أصبحت محافظة ديالى في الآونة الأخيرة مسرحًا لأبرز العمليات المسلحة من جميع الأطراف في الساحة العراقية، بدءًا من تنظيم داعش الذي أقام معسكرات ومناطق نفوذ في أماكن معروفة، وانتهاءً بميليشيات الحشد الشعبي الموالية لطهران التي لا تخفي نواياها في تهجير جميع سكان المحافظة من أبناء المكوِّن السني، وتعمل بشكل حثيث لتنفيذ هذا الهدف.

فوفقًا للمسئول الأمني لكتائب حزب الله، أبو علي العسكري، لن يستقر الوضع الأمني في ديالى حتى يتم

استنساخ تجربة «جرف الصخر»

، وهي منطقة جنوب بغداد تم تهجير كل سكانها بحجة الحرب على الإرهاب وتحويلها إلى معسكرات تابعة لميليشيات الحشد الشعبي، وتغير اسمها إلى «جرف النصر» تيمنًا بالنصر على تنظيم داعش.

ومع أن الغالبية الساحقة من سكان ديالى هم من العرب السنة، يبدو أن هذه التركيبة في طريقها للتغير سريعًا؛ فالحشد الشعبي يمارس عمليات إخلاء قسري بطريقة منظمة بهدف تهجير جميع هؤلاء السكان، معتمدًا سيناريو متكررًا، وهو وقوع هجوم من تنظيم داعش تتبعه عمليات انتقامية شعبية «عفوية» ضد القرى أو المدن السنية القريبة من موقع الحادث، أو حملات أمنية تؤدي نفس الغرض بحجة تطهير المكان من فلول التنظيم.

وبدأت ميليشيات الحشد الشعبي في ديالى بتنفيذ «خطة أمنية» في 2019 ادَّعت أنها تستهدف تنظيم داعش، تتضمن تجريف الحقول والبساتين لشق طرق واسعة داخل المناطق الزراعية في شرق وغرب المحافظة، ومن ثم نصب نقاط سيطرة أمنية وعزل القرى بعضها عن بعض لضمان عدم اختباء عناصر داعش بين الزراعات.

وبموازاة هذه الخطة الأمنية تعرضت القرى لإجراءات تضييق كما وقع في منطقة المخيسة التي تشتهر بإنتاج الفواكه وعسل النحل، وتوصف بأنها «جنة العراق»، وتتميز بموقعها الجغرافي على مفترق طرق بين بعقوبة مركز المحافظة والحدود الدولية مع إيران. فخلال لعبة تبادل الأدوار بين الميليشيات وتنظيم داعش المستمرة منذ سنوات، يشن التنظيم هجماته الخاطفة لتأتي عقب ذلك ميليشيات الحشد الشعبي لـ«تكافح الإرهاب» دون أي رقابة على نشاطها الفعلي من جانب الحكومة، وتستمر هذه العمليات بينما تنهمر على سكان القرى رسائل تهديد تطالبهم بالرحيل وترك أراضيهم وأملاكهم. ولتأكيد مصداقية التهديدات، تتوالى هجمات داعش وفصائل الحشد على قراهم.

بعد تشريد السكان بذل زعماء قبليون وسياسيون وأعضاء برلمان جهودًا كبيرة لإعادة هؤلاء النازحين إلى أراضيهم، ولما عادت 150 عائلة إلى منازلهم في فبراير/شباط 2020، تعرضوا لحملة قصف بقذائف الهاون، بينما تم منع أهالي قرى سنسل التابعة لقضاء المقدادية من الرجوع إليها، بعد أن تم تهجيرهم خلال الحرب على داعش عام 2015، ومنعوا من العودة إليها بعد الاحتفال بتحريرها بحجة أن شبابها كانوا منتمين للتنظيم الإرهابي.

الغريب أن تنظيم داعش الذي تمت محاصرته منذ سنوات ما زال ينشط في ديالى ويمتلك أموالًا وأسلحة واستخبارات ميدانية، ويعسكر في شمال بحيرة حمرين في مقر هادئ رغم كثرة الحملات الأمنية التي تـُشن ضده في القرى والمدن من حوله.

وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقع هجوم إرهابي شنه تنظم داعش على منطقة شيعية في المحافظة، ردت عليه ميليشيات الحشد الشعبي بعده بساعات باقتحام قرية نهر الإمام السنية القريبة بقوات كبيرة (

قدرت بعض المصادر عددها بنحو 3 آلاف

)، وقاموا بتنفيذ عمليات إعدام ميدانية بجانب عمليات سلب ونهب، وانتشرت فيديوهات يظهر فيها مسلحو الحشد على سيارات والنيران تشتعل بجوارهم في المنازل والسيارات والبساتين في القرية، تبع ذلك حملة نزوح كبرى، ليس من قرية نهر الإمام فقط بل من القرى المجاورة كالعامرية والهواشة والميثاق وشوك الريم،

وتتبع المهاجمون السكان الهاربين

فأحرقوا سياراتهم.

أما هيئة مكافحة الإرهاب الرسمية، فقد شاركت في تلك الانتهاكات عبر توفير وسائل نقل مجانية لتهجير السكان الهاربين من الموت وتوصيلهم إلى مناطق أخرى. وأعلنت وزارة الهجرة والمهجَّرين تخصيص نحو 650 دولارًا لكل أسرة نازحة، بينما وصلتهم رسائل من وسطاء

تطلب دفع ديات مالية باهظة

لأهالي قتلى الهجوم الذي نفذه داعش. أما منطقة الطارمية غرب ديالى، والقريبة من بغداد، فتتعالى الأصوات اليوم في

الإعلام العراقي

بضرورة تهجيرهم رأفة بهم كحل وسط أفضل من قتلهم.

وكان الصحفي المقرب من الحشد الشعبي، أحمد عبد السادة، دعا بشكل واضح إلى تطهير العديد من مناطق ديالى من المكوِّن السني على غرار ما حدث في مناطق قريبة من العاصمة، وقال في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي، تويتر: «أصبح استنساخ تجربة جرف الصخر ضرورة ملحة ليس في الطارمية فقط، وإنما أيضًا في العديد من مناطق ديالى».

تتضاعف الانتهاكات في ديالى في ظل دعم حكومي صامت، حيث تم تكليف هادي العامري، زعيم ميليشيا بدر والوجه الأبرز في قيادة الحشد الشعبي،

رسميًّا

بإدارة الملف الأمني في ديالى. يذكر أن العامري نفسه هو المتهم بتهجير ما يقدر بستين ألف عائلة من أهالي منطقة جرف الصخر التي تعد اليوم معقل قوات الحشد الشعبي.

لماذا ديالى؟

بالنظر إلى الخريطة يتضح أن محافظة ديالى تحتل موقعًا مهمًّا، فهي تجاور العاصمة من جهة الشرق، وتحتل المساحة الفاصلة بينها وبين الحدود الإيرانية. وبتهجير السكان من تلك المناطق تتعزز سيطرة الميليشيات على بغداد، مما يعني إيجاد اتصال ديموغرافي بين عاصمة العراق وإيران مصداقًا لما صرح به علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني السابق، عام ٢٠١٥ حين قال: «إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت سابقًا وعاصمتها بغداد، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما كانت عبر التاريخ».

كما تجدر الإشارة إلى أن المدائن، عاصمة الإمبراطورية الفارسية، تقع جنوب غرب ديالى وتضم إيوان كسرى، وتاريخيًّا كان الشاه الإيراني يعطي ابنه حكم كرمانشاه المقابلة لديالى لأنها تمثل جبهة المواجهة المفتوحة مع العراق.

كما أن ديالى تقع على حدود إقليم كردستان، فهي تتاخم محافظة السليمانية من الجنوب. كما تزداد أهمية الموقع الجغرافي للمحافظة لأنها تربط العاصمة بغداد بأقرب نقطة حدود إيرانية وهي خسروي، تقابلها المنذرية في الجانب العراقي، ويمر بها الخط البري بين إيران وسوريا. ويشير الداعية السني طه الدليمي إلى أن

سر الاهتمام الإيراني بديالى

يرجع لأنها تقع على أقصر الطرق إلى سوريا.

ولا يعد هذا الحديث حكرًا على السنة، بل إن زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، أطلق عقب مجزرة نهر الإمام تحذيرات مما اعتبرها «فتنة طائفية» محدقة بمحافظة ديالى؛ قائلًا في تغريدة له: «الخطر محدق بمحافظة ديالى الحبيبة، ونار الفتنة الطائفية يؤججها البعض (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها)، فهي أسيرة: التهريب والميليشيات والتبعية والإرهاب».

وهناك أيضًا هدف استراتيجي يتمثل بوقوع المحافظة في أقصى الشرق في العمق العراقي، لذا قامت ميليشيات الحشد الشعبي بنقل مخازن السلاح المرتبط بالميليشيات الإيرانية من مناطق الغرب كالأنبار التي أصبحت هدفًا مكشوفًا وسهلًا للاستهداف الجوي الإسرائيلي المتكرر.