يتنامى الدور الذي تلعبه قوات الحشد الشعبي في العراق غداة انهيار القوات المسلحة العام 2014 في خضم المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية، بيد أن هذه المنظمة التي تضم ثلاثة فصائل متمايزة استنادًا إلى ولاءاتها لكل من آية الله الخامنئي وآية الله السيستاني ومقتدى الصدر وإن كانت تحظى باعتراف الدولة، لكنها تمتثل لإرادة قيادات غير دولتية.

كما أنها تلعب دورًا بارزًا في تشكل مستقبل النظام الأمني والسياسي للعراق، من هنا تأتي أهمية هذه

الدراسة

المنشورة لمركز كارنيجي للباحثين ريناد منصور وفالح عبد الجبار، والتي تتناول الحشد الشعبي ودوره وتأثيره في مستقبل العراق.


كيف تكون جزءًا من الحل ومن المشكلة في آن معًا؟


بدا الحشد الشعبي جزءًا من الحل كونه وعاءً لعشرات الآلاف من المتطوعين لمواجهة تنظيم الدولة الذي سيطر على ثلث الأراضي العراقية بما في ذلك الموصل ثاني أكبر المدن 2014، ولعب الحشد دورًا بارزًا في تحرير معظم بلدات ومدن العراق.

لكن على نحو مقابل أصبح جزءًا من الإشكالية كونه لا يخضع لأي مساءلة، فضلاً عن تشكيله بطريقة تخالف المادة 9 من الدستور العراقي، كما أنه يجسد الجهود الإيرانية لممارسة الغلبة والفوقية في العراق، حيث كان لإيران يد طولى في تنظيم ودعم قيادة الحشد التي اجتمعت مرارًا بقاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.

سيواجه العراق في أعقاب معركة استعادة الموصل وحتى انتخابات 2018 تحديات تتعلق بدور الحشد الشعبي، حيث تنغمس البلاد في صراع شيعي داخلي بين رئيس الحكومة السابق نوري المالكي الذي يريد العودة إلى جنة السلطة ورئيس الحكومة الحالي حيدر العبادي الذي يحاول الحفاظ على سلطة الدولة، علاوة على رجل الدين مقتدى الصدر المصمم على ضمان عدم عودة جناح المالكي للحكم، وسيكون العامل الحاسم هو ما إذا تم الإبقاء على قوات الحشد كقوات عسكرية منفصلة أو ستدمج في أجهزة الأمن الرسمية.

كان «حزب الدعوة» هو الحزب الشيعي الوحيد الذي لم يشكل جناحًا عسكريًا، نبع ذلك من رؤية مؤسسه باقر الصدر أن مثل هذه الميليشيات تطرح إشكالية.

وبالمثل كان نوري المالكي الذي تزعم حزب الدعوة وتولى رئاسة الحكومة 2006-2014 معارضًا في البداية للميليشيات غير الدولتية ورفع شعار دولة القانون خلال ولايته الأولى، وعلى عكس رغبة إيران استهدف التشكيلات العسكرية بما في ذلك جيش المهدي التابع لمقتدي الصدر والقاعدة وهي ميليشيا سنية قادها أبو مصعب الزرقاوي.

لكن في أوائل 2014 تبنى المالكي رأيًا مخالفًا وبدأ بدعم 7 فصائل شبه عسكرية؛ ما سمح لها بمزاولة نشاطاتها رسميًا وهي منظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسيد الشهداء وحركة النجباء والإمام علي وجند الإمام وجلها شيعية، وهي التي أصبح يطلق عليها في وقت سابق الحشد الشعبي.


أي اعتبارات ساهمت في بناء الحشد الشعبي؟

وزير الداخلية الأسبق محمد سالم غبان

مثلت هزيمة الجيش العراقي أمام تنظيم الدولة في الموصل فضلاً عن فشل الدولة في بناء قطاع الأمن عاملاً أساسيًا في تحول موقف قادة حزب الدعوة، كما أضفت فتوى السيستاني حول «الواجب الكفائي» شرعية دينية للقرار رغم تفسيره أن المقصود هو التطوع ضمن صفوف القوات الأمنية، وسرعان ما نشطت حملة واسعة لتجنيد المتطوعين عبر مئات المراكز واستندت الحملة على تشويه صورة الجيش العراقي نفسه.

مثل هذا التحول صورة للتقارب بين المالكي في فترته الثانية وطهران وهو ما سمح ببزوغ ميليشيات أكثر ولاءً لإيران أبرزها عصائب أهل الحق، كما سمح المالكي لبعض الميليشيات العراقية مثل أبو الفضل العباس تحت ذريعة حماية المقدسات الشيعية بالذهاب للدفاع عن النظام السوري بحيث تحول الأسد، الخصم السابق والمتهم بإرسال جهاديين متشددين لزعزعة حكومة المالكي خلال الحرب الأهلية 2006-2008، إلى حليف.

باتت المجموعات شبه العسكرية أكثر أهمية للمالكي بعد إطاحته من رئاسة الحكومة في آب/أغسطس 2014، لذلك حافظ عبر العمل مع إيران على نفوذه بين الميليشيات من خلال تزويدها بالأموال والعتاد العسكري.

ورغم نفوره من الميليشيات إلا أن رئيس الوزراء الحالي «حيدر العبادي » لم يستطع مواجهتها أمام نفس الاعتبارات التي أدت لتأسيسها وتتمثل في قوة إيران وضعف الأجهزة الأمنية أمام تحدي تنظيم الدولة والشرعية الدينية التي أضفتها عليها فتوى السيستاني.


كيف نفهم اختلاف المرجعيات داخل الحشد الشعبي؟

الجناح المؤيد للخامنئي

المجموعات الأقوى في الحشد هي تلك التي تحظى بعلاقات متينة مع طهران وتدين بالولاء الروحي لمرشد الثورة الإيرانية ولولاية الفقيه بدلاً من الولاء للسيستاني في النجف.

وتشمل هذه المجموعة كتائب حزب الله وأبو الفضل العباس وسرايا الخراساني ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق، ويمكن اعتبارها أذرع للحرس الثوري حيث تعمل هذه الميليشيات كحرس حدود إيراني لحماية المناطق الحدودية الإيرانية كما ينخرط بعضها في الصراع السوري، وهي تمثل جناحًا يمينيًا متشددًا يستمد شرعيته العسكرية من طهران والسياسية من بغداد ويسعى للعب دور سياسي «استيعادي» خلال الانتخابات المقبلة؛ بمعنى أنها تسعى لإعادة حكم المالكي.

الجناح المؤيد للسيستاني

الجناح الثاني في الحشد الشعبي يضم عددًا من التشكيلات شبه العسكرية غير المسيسة التي تأسست بعد فتوى السيستاني بناءً على التخوف من قدرة تنظيم الدولة على تدمير المقامات والمزارات الشيعية، وتكمن أولويتها في الحفاظ على سلامة الأماكن الشيعية ويعتقد أنه بزوال تهديد تنظيم الدولة فإن هذه التشكيلات سيتم حلها أو دمجها في القوات المسلحة العراقية.

تمثل هذه المجموعة أربعة تشكيلات رئيسية: سرايا العتبة العباسية، وسرايا العتبة الحسينية، وسرايا العتبة العلوية، ولواء علي الأكبر.

الفصيل الموالي للصدر

أسس مقتدى الصدر «سرايا السلام» في يونيو/حزيران 2014 وهي مسمى جديد لجيش المهدي الذي جمد في العام 2008، لكنه احتفظ بعدد كبير من كوادره وخبراته وشبكاته الاجتماعية.

يعتقد قياديو التيار الصدري أنه لدى سرايا السلام قدرة افتراضية على بناء جيش من مئة ألف عنصر، حيث لا يكمن العائق في عدد المتطوعين وإنما غياب الموارد بسبب الحرمان من التمويل الإيراني والتعنت من قيادة الحشد الشعبي القريبة من المالكي.

يحتفظ الصدر بموقف وطني عراقي بحيث يناهض أي تدخل خارجي بما في ذلك التدخل الإيراني، وهو ما يثير حفيظة طهران التي استثمرت في جيش المهدي طوال الفترة 2003-2010 ، كما أنه يرفض أي دور للمالكي في مستقبل العراق.


ما هي أبرز نقاط الخلاف داخل البيت الشيعي؟

الحشد ولد من رحم الضرورة، فثلث العراق كان محتلاً في ذلك الوقت.

الانخراط مع حكومة العبادي أو التدخل في سوريا أو القبول بالاندماج مع القوى الأمنية القائمة بعد أن تضع الحرب مع تنظيم الدولة أوزارها، تلك هي أبرز نقاط الصدع بين المكونات المختلفة للحشد الشعبي.

فيما يتعلق بالانخراط مع الحكومة المركزية تبدي المجموعات الموالية للخامنئي حذرًا في التعامل مع العبادي وتراه رئيس وزراء ضعيفًا، وهي الصورة التي يسعى المالكي لترسيخها في مسعاه للعودة إلى السلطة.

في المقابل تقف الفصائل الموالية للسيستاني والصدر أكثر اصطفافًا إلى جانب الجهود التي يبذلها العبادي، وذلك رغبة في إحباط مساعي المالكي للعودة نظرًا لرؤيتهم أنه كاد يودي بالدولة إلى الانهيار خلال توليه رئاسة الوزراء، بالإضافة إلى تخوفهما من تعاظم النفوذ الإيراني.

رغم تعاطف التنظيمات شبه العسكرية السبعة التي ظهرت في البداية مع نظام الأسد وإعلان استعدادها للمساعدة في الدفاع عن دمشق، يقف السيستاني والصدر ضد التدخل في سوريا حتى أن الصدر انتقد حسن نصر الله بسبب تدخله الرسمي في سوريا 2014. في المقابل تنخرط عدد من الميليشيات التابعة للخامنئي في الصراع السوري بالفعل.

كذلك تعلن مجموعتا السيستاني والصدر أنهما على استعداد لحل تلك التشكيلات أو إدماجها في القوات المسلحة شرط أن تتمتع الدولة بالقوة الكافية، بينما المجموعة الأولى تبدو أكثر تخوفًا وليست مستعدة للتخلي عن مواقع النفوذ التي تتمتع بها من أجل الخضوع لحكومة يمثلها العبادي.

وبينما تنظر مجموعة الخامنئي للحركة الاحتجاجية التي انطلقت 2015 باعتبارها تمردًا يستحق العصى الغليظة من الدولة ملحقة به صفات مثل كفار ومتمردين أو عملاء للخارج، فإن الصدر قد انضم لتلك الاحتجاجات قبل نهاية العام نفسه.

تبدو الأجندة الإيرانية إذن هي موضع الخلاف بين تيار المالكي من ناحية والذي يتبنى أجندة طهران، وبين تيار الصدر وبدرجة أقل السيستاني المنزعجين من الدور الإيراني والأقرب لاعتماد سياسة عراقية خالصة.

في المقابل يقف حيدر العبادي محاولاً استغلال المعارضة المتنامية التي تظهرها كل من الولايات المتحدة والجيش العراقي ومنظمات حقوق الإنسان الدولية والتشكيلات شبه العسكرية الخاضعة للصدر والسيستاني والقادة المحليون في المحافظات السنية للقيادة الموالية للمالكي وخامنئي في إحكام سيطرته على قوات الحشد الشعبي بما يخدم دعم سلطة الدولة، فضلاً عن منحه أدوارًا أكبر للقوات الحكومية، ومحاولته تهميش الحشد الشعبي في المعارك ضد تنظيم الدولة.

تحتل قوات الحشد الشعبي موقع قلب في المعركة الأوسع على السلطة داخل المعسكر الشيعي المنقسم بين تيار وسطي يقوده العبادي الساعي لتأسيس هوية وطنية عراقية في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة، مستفيدًا من انتصارات القوات الحكومية وبين تيار يميني في تحالف مع طهران يقوده المالكي يسعى للعودة للسلطة على أكتاف التنظيمات شبه العسكرية.

بينما يستمر الزعيم الشعبوي مقتدى الصدر في محاولة البناء على التظلمات حيال قضايا الفساد وفشل الحوكمة للمطالبة بتغيير طاقم القيادة المتحالفة مع المالكي والتي تحكم العراق بشكل رسمي وغير رسمي منذ العام 2003.