تتشابك العلاقة بين الرياضة والسياسة بشكل دائم، وتظل للبطولات الرياضية قدرة هائلة على التطويع سياسيًا، وعلى رأسها بالطبع كأس العالم، والذي يمتلك سحرًا لا تملكه أي بطولة أخرى.

في 1969 كانت مباراة في تصفيات كأس العالم شرارة لاندلاع حرب بين السلفادور والهندوراس راح ضحيتها الآلاف، في 2006 كانت مباراة شبيهة السبب في إنهاء حرب أهلية في ساحل العاج، وبالطبع لا أحد ينسى ما فعلته مباراة مصر والجزائر في 2009.

هذا مجرد الصعود لكأس العالم، لكن الفوز به يحمل قصصًا أهم، استخدمه موسوليني في 1934,1938 لتسويق نظامه الفاشي، وحرص عسكر الأرجنتين في 1978 على الفوز بالبطولة للتغطية على قمعهم وفسادهم.

وسار على هذا الأثر الكثير من السياسيين، وأصبحت الرياضة أداة لأغلبهم لتحقيق أغراضهم السياسية، وكان آخرهم، ماكي سال حاكم السنغال، والذي خدمته الظروف وفاز منتخب بلاده بكأس الأمم الأفريقية بعد 60 عامًا من الغياب، وكذلك صعد لكأس العالم على حساب المنتخب المصري.

أجواء مضطربة

تعيش السنغال ظروفًا سياسية مضطربة من بداية العام الماضي تقريبًا، حيث اشتعلت الخلافات بين الرئيس الحالي وأفراد من المعارضة، وذلك عقب قرارات للرئيس ضد أفرادها اعتبرها البعض تمهيدًا منه للانتخابات الرئاسية القادمة.

سال تجاوز المدة القانونية المفترضة للبقاء رئيسًا للبلاد، ويخشى المعارضون أن يتلاعب بالقانون لأجل الترشح لفترة قادمة.

وكان الأمر قد تطور

إلى احتجاجات واسعة في الشوارع

، وذلك ردًا على اعتقال المعارض «عثمان سيونكو»، والذي اتُهم بالاغتصاب، لكنه ينكر التهمة، ويؤكد أنها مؤامرة من الرئيس ماكي سال هدفها منعه من خوض الانتخابات الرئاسية القادمة.

«سيونكو» هو أحد قادة المعارضة وسبق وخاض الانتخابات الرئاسية في 2019، وهو أحد المرشحين المحتملين في الانتخابات القادمة، ويرى المعارضون أن هذه ليست المرة الأولى التي يفعل فيها سال ذلك، حيث استغل القضاء في مرات عديدة لإبعاد خصومه السياسيين.

باتت الأموال بحوزة أقلية حاكمة فاسدة، ويدار القضاء بازدواجية في المعايير، هذا التراكم أدى إلى الاستياء والغضب الذي نشهده الآن، يتجاوز الأمر شخص سيونكو، هو فقط كان وسيلة، وليس لدينا ما نخسره.






أمين، مقاول سنغالي من داكار


رغم بداية الاحتجاجات داعمة لسيونكو، فإن مطالب المتظاهرين امتدت لتشمل الاعتراض على سياسات سال الاقتصادية، وتزايد نسب البطالة مؤخرًا، وتراكم الديون على البلاد.

وبالمناسبة كان لكرة القدم نصيب من تلك الديون، فملعب «عبد الله واد» الذي استضاف مواجهة السنغال ضد مصر التي حُسم فيها الصعود بنته شركة تركية بتكلفة بلغت 270 مليون دولار، في حين أن ملعب السنغال الرسمي الذي اعتادت اللعب عليه مغلق حاليًا للتطوير من قبل شركة صينية.


وهكذا، يرى المعارضون أن سياسة سال لا تصب في مصلحة السنغال، وأن سياساته الخارجية قد أثقلت البلد بالديون دون أن تتحسن معيشتهم أو تنمو البلاد.

واستمرت المناوشات بين الطرفين لمدة طويلة، وحاول سال بكل الطرق أن يستميل الجزء الأكبر من الشعب لتفادي انضمام أعداد أكبر للمعارضة، والذي ظهر تفوقهم في انتخابات البلدية بداية العام الجاري.

كرة القدم كأداة

إحدى الأدوات التي طالما استعملها سال لذلك كانت كرة القدم، اعتاد الرئيس التواجد في المحافل الرياضية وتكريم المنتخب واستقباله في المناسبات الهامة، كما يعول على نجوم بلاده مثل ساديو ماني وكاليدو كوليبالي في دعم الكثير من المشاريع داخل البلاد، ويستضيفهم بشكل مستمر لمناقشة هذه المشاريع.

كذلك يحاول سال إقامة الاحتفالات الرياضية وتوجيه الشعب لها دائمًا، ولقي فوز المنتخب بأمم أفريقيا الأخيرة اهتمامًا واسعًا منه، حيث منح يوم الاحتفال أجازة رسمية للجميع.

وأقيم احتفال صاخب في شوارع داكار، حيث اصطحبت البعثة الكأس في جولة عبر المدينة، واستمرت الاحتفالات لساعات.


وخرج سال بنفسه لاستقبال البعثة، ثم التقاهم في قصره الرئاسي، حيث منح اللاعبين مكافآت كبيرة، إحداها كانت قطعة أرض لكل لاعب في داكار.

بعد ذلك بأيام، أقام احتفالًا ضخمًا بمناسبة افتتاح ملعب «عبد الله واد»، حضره عدد من رؤساء الدول والكثير من الشخصيات المهمة في أفريقيا، ودعا إليه قادة المعارضة على أمل البدء في حوار سياسي يخفف من حدة الاضطراب.


ولم يكن سال يتمنى أكثر من ذلك، لكن منتخبه أهداه هدية جديدة بعد أسابيع، حين خطف بطاقة العبور إلى كأس العالم، والذي وحد الشعب السنغالي خلف المنتخب، بل وظهروا في مدرجات الملعب بسلوك حاد وانفعالي يفوق ما تستلزمه مباريات كرة القدم.

هل تتأثر الشعوب فعلًا؟

بالطبع لا يخفى على أحد رغبات السياسيين الدائمة في استغلال الرياضة لأغراضهم، لا علينا ولا على شعب السنغال، لكن السؤال: هل ما زال ذلك يؤثر على الشعوب؟

والإجابة نعم، تمتلك كرة القدم سحرًا لا تملكه كل الأدوات السياسية، في كأس العالم 2014 بالبرازيل وبينما كان المعارضون يخرجون في مظاهرات تندد بالحكومة وترفض استضافة كأس العالم، فإنهم كانوا ينهون مظاهراتهم ويذهبون لمشاهدة منتخبهم، ويفرحون مع كل هدف.

قد يرى البعض الأمر متناقضًا، لكن ذلك يحدث في كل مكان تقريبًا، حين فازت الأرجنتين بكأس العالم 1978 الذي استضافته خرج الملايين في الشوارع للاحتفال رغم أن زملاءهم كانوا يقبعون في سجون النظام العسكري على بعد أمتار منهم.

ذلك أن مباريات المنتخبات فرصة مثالية لاستثارة الروح الوطنية في الشعب،

طبقًا للباحث الرياضي في جامعة بريستول «جون إي. فوكس»

، فإن مباريات المنتخبات الوطنية والبطولات الدولية تعيد تشكيل وإنتاج الانتماء الوطني الجماعي، وتعزز الروح القومية بين أفراد الشعب.

هذه الوطنية الزائفة، وحالة النشوة العامة التي تحيط بالبلاد في حالة الفوز، تصبح بيئة خصبة لتسويق نجاحات النظام وإنجازاته، وكذلك تمرير بعض القرارات أو إخفاء الفشل.

كل ما كان مطلوبًا منهم هو وطنية بدائية يمكن استفزازها كلما ظهرت الحاجة إلى حملهم على تحمل ساعات عمل أطول أو تموين أقل.





جورج أورويل، رواية 1984

وبذلك فإن الرياضة لعبت كثيرًا في صف ماكي سال، والذي تنتظره معركة قادمة مع قادة المعارضة في الانتخابات الرئاسية القادمة 2024، ولا ندري حينها هل يمكن لساديو ماني وكوليبالي أن يقدما له هدية أخرى أم لا؟