في 30 يناير/ كانون الثاني من عام 1933م، حقّق حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني (NSDAP)، نجاحًا ساحقًا في الانتخابات أجبر الرئيس الألماني بول فون هيندنبورغ على تعيين زعيم الحزب أدولف هتلر مستشارًا على رأس حكومة ائتلافية ضمّت النازيين بجانب حزب الشعب القومي الألماني (DNVP).

شمل برنامج الحزب الاشتراكي الذي اشتهر لاحقًا في كافة أقطاب الأرض بِاسم الحزب النازي اختصارًا لأول حرفين من اسمه، على عديدٍ من النقاط التي يُمكن اختصارها جميعًا في شعارٍ رفعه بأنه سيسعى إلى «التجديد الوطني»، وهي الخطوة التي أحدثت تغيرًا في تاريخ البشرية لا يقل أبدًا عمّا فعله بنا طوفان نوح.

شكّل تعيين أدولف هتلر مستشارًا لألمانيا، تأسيس حقبة مهمة في تاريخ العالم، جعل فيها من برلين قاعدة لنشر معتقداته المتطرفة التي أعلنت قيام الدولة النازية («دريتس رايش» والتي تعني الرايخ الثالث)، واعتمدت على قناعات أيديولوجية غاية في التطرف بتفوق الجنس الآري في كافة دروب الحياة على باقي البشر و

عادت اليهود بأكثر من 400 قرار

احترازي قيّدت معظم أنشطتهم العامة والخاصة.

لم يضيع هتلر وقته، وسريعًا دبّر حريقًا في مبنى البرلمان  الألماني (الرايخستاغ) اعتبرته حكومته «جزءًا من جهد شيوعي للإطاحة بالدولة»، واستغله الزعيم الألماني ليفتح أبواب الجحيم على شعبه بعد ما أصدر مرسومًا أعرب فيه عن مخاوفه من حدوث انتفاضة شيوعية في ألمانيا، وأعلن فيه حالة الطوارئ وعلّق الحقوق المدنية وسمح لنفسه بنقض كافة القوانين المحلية والإطاحة بكافة حكّام الولايات المحلية وعيّن بدلاً منهم مفوِّضين تابعين له مباشرة، كما أقرَّ البرلمان قانون «تصحيح ضائقة الأمة» الذي سمح لهتلر بإصدار القوانين وتطبيقها على المواطنين دون الحاجة للحصول على موافقة البرلمان!

ولاحقًا أتبع البرلمان الألماني سلسلة انصياعه التام للإرادة الهتلرية بإصدار قانون «مناهضة تأسيس الأحزاب»، والذي نصَّ على أن الحزب النازي هو التشكيل السياسي الوحيد المُعترف به في ألمانيا.

قيّد هتلر كافة الألمان بقيوده الحمراء
الموشّاة وحاصرهم جميعًا بصليبه المعقوف، إلا أنه لم يكتفِ بذلك.

في أغسطس 1934م، توفي الرئيس الألماني فون
هيندنبورغ. وبدعمٍ من القوات المسلحة الألمانية، أصبح هتلر رئيسًا لألمانيا.

ألغى هتلر منصب الرئيس ودمجه في منصب المستشارية معلنًا لنفسه منصبًا جديدًا سماه «فوهرر Führer» (النُطق الأدق والأقل شهرة أيضًا هو «فيورر» أو «فورر»، وهي كلمة ألمانية تعني القائد، ولم يحمل هذا اللقب في تاريخ ألمانيا أحدٌ إلا هتلر)، وهو المنصب الذي مكّنه من أن يصير ديكتاتورًا مطلقًا على ألمانيا لا حدود قانونية أو دستورية على سلطته.

هُزمنا في الحرب؟ فلنضمّ المسيح إلى صفوفنا

ذوبان الدم الفاتح بدم الشعب الخاضع للسيطرة يؤدي إلى فقدان المادة التي تحرق منها الشعلة التي أنارت السبيل أمام الحضارة البشرية المتقدمة.





أدولف هتلر: «كفاحي»

في إطار حربه الشرسة على اليهود، لم يكتفِ
هتلر بمعتقلات الغاز أو أعمال الإبادة الجماعية أو حتى الحملات الإعلامية الشرسة
التي شنّتها عليهم الصحف الموالية له، وإنما تفتّق ذهنه عن فكرة خارج كل الصناديق
تمنحه سيفًا إضافية في رحلة اجتثاث اليهود من التربة الألمانية وفأسًا لغرس صورته
في أكبر قدرٍ من عقول مواطنيه.

فهذه المرة لن يعتمد في كسب المؤيدين على خطبة رنّانة له في ميدان أو إرهاب المعارضين بمعتقلات لا ترحم ولا حتى على إعلام يُسبِّح بمزاياه آناء الليل وأطراف النهار، وإنما سيعتمد على مذابح الكنيسة المُقدَّسة التي ستعمل على تقديمه كمُنقذ للمسيحية ومنقٍ لها من الشوائب التي اعترتها، وصانعٍ لنسخة جديدة منها أكثر فاعلية، وهي ما أطلق عليها اسم «المسيحية الإيجابية».


يقول رايان بوزنيل (Ryan Buesne)

، الباحث في تاريخ اللاهوت، والذي أجرى أبحاثًا موسَّعة عن العلاقة بين الدولة النازية والكنائس البروتستانتية الألمانية، إن السياسة النازية سعت لتدعيم أيديولوجيتها عبْر بناء كنيسة وطنية تنطلق من قناعات «المسيحية الإيجابية» وتُقدِّم أطروحات لاهوتية مُوافِقة ومُروِّجة للأيديولوجيا النازية.

هذه المفاهيم لم يخترعها هتلر بشكل كلي، وإنما عرفها الألمان قبله بسنوات كإحدى نتائج الهزيمة المُزلزلة التي تلقوّها في الحرب العالمية الأولى، والتي دفعت بعض المفكرين الألمان إلى تقديم صياغة جديدة لحياة المسيح بأنه «يسوع الآري» الذي عاش حياته يُناضل ضد اليهود الذين انتثرت بذور العداء لهم في الأراضي الأوروبية بسبب عوامل سياسية واجتماعية يطول شرحها.

اعتمدت هذه الأفكار على مزيجٍ عجيب من بعض عقائد الدين المسيحي واعتزاز الألمان المفرط بأنفسهم وبلادهم وما يُعرف تاريخيًا بـ«وعي الفولك» (الشعب الآري)، لتقديم «مسيحية مقبولة» للمجتمع الألماني الذي لا يُصدِّق كيف هُزم رغم يقين أعضائه بأنهم أعظم أمة في العالم.

وللمفارقة فإن الواضع الأول لهذه الفكرة التي تسمو بالجنس الألماني لم يكن ألمانيًا وإنما إيطالي الأصل لتتزاوج مع المفارقة الأشد في أن هتلر نفسه كان نمساويًا!

على أرجح الأقوال، فإن المُبتكر الأول لبذور «المسيحية الإيجابية» هو الفيلسوف الألماني (إيطالي المولد) هيوستن ستيوارت تشامبرلين (Houston Stewart Chamberlain)، خلال العام 1899م، الذي اعتمد على كتابات نقدية قام بها ديفيد شتراوس (كاتب وثيولوجي بروتستانتي ألماني)، وإرنست رينان (مؤرخ وكاتب فرنسي اشتهر برؤيته النقدية للكتاب المُقدَّس)، واعتبر أن جهودهما وضعت يسوع في سياقه الآري المناسب.

ويعتبر تشامبرلين أن مجيء يسوع يمثل «إعلانًا مفتوحًا لحرب» ضد الروح المنحطة لليهود، وأن مهمة يسوع المركزية كانت إعلان «مجيء جنس بشري جديد».

و

يقول صمويل كوهني (Samuel Koehne)

، الخبير في النازية والأديان، إنه خلال القرن التاسع عشر حدثت تغييرات مهمة في الحياة الدينية الألمانية، وبدأت في تسليط الضوء على أولوية العرق والاهتمام بضرورة بناء «الحدود الثقافية»، وتم اعتبارها اهتمامات مشروعة للاّهوت.

وسريعًا تطوّرت هذه الأفكار في التربة الألمانية، وارتأت أن المهمة الأساسية التي كان يجب أن تقوم بها المسيحية التقليدية هي أن تحلّ محل اليهودية لا تتعايش معها، وهو ما سيسعى الألمان إلى تحقيقه عن طريق «بناء نسخة ألمانية من الإيمان المسيحي»، واعتبر المؤسّسون أن هذه المحاولة لا تتعلق بتنقيح الديانة وإنما بالسعي لاستعادة المعنى الأصلي للأناجيل.

ولهذا تم الاهتمام بتنفيذ أعمال «مراجعة لاهوتية» أظهرت يسوع على أنه من مواليد آرية، وأن حياته كانت مُكرَّسة لمقاومة اليهود، وهي الأطروحات التي لاقت إعجابًا شديدًا عند هتلر، بعد ما مكّنته من الترويج لإيمان من نوع جديد قائم على أساس العرق يعتبر أن الولاء المطلق للوطن جزء أساسي من تعاليم الدين.

ولهذا لم يكن غريبًا أن يُقبل النازيون على هذه النظريات اللاهوتية العنصرية، ويعلنون تأييدهم لها في المادة 24 من برنامج الحزب الرسمي الذي أُعلن عام 1920م، ونصَّت على أن الحزب يعتنق وجهة نظر «المسيحية الإيجابية» لأنها «تحارب الروح اليهودية المادية في الداخل والخارج».

وكان القائد النازي هانز سكيم (Hans Schemm) أكثر قادة هتلر تعبيرًا عن هذا الفكر بمقولته الشهيرة «ديننا هو المسيح ووطننا السياسي».

وفي إحدى خُطب «سكيم» تحدث فيها عن بعض معالم المسيحية التي يُبشِّر بها النازيون، والتي تعتبر أن عدم التمييز العرقي هو «كفر بالله»، يقول هانز:

نريد الحفاظ على ما خلقه الله، وليس تدميره، تمامًا كما تحتفظ شجرة البلوط وشجرة التنوب باختلافهما في الغابة. نحن متهمون بالرغبة في تأليه فكرة العرق. ولكن بما أن العرق هو من إرادة الله، فإننا لا نريد شيئًا سوى الحفاظ على الجنس طاهرًا، من أجل الوفاء بشريعة الله.

هتلر من عداء المسيحية إلى اصطناعها

باتت تشغل هتلر أكثر فأكثر أفكار إنشاء دينٍ جديد للبشرية وكأنما أراد إعادة خلقها من جديد.





المؤرخ النازي هيرمان راوشنينج

ارتكزت المسيحية النازية على عقيدة أخلاقية  تُسمَّى «أوامر الخلق» (Schöpfungsordnungslehr) التي ترى أن خلق الله للبشر كفئات متباينة في القدرات أمر مسلم له، وأن أي تجاوز لهذا المبدأ أو حتى محاولة إصلاحه بالتقريب بين هذه الفئات يُعتبر انتهاكًا لأمر الله المقدس، وهكذا قدّمت هذه العقيدة أرضية فلسفية ملائمة لإقرار كافة السياسات الاستبدادية التي سعى لها هتلر، وبات الاعتراض على أوامره ليس فقط مخالف للسياسة الوطنية وإنما للدين والله أيضًا، ليضمن هتلر أن تُطاع كافة مراسيمه تحت سيف بطريركي دمَجَ بين مهابة الديكتاتور وسُلطته وكهنوت رجل الدين وتاثيره بشكلٍ لم تعش ألمانيا مثيلاً له من قبل.

وبالرغم مما عُرف عن هتلر من كراهيته الشديدة تجاه المسيحية، حتى أنه ذات مرة أفصح لذراعه الإعلامية جوبلز عن رغبته في استئصال المسيحية من العالم بأسره معتبرًا إياها «داء خطير»، إلا أنه كسياسي ذكي علم أنه يحتاج لطريقة يكسب بها ثقة المسيحيين الألمان ويجذبهم إلى حظيرته.

ففي العام 1933م، بلغ عدد سكان ألمانيا 60 مليون نسمة. كان جميعهم تقريبًا مسيحيين، وينتمون إما إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية (نحو 20 مليون عضو) أو البروتستانتية (نحو 40 مليون عضو)، فيما اقتصر حجم الجالية اليهودية في ألمانيا على 1% من إجمالي سكان البلاد.

ولهذا كانت «المسيحية الإيجابية» خيارًا مثاليًا لهتلر يُمكِّنه من استقطاب شعبه دون أن يتخلّى عن قناعاته العرقية بالغة التطرف.

لذا لم يتردد هتلر في الاحتفاء بالمسيحية ووصفها بأنها «أساس القيم الألمانية» في خطابٍ رسمي ألقاه أمام الرايخستاغ (البرلمان الألماني) في 23 مارس 1933، وبالطبع فإنه في هذا الخطاب لم يكن يعني إلا نوع المسيحية الذي يروّج له.

تبنّى هتلر «المسيحية الإيجابية» بعدما أُلحق بها بعض الزيادات التي ستضفي على صورته المزيد من التلميع، مثل تقديم الفوهرر على أنه «وحي من الله لتخليص الأمة الألمانية من مصائبها» أو اعتباره امتداد لشخص المسيح ولأفكاره ولرؤيته في تطهير العالم، كما اعتقد هتلر أن اتّباع «مسيحيته» يكفل وقاية المسيحيين من كافة الاختلافات العقائدية والمذهبية التي فرّقت بينهم، والتي سيتم التغاضي عنها جميعها عبر التوحد تحت مظلة أيدولوجيا القومية النازية.

ولعب لودفيج مولدر أسقف الرايخ الألماني، والذي كنَّ إعجابًا شديدًا تجاه الزعيم الألماني، دورًا كبيرًا في تطوير المسيحية الإيجابية التي ألّف عنها كتابًا كاملاً اعتبر فيه بأنها «تجربة لاهوتية ألمانية فريدة»، كما وصف هتلر بأنه أكبر حامي للمسيحية من الضياع لأنه المحارب الأول للشيوعية البلشفية.

يقول مولدر:

ماذا كانت ستصبح الكنائس الألمانية لو انتصرت البلشفية؟ ألم تنقذ الاشتراكية القومية الكنيسة وخدمها من ألد أعدائها؟ كل من يضعف الثقة في الفوهرر ويقوِّض الثقة في فكرة الاشتراكية القومية يخطئ ضد شعبنا وبلدنا، لأنه يدير عمليا أعمال البلشفية، التي هي العدو المعلن للمسيحية الإيجابية وعدو الله الصريح.

فيما تحمّس عددٌ آخر من رجال الدين الألمان، ووصفوا هتلر بأنه «الفوهرر يسوع» و«وكيل الله في أيامن» واعتبروا أن نجاح النازية هو إنجاز للمسيحية.

كما أكد مولر أن العداء بين المسيحية واليهودية ضروري، وعارض بشدة أي رأي يعتبر المسيح يهوديًا، ووصف قائليه بـ«المتطرفين الذين فشلوا في فهم الحقائق التاريخية واللاهوتية لحياة يسوع»، معتبرًا صلب المسيح أبرز دليل على ذلك لأنه لو كان يهوديًا لطُبِّقت عليه قواعد الشريعة ورُجِم حتى الموت.

يقول:

يجب أن نؤكد بكل حزم أن المسيحية لم تنشأ من اليهودية، بل تطورت لمعارضة اليهودية. عندما نتحدث عن المسيحية واليهودية اليوم، فإن الاثنتين في جوهرهما الأساسي تقفان في تناقض صارخ مع بعضهما البعض.

ويُشكِّل جوهر مفهوم مولر لما يجب أن تكون
عليه المسيحية، وهو حدوث ارتباط عميق بين العرق والأمة والإيمان في مذهب ديني واحد،
وبناءً على ذلك قام باجتهادات لاهوتية شرّعت للعنصرية ومعاداة السامية.

وبالمثل لعب عالم اللاهوت الألماني كاجوس فابريسيوس دورًا فعّالاً في وضع أساس اللاهوت المسيحي الجديد، وخاصة كتابه الشهير «المسيحية الإيجابية في الدولة الجديدة» الذي حقق نجاحًا كبيرًا وانتشر على أكبر نطاق.

وبخلاف هذا الكتاب بذل فابريسيوس جهودًا مضنية
من أجل الدمج بين تعاليم المسيح والأيدولوجية النازية، والتي سعى لتبرئتها من أي
عداءٍ مزعوم تجاه الكنيسة، واعتبر أن كل ما قيل عن وجود خلاف بين الطرفين هو نتيجة
للدعاية الماركسية السلبية.

ويقول:

إن روح العقيدة المسيحية لا علاقة لها باليهودية التي نحاربها نحن الاشتراكيين القوميين. إن هجماتنا موجهة ضد اليهودية الحالية، حليفة قوى الدمار، التي تسعى بكل سرية من خلال قوة البنوك والصحافة إلى حكم العالم. نحن نعارض خلط عرقنا مع عرق اليهود.

ويعتبر أنه في زمن الصراعات الذي تعيشه الدنيا يجب أن تسير الكنيسة جنبًا إلى جنب النظام النازي في حربه ضد «كل قوى الظلام التي تهدد بإسقاط الثقافة المسيحية».

الإنجيل النازي يخلق «مسيحية مزعجة»

في العام 1939م، تم إنشاء «معهد دراسة واستئصال التأثير اليهودي على حياة الكنيسة الألمانية» في جامعة يينا Jena العريقة التي جرى تأسيسها سنة 1558م.

واعتبر أساقفة المعهد أن هذه الجهود أكبر دعم
لهتلر في حربه ضد اليهود، واستمروا في هذا النشاط حتى تم حلّه عقب هزيمة ألمانيا
في الحرب عام 1945م.


ترأس المعهد والتر جروندمان

أستاذ العهد الجديد بجامعة جينا، الذي عُرف عنه حماسه الشديد للنازية ولزعيمها، ففي دراسة بحثية بعنوان «الله والأمة: مساهمة بروتستانتية في أهداف الاشتراكية القومية» قال عن هتلر:

في هذا الرجل لا يوجد شيء مفكك. إنه في حد ذاته واحد تمامًا، بسيط تمامًا، نقي تمامًا. نحن نعلم أيضًا أن قوة مثل هذا الرجل الواضح والصادق لا تنبع من الأرض، ولكن -بالأحرى- من هذا العالم الأعلى الذي سماه السيد يسوع المسيح (ملكوت السماوات).


تقول أستاذة الدراسات اليهودية

سوزانا هيشل في كتابها «يسوع الآري: اللاهوتيون المسيحيون والكتاب المقدس في ألمانيا النازية»، إن هذا المعهد أصبح أهم جهاز دعائي للبروتستانتية الألمانية، حيث مارس تأثيرًا واسع النطاق، وأنتج – وفقًا لوصفها – «مسيحية مُزعجة» ركَّز ثقلها اللاهوتي على معاداة السامية وبذْل كل الجهود الممكنة لإزالة أي أثر لليهودية في المسيحية.

ولتحقيق هذا الهدف أقام المعهد مؤتمرات
دعائية في كافة أنحاء الرايخ النازي، ونشر العديد من الكتب التي تشوه اليهودية، كما
تم الاستغناء عن كافة الترانيم التي كتبها غير الآريين أو التي يُشتم معها أي رائحة
تدعو إلى السلام أو الاستكانة (اعتبرها النازيون مفردات تدعو إلى الضعف والسلبية).

علاوة على تنقيح العهد الجديد بعناية حتى أنتجوا «إنجيلاً جديدًا» تفضي إصحاحاته في النهاية لنتيجة أن المسيح كان آريًا، وتحقق الهدف الذي سعى جروندمان إلى الوصول إليه وهو العودة بالكتاب المقدس إلى «حالته الأصلية»، وذلك بتطهيره من اليهودية التي ألحقت بالإصحاحات ما سماه «تحريفات التاريخ».

ولهذا تمت إعادة صياغة العديد من إصحاحات العهد الجديد لتقديم يسوع كشخص محارب وليس خادمًا وديعًا، كما تم حذف سيرته الذاتية اليهودية، علاوة على الربط بين يسوع ومدينة الجليل التي زعم علماء اللاهوت الألمان أن الآريين كانوا يسكنونها في القرن الثامن قبل الميلاد، وتم التخلي عن الوصايا العشر واستبدالها بـ12 وصية حملت رقم 11 منها عنوان «احترم الفوهرر وسيدك».

هذا

الكتاب اشتهر تاريخيًا بلقب «الإنجيل النازي»

أو «إنجيل هتلر»، وبحلول العام 1941م، تمَّت طباعة وتوزيع 200 ألف نسخة من «العهد الألماني» على القساوسة والعلماء وأعضاء الحزب والجنود في الجيوش، وبعد الحرب أتلفت هذه النسخ جميعها ولم يعد باقيًا منها إلا نسختان أو ثلاثة فقط.

ويحكي رامي رأفت في كتابه «النازيون العرب»، أن هتلر شنَّ حربًا ضروسًا على كل مسيحي لم يتّبع مذهبه الجديد، فأغلق المدارس الكاثوليكية عام 1939م، كما أغلق مكاتب الصحة الكاثوليكية عام 1941م، واستهدف كثيرًا من الأديرة وصادر ممتلكاتها الكنسية، واعتقل عددًا من القساوسة الذين عارضوا «المسيحية الإيجابية» وأودعهم معسكرات الاعتقال.

في النهاية نجحت «المسيحية الألمانية» في استقطاب نحو 30% من البروتستانت الألمان خلال فترة الثلاثينيات وحدها، لكنها كأي فكر قمعي سلطوي تبخّرت من الدنيا فور رحيل مؤسِّسها على الرغم من كافة الجهود المضنية التي بُذلت لترسيخها داخل العقول، ولم يعد لها اليوم أدنى أثر إلا الحديث عنها كذكرى مضت عن مجنونٍ مرَّ من هنا.