كثيرًا ما يواجهُ المرءَ أسئلةٌ فكريّة صعبة، ولكن قليلا ما يتساءلُ المرءُ عمّا يجعلُ سؤالا فكريًّا ما مُلّحًا عليه بشدّة. تبدو أصالةُ الأسئلة الفكريّة التي تشغلُ المرء أصالةً أكيدةً وغيرَ محتاجةٍ للمناقشة، فإذا كان السؤال يشغلُني بالفعل ويحتلُّ حيّزًا من تفكيري وتترتَّبُ عليه خيارات سياسية أو ثقافيّة أو اجتماعيّة، فسأكونُ مقتنِعًا تمامًا بوجاهتِه وأهمّيتِه، ولن أتساءلَ كثيرًا، وربّما مُطلَقًا، عمّا جعلَه بهذا الإلحاح. يشيع القولُ بأنّ من أهمّ مقاتِل البَشَر أنّهم يقعون دائمًا في غرام أفكارِهم، ولعلّه يصحّ كذلك أنّهم يقعون في غرام أسئلتِهم.

الشّباب مرتبطٌ بالأسئلة الفكريّة في سائر المجتمعات، ولهذا أسبابُه الكثيرة المتعلّقة بكلّ من الشّاب والمجتمع. فيما يتعلّق بالشّاب، ففي الشّباب يجدُ المرءُ نفسَه مطالَبًا بالإجابة عن أسئلةٍ كثيرة، من تديّنه إلى خياراتِه السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة إلى مسارِه المهنيّ إلى نزوعاتِه العاطفيّة والجسديّة.

وفيما يتعلّق بالمجتمَع، فأكثرُ المجتمَعات أقامت تنظيمَها على أن تكونَ هذه هي الفترة التي يحدّد فيها المرء تخصّصَه ووضعيَّتَه الاجتماعيّة، وفيها يُصبحُ المرءُ مؤهَّلا للانتخاب والترشّح، وفيها يكونُ على المرء أن يخطَّ طريقَه خلفَ مهنة العائلة أو تجارتِها، أو يستقلَّ بنفسِه وبمسارِه، وفيها يبدأ المرء يميلُ إمّا إلى حلولٍ اجتماعيّة عامّة لمشكلاتِ جيلِه، من قبيل تحقيق العدالة الاجتماعيّة عن طريق الدولة أو تغيير الأنماط الثّقافيّة العامّة في المجتمع، أو إلى حلولِ فرديّة تقوم على الجهد الشخصيّ وعبور السّلّم الاجتماعيّ والطبقيّ إلى غاياتِه والميل إلى المُحافَظة الاجتماعيّة، وغيرها.

وعربيًّا، لسنا بِدعًا من هذا مع بعض الخصوصيّات بطبيعة الحال. ليست مشكلات الشّباب أمرًا عارضًا أو جديدًا، فتاريخنا الحديث شهد أمثلة مهمّة على فتراتٍ تميَّزت بمُوارٍ فكريّ في أوساط الشباب، مثل مرحلة الاستعمار ومواجهتِه، والمرحلة الليبيراليّة، ومرحلة ثورة يوليو/تموز وثورات البعث، ومرحلة هزيمة 1967 ومساءلة التراث بعدَها، ومرحلة الانفتاح الساداتي والإقبال على أسئلة اليمين واليسار، ومرحلة سقوط الاتحاد السوفييتي والتحوّل اليساريّ نحو الليبراليّة، ومراحل المدّ الإسلامي في الأربعينيّات والثمانينيّات، وما سُمِّي بـ «الصحوة» في السعوديّة، ومرحلة التلبرل الاستعماريّ بعد أحداث سبتمبر/أيلول، وغيرِها.



ما من مرحلة كان فيها للجمهور، وللشباب خصوصا، أثر سياسي ملموس علي أرض الواقع كما كان في الربيع العربي

وكما هو متوقَّع، كانت مرحلة الربيع العربيّ مرحلةً استثنائية في هذا السّياق، إذ تميّزت عمّا سبقَها بأنَها مرحلة فوران فكريّ وسياسيّ سبّبَتْهُ أحداثٌ صنعتها الجماهير بنفسِها، في مقابل التغيّرات السابقة التي كان الشّباب فيها متأثّرين أكثرَ من كونهم مؤثِّرين، فما سبقَ كان تحوّلاتٍ سياسيّة ناتجةً عن أحداث عالميّة كبرى، أو تغيّرات في نظم الحكم بالانقلاب أو بقرارات نخب حاكمة. ومع أنّ هذه الأحداثَ وغيرَها كثيرا ما شهدت مظاهراتٍ جماهيريّة وضغطا قويّا ومؤثّرا من الشباب على صانع القرار، إلا أنّه ما من مرحلة كان فيها للجمهور وللشباب خصوصا أثرٌ سياسيّ ملموس على أرض الواقع كما كان في الربيع العربيّ.

في الفترة التي سبقت الربيع العربيّ، كانت السياسة في حالة قفر شديد. أحداثُ سبتمبر جعلت الحربَ على الإرهاب سيفًا مُسلّطًا على الأمّة، وأعطت مثالا بالغ للسوء لفكرة «تغيير النّظام» تجلّت في حرب العراق، بحيث أصبحَ تغيير الأنظمة مُرادِفا لحميد كارزاي وأحمد الجلبي، أما الفترة القصيرة التي تبنّت فيها الإدارة الأمريكيّة قضيّة «نشر الديموقراطيّة» باعتبارِها علاجًا لما سبّب أحداث سبتمبر/أيلول، فقد انتهت بسرعة بعد أن نتج عن الانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة فوز حركة حماس، وتغيّرت اللغة بعدَها إلى «دعم الاعتدال» بحيث لم تعد القضيّة ديموقراطيّة في مقابل ديكتاتوريّة، بل اعتدالا يعني الانسياق وراء سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل، وممانعة تخالف هذه السياسة وتمثّلُها إيران وسوريا وحزب الله والمقاومة الفلسطينيّة.

في تلك الفترة، تفرّق السّاعونَ إلى إصلاح سياسيّ في مساراتٍ شتّى. هناك من بقي منتمِيا إلى الأحزاب التي تحظى بهامش عمل ضيّق لكنّها تستطيع إزعاجَ السلطة بقدر أو بآخر، وهناك من اختار الضغطَ السياسيّ على السلطة من بوّابة العمل الحقوقيّ ومنظّمات المجتمع المدني، أي طرح الإصلاح السياسي وفساد الأنظمة وقمعِها باعتباره مسألة حقوق إنسان، وهناك من انتمى لحراكات شعبيّة مطلبيّة تطرحُ الفساد والديكتاتوريّة باعتبارِهما حالة من الظّلم الطبقيّ والاجتماعيّ.

أما قطاعٌ واسعٌ من الشباب فقد اتّجهوا في تلك الفترة إلى الاشتغالات الفكريّة والبحثيّة، فقد بدا أنّ انغلاق المجال السياسيّ وجدبَه الشديد قضيّة تحتاج معالجةً أكثرَ عمقا، وأنّ التغيير لا يمكن أن يحصلَ بالجهدِ السياسيّ، بل يحتاج إلى جهود فكريّة تطمحُ إلى فهم الأسباب العميقة التي أدّت إلى الوضعيّات السياسيّة الحاليّة.

جاء الربيع العربيّ على غير تخطيط أو توقّعٍ من أحد، وبدا أنّ الجميع أُخِذوا على حين غرّة، وبدا مؤكَّدا أنّ التعامل مع فُرجة حرّية انفتحت لا يقلّ صعوبة عن التعامل مع عقودٍ من الاستبداد والطّغيان. كانت السّنوات القليلة بين مظاهرات تونس وانقلاب يوليو فترةً حاول فيها الكثيرون العودة إلى الاشتباك المباشر مع السياسة، فانتشرت النقاشات والسّجالات السياسيّة، ونشطت حملات التوعية السياسيّة، وبدأ كثيرون يطرحون أسئلة متعلّقة بالسلطة وأنواع النّظم وقضايا الديموقراطيّة والتمثيل ومفاهيم اليمين واليسار وعلاقة الدّين بالدولة وغيرِها، ووُلِدت أحزاب جديدة وانشقّت أحزاب قديمة، بل انخرطت في الشأن السياسيّ قطاعاتٌ لم يكن لها أي اشتباك سابق معه مثل السلفيّين. كانت تلك السّنوات القليلة انتعاشًا لـ «السياسي» بأشكاله المختلفة.

مع انتكاسة الربيع العربي ونجاح الثّورة المُضادّة، عادتِ الشّكوكُ القديمة في إمكان قيام تغيير سياسيّ حقيقيّ من خلال الاشتباك السياسيّ وحدَه، وبدا أنّ ما ظهرَ باعتبارِه فُرجةَ أملٍ في الإصلاح السياسيّ كان وهما وحلُما ورديّا بلا رصيد. صحيحٌ أنّ انقلاب يوليو/تموز 2013 في مصر يُستذكَر باعتبارِه ذروة انتصار الثورة المضادّة، لكنّ انتخاب «الباجي قائد السبسي» رئيسا في تونس وتحوّل الدولة الإسلاميّة في العراق إلى داعش في العراق وسوريّا، كانا أيضا حدثَين مؤثّرين في سياق الدفع باتّجاه اليأس من السياسيّ، فانتخاب الشعب اختياريا رئيسا من النّظام القديم بدلا من مناضل عريقٍ ضدّه، وظاهرة داعش بكلّ حمولاتِها التاريخيّة والدينيّة والفكرية، دفعت باتّجاهِ قناعةٍ مفادُها أنّ الأرضيّة غيرُ مهيَّأة لعمل سياسي وإصلاحٍ سياسيّ، وأنّه لا بدّ من الاشتغالِ على جبهاتٍ أُخرى.

للعزوف عن السياسة والشّأنِ السياسيّ في سياقِنا العربيّ أسباب كثيرة، تتراوحُ من أسبابٍ تكوينيّة عميقة في الاجتماع العربيّ الإسلاميّ إلى أسباب عرَضيّة وظرفيّة. هذه الأسباب تستحقُّ نقاشاً مُطوَّلا ومفصَّلا، أمّا هذا المقالات فتُحاولُ إثباتَ ما للسياسة من مركزيّةٍ في النّقاشات الفكريّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي يخوضُها الشباب العربيّ، على الرغم من أنّ البُعدَ السياسيّ كثيرا ما يغيبُ عن هذه النّقاشات. نُحاججُ في هذا المقالات كذلك أنّ غيابَ البُعدِ السياسيّ عن الحضور الواعي في هذه القضايا والنّقاشات يُؤثِّرُ بشدّة على مُخرَجاتِها ومآلاتِها.


طاقة التحرُّر: هل من تصريف؟

أطلقَ الربيع العربيّ طاقةَ تحرُّرٍ هائلة لدى الشّباب العربيّ، وهذا ليس مُستغرَبا بخصوص شبابٍ أسقطوا بالمظاهرات السلميّة ديكتاتورَين عربيّين أمسكا بزمام السلطة عقودا. من تابع الحيويّة والنّشاط وانبعاثَ الأمل في تلك الفترة، أيقنَ أنّ هذا الشبابَ ماردٌ انطلقَ من محبسِه إلى غير رجعة.

لنتذكّر، كمجرّد مثال، تلك الثقة التي أبداها كثيرون من الثّوار المصريّين بأنّ «الميدان موجود» إذا حصلت تسويات أو تراجعات عن مكاسبِ الثّورة. لنتذكّر أيضا أنّ اكثر شباب الثورات العربيّة لم يخوضوا تجاربَ سياسيّة من أيّ نوع قبل الثّورات، وربّما كان هذا أساسيّا في لحظات إسقاط الطّغاة التي لا تقبلُ المساومة ولا ترضى إلا بالانتصار، لكنّه قد يكونُ كذلك ساهمَ في رسمِ تصوُّرٍ غير سليم للتغيير الناجع والفعّال وطويل المدى.

لم تكن المشكلةُ أنّ الثورات هُزمَت فحسب، بل فاقمَها أنّ من هزموها وأذاقوا شبابَها الألمَ والقهر كانوا تمثيلا لكلّ ما يحتقرُه هؤلاء الشباب وما ظنوّا أنّهم أنهَوه من حياتِهم إلى غير رجعة. لم يكن من هزمَ الثورة في مصر ديكتاتورا ذا كاريزما ومشروع أو تحالُفا مُحافِظا ذا رؤية مُغايِرة ووجيهة لمصير البلد، بل كان تحالُفا يُمثِّلُه ضابطٌ لا يكادُ يُكملُ فكرةً سليمة في خطاباتِه، ومن ورائه جيشٌ منتفِعٌ يُعاملُ البلدَ وشبابَها كـ«عزبة» خاصّة لضبّاطِه، وبيروقراطيّة بليدة تُمثّل لشباب الثّورة كلّ ما يعافونَه من تخلّف وبدائيّة وضيق أفق، ودولٍ إقليميّة رجعيّة تُريدَ شراء غيرِها بالمال وتحويلِ ما حولَها إلى صورةٍ عنها في انعدام الحرّيات والمشاركة السياسيّة والقضاء النّزيه وغيرِها.

ولم تكنِ الأمورُ في تونس أحسنَ حالا بكثير، فالشّباب الذي فعلَ المستحيلَ حرفيّا، وأجبرَ الطّاغية المرهوب على الفرار بجلدِه تحت جنح الظّلام، وجدَ مواطنيه ينتخبونَ للرئاسة عجوزا شائخا محسوبا على النّظام القديم. أما في سوريا، فالكارثة كانت أشدّ فداحة، فكلُّ ما تعرّضت له ثورتُها بدا قادِما من عالَم آخر، لا من عالَم اليوم وديباجات حقوق الإنسان والنّظام العالميّ وعصر الصّورة. وجدَ الثّوّار السوريّون أنفسَهم يُقصَفون بالبراميل المتفجّرة وبالأسلحة الكيماوية، وتُطلَق عليهم قطعانٌ من الميليشيات الشيعيّة المتوحّشة والمشحونة بحقدٍ طائفيّ محتقِن، ورأوا ذلك كلَّه يحصلُ على سمع العالم وبصرِه مُصوَّرا وموثَّقا، ومع ذلك يستمرّ السّفّاح في إجرامِه والتنعّم بالقبول الدّولي.

طاقة التحرّر العارمة التي انطلقت من عقالِها كان لا بدّ لها أن تتحوّل إلى عدميّة عارمة، أو أن تجدَ لها اتّجاها ومخرَجا. تُعلّمُنا التّجاربُ التاريخيّة أن هنالكَ مخرجَين لطاقة التحرّر السياسيّ التي تفشلُ في تحقيقِ أهدافِها، هما: الاتّجاه لنقدِ ثقافة المجتمَع، والإقبال على حرّيّات الحيّزِ الخاصّ. لم يكنِ الربيعُ العربيّ في هذا استثناءً.


الثقافة: الاتّجاهُ المفضّل

يبدو منطقيًّا الاستنتاجُ بأنّه إذا ما فشلت ثورة تحرّرية في المجال السياسيّ، فلا بدّ أنّ هناك مشكلةً في ثقافة المجتمع وذهنيّاتِه. لا يمكنُ تجاهلُ استنتاجٍ من هذا النّوع، إذ يبدو وجيها جدّا لأوّل وهلة. حينما ينقلبُ عسكريّ متواضعُ القدرات مثل السيسي على الثّورة، ويرى الشباب الثّائر حجمَ التأييد الشعبيّ لهذا الديكتاتور، بل حتّى تصويرَه كرمز للفحولة رغم افتقارِه لأيّ مقوّم لذلك، فمن الطبيعي اتّهامُ ثقافة المجتمع. الأمرُ نفسُه صحيحٌ فيما يتعلّق بانتخاب الشعب لعجوز من أزلام النّظام القديم، أو ظهورِ قوّةٍ تأكلُ الثورة من داخلِها وتنتجُ خطابا دينيّا بالغَ العنف وتقومُ بممارساتٍ إجراميّة مرعبة وتحاولُ الهيمنةَ على المجتمع وفرضَ نمطٍ غر دينيّ وغير إنسانيّ من «التديّن» عليه، وغيرِها.

هنا يقعُ خطآن متكرران جدّا، ومرتبِطان جدّا، وكارثيان في نتائجهما، أحدهما نظريّ، والآخرُ عمليّ، هما:

خطأ نظريّ: يتمثَّلُ في قراءاتٍ خاطئة لإسهامِ «ثقافة المجتمع» أو بُناه الثّقافيّة في ترسيخ الاستبداد السياسيّ.

خطأ عمليّ: يتمثّلُ في توهّمِ أنّ العملَ الثقافيّ المشغولَ بنقدِ وتغييرِ «ثقافة المجتمَع» يصلحُ بديلاً للعملِ السياسيّ.

الخطآن مترابِطان أشدّ الترابط، فالعلاقة بين ثقافة المجتمع وبُناها من جهة، والمجال السياسيّ من جهة أخرى، تحتاج إلى فحصٍ دقيق ومتأنٍّ، فهي ليست علاقة مُباشِرة أو آليّة أو ذاتَ اتّجاهٍ واحِد، بل هي علاقةٌ مركّبة ومتبادَلة ومُتداخِلة. وفضلا عن ذلك، من الواردِ جدّا أن تُنتجَ القراءات الخاطئة لهذه العلاقة إلى معتقَداتٍ مُجانبةٍ للصّواب ومُمارساتٍ غير مُجدية أو ضارّة. لذلك كلّه، سنتناول هذين الخطأين بالتّفصيل.


القراءاتُ الخاطئةُ لعلاقة «ثقافة المجتمع» بمجاله السياسيّ



لم تكن المشكلةُ أنّ الثورات هُزمَت فحسب، بل فاقمَها أنّ من هزموها وأذاقوا شبابَها الألمَ والقهر كانوا تمثيلا لكلّ ما يحتقرُه هؤلاء الشباب

هنالكَ ميلٌ قويّ نحوَ فهم التخلّف السياسيّ أو فهم أسباب فشل الثّورات وموجات التحرّر السياسي بالاستناد إلى بُنى ثقافيّة واجتماعيّة في المجتمع، من قبيل السلطة الأبويّة، أو الذكوريّة، أو بعضِ أنماط التديّن، أو القَبَليّة، وغيرِها. يبدو مُقنِعا أنّ لهذه البُنى أو بعضِها على الأقلّ إسهاما في ترسيخ منظومة الاستبداد السياسيّ وإجهاض مشاريع التحرّر. لكن علينا التنبّه إلى مجموعة من القضايا بهذا الخصوص:

1. ضرورة التمييز بين الاستنتاجات المنطقيّة وبين الوقائع القائمة (أو المشاهدات الإمبريقيّة): إحدى أكبر مشكلات ثقافتِنا العربيّة الحديثة إسرافُها في استخدام الاستنتاج المنطقيّ في قضايا الاجتماع والثقافة. قد يبدو أنّ مجتمَعا أبويّا أو ذكوريّا أكثرُ ميلا لتقبّل الاستبداد السياسي من ناحية منطقيّة، لكنّ الوقائع لا تتبعُ المنطق بالضّرورة، وبالتّالي فالربطُ بين البنى الثّقافيّة من خلال الروابط المنطقيّة معرّضٌ بشدّة للخطأ.



يمكنُ أن تتجاورَ في نفس المجتمع مناطق تسود في بعضها قيمُ المحافظة والمجتمع التقليدي، وفي بعضِها قيم الفردانيّة والذاتويّة، وأن يكونَ المجتمعُ مفتوحاً في مجاله السياسي.

مثلا، كان المجتمعُ الأمريكي أكثر أبويّة وذكوريّة بكثير قبل الستينات منه بعدَها، ولم يكن مجتمَعًا استبداديًّا في أيّ من الحقبتَين. يمكنُ أن تتجاورَ في المجتمعِ نفسِه مناطقُ أو بيئات تسودُ في بعضِها قيمُ المحافظة والعائلة والأبويّة والمجتمع التقليدي، وفي بعضِها قيم الفردانيّة والذاتويّة، وأن يكونَ المجتمعُ عموما مجتمَعا مفتوحاً في مجاله السياسي.

حتى الأحزابُ السياسيّة يُمكنُ أن يتّصفَ بعضُها بنخبويّة مفرطة واعتماد عالٍ على الكاريزما في اختيار القيادة، وأن يتّصفَ بعضُها في الدولة نفسِها بقدرٍ عالٍ من الديموقراطيّة الداخليّة، وأن يكونَ النظام السياسيّ الذي تُساهم فيه هذه الأحزابُ شديدةُ التباين نظامًا ديموقراطيًّا.

في السياق العربيّ، كثيرا ما نجدُ من يوصَفون بأنّهم «ليبيراليّون» بالمعنى الاجتماعي يصطفّون مع الاستبداد ضد الشّعب، على الرغمَ من كونِ أوساطِهم بعيدةً عن نظام العائلة الأبويّ أو الذكوريّة أو القَبَليّة، وعلى الرغم من أنّهم لا يتبنّون نمطَ تديُنٍ يمكنُ استخدامُه لتبرير الاستبداد. في المقابل، هنالك قطاعاتٌ متديّنة ومُحافظة ترفضُ الاستبداد السياسيّ وتضطلعُ أحيانا بالدّور الأكبر في مواجهتِه.

2. ضرورة التفريق بين هذه المنظومات في ذاتِها، وبينَ استنساخ مضامينِها في المجال السياسيّ: قد يكونُ لدى كثيرين مُشكلاتٌ مع هذه النّظم والبنى الثقافية والاجتماعيّة بذاتِها، لا لأثرِها السلبيّ على المجال السياسيّ ومشاريع التحرّر. هذا ممكنٌ ومشروع، فمن حقِّ أيٍ كان أن ينقدَ ويُعارضَ القَبَليّة والذكوريّة والأبويّة وأنماطَ التديّن أو الدين عموما، لكنّ هذا يختلفُ تماما عن نقدِ هذه البنى والمنظومات من زاوية إسهامِها في الاستبداد السياسيّ.

مثَلا، المنظومة الأبويّة في النطاق الأسريّ أو الاجتماعيّ لها إيجابيّاتٌ وسلبيّات، لكنّها في المجال السياسيّ سلبية دائما، فالعلاقة مع الحاكم أو الحكومة يجبُ أن تكونَ علاقة تعاقديّة يحكمُها القانون. مثالٌ آخَر، قد يرى أحدُهُم أنّ منظوماتِ التديُّن تقوم دائما على مفهومِ الطّاعة والخضوعِ لسلطة، ويُعارضُها بالتّالي من منطلَقِ رفضِه لفكرة الطّاعة والخضوع، لكنّ الاستنتاجَ بأنّ المنظومات الدينيّة تُنتجُ خضوعا سياسيّا للسلطة، بسبب مركزيّة فكرة الخضوع لقوّة عليا في الدين، هو استنتاجٌ خاطئٌ جدّا، فبفحصٍ تاريخيّ بسيط يتبيّنُ لنا أن كثيرا من الجماعاتِ الدينيّة حاربت الاستبداد السياسي، في حين أن كثيرا من الاتّجاهات اللادينيّة تحالفت مع الاستبداد.

وفي سياقِ المثال نفسِه، ثمّة مفكّرون إسلاميّون رأوا في فكرةَ العبودية لله خلاصاً وتحرُّراً من سلطةِ الدّولة والخضوعِ لها، وأنّ من مظاهر عظمةِ التشريع الإسلاميّ وتميّز التجربةِ التاريخيّة للحكم الإسلاميّ أنّ السلطةَ السياسيّةَ ظلّت ذاتَ أثرٍ محدود على الفرد ولم تمتلك هيمنةً عليه، بخلاف الدّولة الحديثة التي أسهبَ المفكّرونَ الغربيّون في الحديثِ عن مُطلَقيِّتِها وتحكّميتِها وهيمنتِها.

3. ضرورة التفريق بين وسائل مقاومة الأثر السلبيّ لهذه المنظومات على المجال السياسي، وبين وسائل نقدِها ثقافيّا واجتماعيّا وفكريّا: فالمنشغلِ بإصلاح المجال السياسيّ ينبغي أن يكونَ نقدُه لهذه المنظومات محدودا ومركّزا فيما يتّصلُ بإسهامِها السلبيّ في ترسيخ الاستبداد وإفشال مشاريع التحرّر، من قبيل نقدِ تصوّرِ الحاكم باعتبارِه أباً أو ذا سلطة ذكوريّة أو حاكما بأمرِ الله، ونقدِ فتاوى تحريم الخروج على الحاكم وتشريع التّغلّب والدعوة لطاعة الحاكم من دون وجود آليّات لمحاسبتِه قانونيّا أو تغييرِه سلميّا.

أما من يريدُ أن ينقدَ هذه المنظومات ثقافيّا واجتماعيّا وفكريّا دونَ أن يكونَ مهجوسا بالضرورة بأثرِها السياسيّ فحسب، فتلك لعبة أخرى لها أدواتُها وحساباتُها. رُبّما يُحبّ من ينقدُ الدينَ جذريّا أن يتصوّرَ نفسَه باعتبارِه يُسهمُ في الإصلاح السياسيّ، لكنّ هذا أمرٌ مشكوكٌ في صحّتِه من الأصل، كما أنّه ليس مضمونَ الفعاليّة من منظور براغماتيّ بحت، فالربطُ بين النقدِ الجذريّ للدين والإصلاح السياسيّ قد يُثيرُ حفيظةَ النّاس ويجعلُهم يفضّلون دوام الاستبداد مع الحفاظ على دينِهم على تحقيق الإصلاح السياسي وخسران دينِهم.

4. ضرورة التفريق بين نقدِ ثقافة سياسيّة قائمة، وبين عدمِ التنبّه لغيابِ الثقافة السياسيّة والاتّجاه لنقد جوانبَ أخرى من الثقافة: «الثقافة» مفهوم واسعٌ ومتعذّرُ التّحديد. في غيابِ ثقافة سياسيّة وعدمِ وجود مجالٍ سياسيّ حقيقيّ أصلا، يمكنُ أن يتّجهُ الشّابّ لنقد ما هو متيسّرٌ من «ثقافة» بدلا من محاولة إيجادِ ثقافة سياسيّة واجتراحِ مجالٍ سياسيّ ذي أدوات مستقلّة وثقافة مستقلّة وممارسات مستقلّة، فنقدُ ما هو موجود أيسرُ نظريّا بكثير من اجتراحِ ما ليس موجودا أصلا، فضلا عن أنّ ملاحظة أنّه ما من مجالٍ سياسيّ وما من ثقافةٍ سياسة ليس أمراً سهلاً.

كمثال، من أبسطِ مكوّناتِ الثقافة السياسيّة أنّ وصولَ رئيسٍ أو حزبٍ إلى السّلطة ليس تفويضاً مُطلَقا ولا دائما، وأنّ وجودَ نظامٍ ديموقراطيّ يعني أنّ القوانين ليست مُطلَقة ولا دائمة، وأنّ النجاحاتِ الانتخابيّة مُرتبِطة بسياسات مؤقّتة بفترة ولاية المنتَخَب، وهكذا.

لكن في سياقِنا العربيّ، يتعاملُ كثيرونَ مع الانتخابات والوصولِ للسلطة باعتبارِها تحملُ إمكانَ تغييرٍ دائمٍ في ثقافة الناس وطريقةِ عيشِهم وحتّى معتقَداتِهم، فيسري خوفٌ وتخويفٌ غيرُ مبرّر من أن يقضيَ الإسلاميّون على الحرّيات العامّة ويتحكّموا في الحرّيّات الخاصّة، أو يُغرّبَ العلمانيون البلد ويقمعوا مظاهرَ التديّنِ فيها، وما شابه. يتعاملُ كثيرون مع انتخاباتٍ برلمانيّة هشّة مشكوكٍ في تأثيرِها أصلا مقابلَ مراكزِ النّفوذ في الدولة باعتبارِها استفتاء على هويّة البلد وتاريخِها ومعتقداتِ سكّانِها وموقفِها من هيمنةِ الولايات المتّحدة ودورِها في مواجهةِ إسرائيل.

هذا كلُّه يعكسُ ضعفاً شديدا في فهم المجال السياسيّ وحدودِه وأدواتِه وقدراتِه وعلاقتِه بغيرِه، وهذه القضايا والمفاهيم والمعتقَداتُ أولى باهتمامِ الثائرِ أو المشغولِ حقّا بالإصلاحِ السياسيّ من الانشغالِ بنقدِ الجوانبِ الأخرى من ثقافة المجتمع.

إذا لم يتنبّه الثّائرُ أو المهجوس بالإصلاح السياسيّ لما سبق، فسينشغلُ بالثقافة الموجودة والمتاحة للنقد، وهذه تشملُ الثقافةَ الاجتماعية -العادات والتقاليد ونظُمَ الأسرة وممارسات الارتباط والزواج وغيرِها- وثقافةَ العمل -المهن المُفضّلة في المجتمَع وما يُعتبَرُ مهنا مرموقة أو لا والخيارات ما بين المهن المنتظَمة أو العمل الحرّ وما شابَه- والثقافة الدينية -أنماط التدين والعلاقة مع المشايخ ومصادر التأثير دينيّا والعلاقة بالتراث وما إلى ذلك- وغيرها.

5. ضرورة التنبّه إلى أنّ العلاقة بين المجال السياسيّ و«ثقافة المجتمَع» علاقة مركّبة ومتبادَلة: تهدفُ الأفكار التي ناقشناها أعلاه إلى الوصول إلى هذه النتيجة، ألا وهي أنّ المجال السياسيّ ليس انعكاسا أو نتيجة لـ «ثقافة المجتمع»، بل هو مجالٌ يمكنُ أن يؤثِّرَ في ثقافة المجتمع ويتأثَّرَ بِها، أي أنّ العلاقة مركّبة ومتبادَلة وفي الاتّجاهَين.

ثمّة مفارقة جديرةٌ جدّا بالتأمُّل في الحالة العربيّة. هناكَ من جهة تخوّفٌ شديد من أنّ وجودَ نظام ديموقراطيّ أو حرّية سياسيّة يُمكنُ أن يُحدثَ تغييراتٍ هائلة في المجتمَع -النّقطة السابقة- وهنالك من جهةٍ أخرى شعورٍ بعقم السياسة وعجزِها عن التغيير واعتبارِها مجرّد انعكاس سلبيّ لأوضاع المجتمَع.



في أوقات الجدبِ السياسيّ وانغلاق المجالِ السياسيّ، فينتشرُ شعورٌ عارمٌ بعجزِ السياسة والعمل السياسيّ عن أن تكونَ منطلَقا للتغيير

في الأوقات الشحيحة التي ينتعشُ فيها «السياسي» ويبدو فيها أنّ ثمةَ أملا بحراكٍ سياسي وتغييرٍ سياسيّ، مثل السنواتِ الأولى للربيع العربيّ، ينتشرُ شعورٌ عارمٌ بالقلق من أنّ المجتمَعات ستتغيرُ إلى غيرِ رجعة، أو أنّ الهويّة ستُستلَب، أو أنّ البلد سيعودُ إلى «عصور الظّلام» أو «القرون الوسطى»، أو أنّ البلد ستُرتَهن لـ «النظام النيوليبيراليّ والبنك الدولي»، وغير ذلك من التهويلات.

أمّا في أوقات الجدبِ السياسيّ وانغلاق المجالِ السياسيّ، فينتشرُ شعورٌ عارمٌ بعجزِ السياسة والعمل السياسيّ عن أن تكونَ منطلَقا للتغيير، ويبدو الجميعُ مشغولين بالنقاشات الثقافيّة ونقد المجتمع. من الواضحِ أنّ كلا التصّورين خاطئٌ ومبالَغٌ فيه.

يُمكنُ لرئيسٍ قويّ وكاريزميّ، حتّى ولو كان منتخَبًا ديموقراطيًّا، أن يُحدِثَ تغييراتٍ واسعة في المجتمع، ويصحّ هذا على حزبٍ قويّ او تيّارٍ قويّ كذلك. وفي المقابل، يظلّ المجتمعُ بثقافتِه وقيمِه ومنظوماتِه الاجتماعيّة والتعليمية والاقتصاديّة والدّينيّة مؤثّرا بقوّة في طبيعة نظامِه السياسيّ وحدودِه ومداه. الخلاصة، ليس المجتمَعُ رهينةً للسياسة وتقلّباتِها وتوجّهاتِ الحاكم أو السلطة الحاكمة، وليس المجال السياسيّ مجرّدَ انعكاسٍ سلبيّ لثقافة المجتمَع، والصحيحُ أنّ المجالَين متداخلانِ ويتبادَلانِ التأثير، وليسَ أحدُهُما متحكّما في الآخرِ بالمُطلَق، ولا يُشكّلُ النشاطُ في أحدهِما بديلا عن الآخَر.

هذه القضايا الخمس كثيرًا ما تغيبُ عن الثّائر أو المشغولِ بالإصلاحِ والتغيير، فتغيّر مسارَه وأولويّاتِه جذريّا، وتتضافرُ هذه القراءاتُ النظريّة الخاطئة مع بيئة خطِرة ومُعادية يرسّخُها الاستبداد، فتكونُ النتيجة هي الوقوع في الخطأ العمليّ، ألا وهو توهّمُ أنّ العملَ الثقافيّ والانشغال بنقد «ثقافة المجتمَع» يصلحُ بديلا للعملِ السياسي، فيتحوّل الشابّ الثائر من مواجهة السياسيّة للاستبدادِ إلى المواجَهة الثقافيّة مع المجتمَع. هذا الخطأ العمليّ هو موضوع المقال القادم.