ماذا لو أخبرتك أنّ في كل ساعة
تقريبًا يموتُ فردٌ في هذا العالم

لعدم
توافر متبرع

يزوّده بالعضو الذي من شأنه أن ينقذ حياته؟ وليت الأمر يتحسّن… بالعكس،
بل ينضم مريض جديد إلى قائمة الانتظار هذه كل عشر دقائق.

يمكن للمريض الواحد أن

يُنقذ حياة ثمانية أفراد

من خلال تبرعه بأعضائه الحيوية -كالقلب والكلية والرئة وغيرهم- فور وفاته، ويمكنه أن يساعد ما يصل إلى 75 آخرين من خلال تبرعه بالأنسجة -كالجلد والعظام والقرنية- تخيّل لو أن الجميع وفّر أعضاءه جاهزة للتبرع عقب وفاته؟ بل وتخيّل لو تجاوزنا ذاك الجدال القائم بشقيه الديني والأخلاقي وأوجدنا طريقًا مختصرًا يوصلنا لنفس الوجهة وأمكننا الحصول على الأعضاء المزروعة من أجسام الحيوانات؟

في قلبِ جامعة ماريلاند

بعد استنفاد كل محاولات

علاج مرضى القلب

، ووصولهم لمرحلة نهائية في الفشل القلبي، تصبح زراعة القلب هي الحل الأوحد من أجل إنقاذ حياتهم. دعك من أنّه من الصعب الوصول لمتبرع… لأنه حتى مع وجود متبرع، يصبح أحيانًا من غير الممكن أن يخضع مريضٌ -عانى الكثير- لتلك الجراحة من الأساس، وتكون فرصة خطر الجراحة على حياته لا تقل شدة عمّا لو تُرك بلا تدّخل، كلُ ذاك راجعٌ إلى

مهاجمة الجسم للخلايا الدخيلة

، ابتداءً من رفض الجسم للعضو المزروع، وحتى تكوّن استجابة مناعية ضد الجسم كله مسببةً الوفاة، لكن مريضنا «ديفيد بينيت» كان من المحظوظين الذين ابتسم لهم القدر.

عقب التقدّم الهائل في

أبحاث التعديل الجيني

،
وعلى رأسها تقنية «كريسبر كاس 9»، تمكّن العلماء من خداع أجهزتنا المناعية وإدخال
بعض التغييرات على جينوم الخنازير من أجل الاستفادة من أعضائها للزراعة لدى
الإنسان، وتجرّأ فريق من الباحثون في جامعة ماريلاند بالولايات المتحدة يقودهم
الجراح «محمد محيودين» Muhammad Mohiuddin،
بتقديم طلب إلى منظمة الغذاء والصحة العالمية من أجل إجراء تجربة سريرية على مرضى
من البشر، إلا أن الطلب قوبل بالرفض، وأشارت الهيئة بإجراء عمليات الزراعة أولًا
على 10 من قردة البابون قبل الانتقال إلى البشر.

لكن «

ديفيد
بينيت

» البالغ من العمر
57 عامًا أعطى الضوء الأخضر لفريق البحث، وعدّ نفسه المسئول الأوحد عن تلك الجراحة،
مُخلِيًا بذلك أية مسئولية لغيره، وموفِّرًا الكثير من تجارب هيئة البحث العلمي
على قردة البابون أولًا. كان بينيت قد خضع قلبه للدعم لمدة شهرين ولم يتمكن من
الحصول على مضخة قلب ميكانيكية، نظرًا لعدم انتظام ضربات قلبه، ولم يكن في حالةٍ
تؤهله لاستقبال قلب من متبرع، بمعنى آخر كان على بينيت أن ينتظر الموت أو ينتظر
فوز العلم بكل بساطة.

الخنازير؟ ليست المرة الأولى

بدأ الأمر

منذ
عام 2018

، حين جرّب العلماء فقط زراعة أنسجة حيوية لرئة خنزير داخل رئة خنزير
آخر من أجل اختبار مدى استجابة الجسد الجديد للرئة المزروعة، ومدى تفاعله معها
وتقبّله لبنائها.

نصّت التجربة على الحصول على هياكل
من رئات خنازير ميتة، ونعني بهياكل أنّهم نزعوا الرئة من الأوعية الدموية المحيطة،
وأزالوا كذلك الخلايا مستخدمين مركباتٍ خاصة، ولم يزل سوى هيكل الرئة الأساسي
مصنوعًا من البروتين، ومن ثمّ قاموا بزراعة هياكل الرئات تلك في أحواضٍ احتوت
المغذيات اللازمة واحتوت خلايا رئوية وأوعية دموية، مصدرها رئة الخنزير المريض
المخطط لإجراء الزراعة فيه.

بعد تركها لشهرٍ كامل داخل الأوعية
المخصصة، نمت الرئات المُخلّقة وأصبحت جاهزة للزراعة داخل أجساد مستضيفيها الجُدد.
نقل الباحثون تلك الرئات إلى داخل رئات 4 خنازير، وجرت مراقبتهم لأكثر من شهرين
متابعين تقدّم نمو الرئات، والنتيجة؟

حسنًا، تمالك نفسك قليلًا لأنّ النتائج جاءت صادمة للغاية، فالرئات لم تتصل بالأوعية الدموية المحيطة في زمن قياسي فحسب، ولكن أيضًا غزت الرئات أنواعٌ من البكتيريا تتواجد طبيعيًا داخل رئة الخنازير. بمعنى آخر، لم يُفرِّق الجسم بين رئة خنزير طبيعية وأخرى قادمة من خنزير آخر.

مرضى الفشل الكلوي: أنسطّر نهاية المعاناة؟

كان نقل رئة خنزير لآخر بدايةً مبشّرة في مجال نقل الأعضاء، حيث قام بعدها العلماء بدمج علم آخر في تجاربهم، لتصبح النتائج أكثر تبشيرًا، نعم هو علم الهندسة الوراثية.

تم الإفصاح عن الأمر في

سبتمبر/أيلول من عام 2021

، أي منذ عدة أشهرٍ فقط، عقب نجاح فريق من الباحثين في زراعة كليتين من خنزير -بعد القيام ببعض التعديلات الجينية في الكلية المزروعة- داخل جسم إنسان حي، خاضع للموت الدماغي، وذلك بعد الحصول على تصريح بالموافقة من أهل المريض، الذي كان من المقرّر فصل الأجهزة الداعمة للحياة عنه، ليقوم المريض بمهمة أخيرة قبل أن تفيض روحه إلى الأبد، وتمّت الجراحة في وضعٍ مُحاكٍ تمامًا لعملية زراعة الأعضاء السريرية.

بمجرد أن انتهى الأمر أبقت كلا
الكليتين المزروعة على كمية الدم الواردة إليها، وأنتجتا كميات طبيعية من البول
مماثلة تمامًا للكمية التي تُدرِّها كلية مزروعة من إنسان، حتى المؤشر الدال على
وظيفة الكلية، وهو

مستوى
هرمون الكرياتينين

، لم يُظهِر خللًا من أي نوع، ولم تظهر أية علامات لرفض
المريض لكلية الخنزير حتى انتهاء الدراسة.

لماذا ليس قلب الشمبانزي؟

من مطلع

القرن السابع عشر

وحتى نهاية القرن العشرين، عانت الحيوانات المسكينة جرّاء نقل أعضائها إلى الإنسان، بدءًا من الدم، ومرورًا بجلد الضفادع، وحتى الخلايا في خصية القرود، لم يسلم أيٌّ منها من بطش الإنسان، وكلها كانت لأغراض ميثولوجية أكثر منها طبية، ثم مع ظهور الطبيب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل «ألكسيس كاريل» وتغييره لمفاهيم في علم الأوعية الدموية وزراعة الأعضاء، برزت إلى الساحة عمليات نقل أعضاء ذات قيمة، مثل أول جراحة لزراعة قلب شمبانزي داخل جسد إنسان، تلك التي تمت عام 1964 على يد الجرّاح «جيمس هاردي»، ولم تنجح، إذ توفي المريض في غصون ساعتين.

تملك الخنازير

ميزاتٍ فوق القرود

، فرغم أنّ الشمبانزي يعدّ أقرب جينيًّا إلى الإنسان، فإن فرصة نجاة عضو خنزير داخل جسد الإنسان تفوق نظيره من القرود، ليس فقط لأنها أسهل في التربية وتصبح أحجام أفرادها مناهضةً لأعضاء الإنسان في غضون ستة أشهر فقط، ولكن أيضًا لأن أعضاء الخنزير أقرب تشريحيًّا وحجمًا إلى الإنسان، وأسهل خضوعًا للتعديل الجيني، وبالتالي أكثر طواعية داخل مقرها الجديد.

وأنهى القلب دورته الأولى

جرت جراحة «ديفيد بينيت» على أتم
وجه، وواصل قلبه العمل بشكله الطبيعي، لم يعلن الباحثون عن نجاح الجراحة سوى بعد 6
أيام، بعد أن اطمأنوا أن كل شيء يسير على ما يُرام، ودون أن تظهر أية علاماتٍ لرفض
جسم بينيت للقلب الجديد.

وحتى تتخيل

مدى
نجاح الأمر

، تصوّر أن أحدهم أجرى عملية نقل أعضاء وكُلّلت بالنجاح، لكنه
ببساطة لم يحتج إلى متبرع، لأن الحيوانات نربيها وبوفرة، تخيّل عالمًا يكون الحصول
فيه على قلب أو كلية أو أي عضوٍ حيوي أسهل من الحصول على كيس دم من بنك الدم.

لا يمكن لأحدٍ أن يُنكر أن لمستقبل زراعة الأعضاء دورًا واعدًا في مجال البحث العلمي في الوقت الراهن، وفي المستقبل القريب جدًا، لكننا بالطبع نحتاج إلى المزيد والمزيد من التأكيد ولن نستطيع أن نحسم ذاك الدور من نجاح واحد، لا سيّما بعد إخفاقاتٍ استمرت لستين عامًا، وحتى مع كل تلك الشكوك، فخط الهجوم الأول الذي يواجه استزراع الأعضاء من الحيوانات ليس سببه قصور في العلم، بالعكس تقف الإشكاليات الدينية والأخلاقية أمامنا كمتصدرٍ أول.

مجرّد عضوٌ زائد أم تغيّر بالكامل في الشخصية؟

في

أستراليا
عام 2006

عقب إجراء مريض بالغ من العمر 63 عامًا لعملية زراعة قلب، أبلغ
المريض عن تحسّن قدراته «الفنية» على نحو غير مسبوق، هو الذي لم يكن يملك أدنى
المهارات، وقد عجب طاقم التمريض في المشفى لما وصل إليه مستواه الفني، ولدى تحري
البحث اكتُشف أن المتبرع الذي أعطاه قلبه كان فنانًا موهوبًا.

لم تكن تلك الحادثة فريدة من نوعها، ففي دراسة استجوبت 47 مريضًا من متلقي الأعضاء في أستراليا –أيضًا- أعرب 6% منهم عن تغييرات حدثت في شخصياتهم بعد الزراعة.

تعددت الحالات

التي أقيمت عليها مثل تلك الدراسات، وأظهرت الكثير منها تغييرًا في أنماط الشخصية والسلوك والمشاعر لدى المرضى متلقي الأعضاء، وشملت كذلك تغيرًا في الذوق الموسيقي والفني والجنسي والترفيهي، وحتى ذوقهم في اختيار الطعام والأسماء، ظهرت تلك الملاحظات في متلقي الأعضاء عمومًا، لكن النسبة الأكبر ظهرت لدى متلقي القلب بالذات، مما رفع الشكوك حول النظريات التي تدعم امتلاك القلب لخلايا ذاكرة تمامًا مثل المخ.

ربما تلك النظريات المفسرة للموضوع ليست محور حديثنا الآن، لكنها ترفع بقوة إصبع الاتهام الذي وُجه إلى أخلاقية نقل الأعضاء لا سيما القلب، خاصةً لو كان من حيوان كالخنزير، ربما تكمن الصعوبة مستقبلًا ليس في إيجاد عضو للتبرع، ولكن في صعوبة إقناع الناس بأخلاقية ودينية الموضوع، بالأخص لو كانوا على اطلاع أن تغيير سلوكهم وشخصياتهم وتفكيرهم عقب العملية، هو احتمال وارد.

لو توقفت حياتك مستقبلًا على
الحصول على قلب من خنزير، وعلمت أن جانبًا من شخصيتك قد يتأثر: هل ستوافق؟ أتفضِّل
أن تموت على احتمال أن تعيش نصف إنسان ونصف خنزير؟