الذرات الجماعية؛ خصوصًا ذات الطاقة القليلة.


موعد مع حاسوب كمي

معالج كمّي فاق التوصيل

صورة من رقاقة صنعتها شركة D-wave حيث صممت للعمل بمثابة معالج كمّي فائق التوصيل بعدد 128-كوبيت.

بدأ كل من شركة جوجل وميكروسوفت

في العمل

على تطوير حواسيب كمومية عام 2014، وفي العام 2016؛ بدأ فريق من العلماء من كاليفورنيا وإسبانيا

بصناعة نموذج تجريبي

لحاسوب كمي يمكن أن يحل مجموعة واسعة من المشاكل في مجالات مثل الكيمياء والفيزياء، ولديه القدرة على أن يتم توسيع نطاقها إلى نظم أكبر.

كما أنشأت كل من شركة «آي بي إم – IBM» وشركة «D-Wave» الكندية نوعًا من الحواسيب الكمية التجريبية التي تعمل باستخدام أساليب مختلفة غير قابلة للتطوير بسهولة، أو إضافة المزيد من البتات الكمومية (الكوبيت) اللازمة لحل المشاكل التي لا يمكن لأجهزة الكمبيوتر التقليدية حلها.

هذا الحاسوب الكمومي يعد أول الأجهزة التجارية التي صنعتها شركة «D – Wave» في بورنابي في كولومبيا البريطانية، والتي تباع بقيمة نحو 15 مليون دولار أمريكي للحاسوب الواحد. هذا الجهاز تمتلكه جوجل؛ ويعتمد على النهج أو الأسلوب التناظري الذي يعرف باسم AQC؛ سنشرحه لاحقًا.

أما في مختبر أبحاث جوجل في سانتا باربرا بولاية كاليفورنيا، وبالاشتراك مع فريق من علماء الفيزياء في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، وجامعة الباسك في بلباو، إسبانيا؛ فقد قام الباحثون هناك بإنشاء نموذج لحاسوب كمّي يجمع بين نهجين -أسلوبين- رئيسيين للحوسبة الكمومية.

النهج -الأسلوب- الأول يستند عليه الكثير من نظرية الحوسبة الكمومية؛ حيث يتضمن أساليب لتصحيح الأخطاء التي قد تؤدي إلى تعطيل أي عملية حسابية. هذا النهج لا يمكن تنفيذه عمليًا إلا مع وجود مجموعة كبيرة من الكيوبتات.

يقوم هذا النهج على بناء الدوائر الرقمية للكمبيوتر باستخدام البتات الكمومية؛ حيث يضعها في ترتيبات معينة وموجهة لحل مشكلة محددة. هذا النهج يماثل أو يشابه دائرة رقمية مصممة خصيصًا في المعالجات الدقيقة التقليدية المصنوعة من البت – Bit الكلاسيكي.

النهج التناظري

النهج الآخر يسمى «adiabatic quantum computing»، أو اختصارً (AQC). في هذا النهج؛ يقوم الحاسوب على مبدأ تشفير مشكلة معينة في مجموعة من البتات الكمومية، ثم يتطور تدريجيًا بتعديل التفاعلات بين هذه البتات ليشكل «حالة الكم الجماعية» المطلوبة من أجل أن يتوصل الحاسوب إلى حل واحد.

يقول «رامي باريندز – Rami Barends» أحد أعضاء مهندسي فريق جوجل البحثي:

يتأثر هذا النهج بما يعرف بالضوضاء العشوائية التي تُدخل بعض الأخطاء التي لا يمكن تصحيحها بشكل منتظم بعكس ما تفعله الدوائر الرقمية. وليس هناك ما يضمن أن هذا النهج يمكن أن يحل كل مشكلة بكفاءة.

يمكن لجهاز جوجل أيضًا أن يتعامل مع ما يسمى المشاكل «

غير ستوكاستيكية – non-stoquastic»

، والتي لا يمكن لأجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية التعامل معها. هذه المشاكل تشمل قدرة الحاسوب الكمي على القيام بمحاكاة للتفاعلات التي تنشأ بين العديد من الجزيئات والمواد والإلكترونات في المستوى الكمّي، والتي يمكن أن تكون واحدة من التطبيقات الأكثر قيمة في الحوسبة الكمومية.

ويقول «دانييل ليدار – Daniel Lidar» أحد أعضاء فريق البحث أيضًا:

وكما أن الجهاز الذي صنعته جوجل لا يزال نموذجًا كبيرًا جدًا، إلا أنه وفي غضون عامين؛ يمكن أن تصبح الحواسيب الكمومية أكبر حجمًا حيث ستزيد عن 40 كوبيت. وفي هذه الحالة؛ سيصبح من الممكن محاكاة الحركة الكمّية التي لا يمكن رؤيتها أو الوصول إليها على أجهزة الحواسيب الكلاسيكية، وتلك الخطوة ستشكل مدى تفوق الكم.


حسنًا؛ حان الوقت لاقتناء أحدها؛ لا؟

إن هذا النهج الجديد يمكّن جهاز الحاسوب من تصحيح الأخطاء الكمومية. وبالرغم من أن الباحثين لم يثبتوا ذلك حتى الآن؛ فإن الفريق أظهر كيف يمكن تحقيق ذلك من خلال إجراء بعض التجارب على جهاز كمومي مكون من تسعة كيوبتات.

ربما تحمست كثيرًا لفكرة اقتناء أحد تلك الحواسيب خصوصًا إذا كنت باحثًا في المجالات المعقدة التي ستعمل الحواسيب الكمّية على حلها -إلا إذا تذكرت سعرها الباهظ- لكن برغم قدراتها وتصميمها؛ إلا أنها منتجات محدودة مازالت تجريبية تماما، ولا تتوفر للمستخدمين العاديين كحال الحواسيب العادية؛ حيث تقنية تصنيعها تُوجب عليها أن تكون تحت ظروف معينة لتقوم بعملها بشكلٍ صحيح.

أيضًا من التفرّد أو الميزة التي تمتلكها الحواسيب الكمومية هي أن رقائق الحاسوب نفسها برغم حجمها الضئيل؛ فإنها تعتمد على أنظمة تبريد كبيرة، وغرف مفرغة أو معدات ضخمة أخرى للحفاظ على الخصائص الكمّية الدقيقة للكيوبتات فيها. وبالتالي، فما يخص الحواسيب الكمومية حتى الآن وفي المستقبل القريب، سيقتصر على المختبرات المتخصصة فقط.