محتوى مترجم
المصدر

Antipode
التاريخ
2014/07/10
الكاتب
ماثيو سبارك

«الأخلاق الإسلامية وروح النيوليبرالية» ليس عنوانَ هذا الكتاب البارع، وأعتقد أنني أفهم السبب الآن. منذ عملي مع منى عطية حين كانت طالبة دراسات عليا في جامعة واشنطن بسياتل، كنت أحثّها على التفكير في الاستفادة من أوجه التشابه بين عملها وبين أطروحة ماكس فيبر الشهيرة عن «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية». وقد كان ثمّ عدد من نقاط المقارنة الهامة، من بينها نقطة رئيسية مُبرَزة في كتاب منى، وهي التي تتعلق بتأملات فيبر بخصوص الرفض البروتستانتي لتضييع الوقت.

لتأملات فيبر تلك المتعلّقة بالحرص على الوقت أصداؤها الواضحة – بحسب عطية – في التبشير التلفازي الإسلامي المصري الداعي المؤمنين لتحمّل المسؤولية كأفراد، عن الإدارة الشخصية المثمرة للوقت. تستنج عطية (ص195): «التشابهاتُ بين خطاب الإسلاموية النيوليبرالية وتحليل فيبر للأخلاق المسيحية فيما يتعلق بالرأسمالية (المربحة) مذهلةٌ»، لكنّ هذه الملاحظة المثيرة لا تُذكَر إلّا في حاشية، وليست الأطروحة الرئيسية للكتاب إطلاقًا.

عوضًا عن ذلك، تقدم عطية للقرّاء تحليلاً غير فيبريّ بوضوح، لنقاط التقاطع بين النيوليبرالية والتحول الديني، ومجموعة كاملة من الديناميات الثقافية بدءًا من السياسات الثقافية الأشد حميمية للجنسانية وتشكيل الذات في مصر، إلى الجغرافيا السياسية العالمية وما يرتبط بها من خطابات ومناقشات لما بعد الربيع العربي والشقاق الذي تلا «إجماع واشنطن» [المراجِع: إجماع واشنطن هو وصفة اقتصادية تقوم على ترسيخ الرأسمالية النيوليبرالية، تبنّتها المؤسسات المالية العالمية منذ مطلع التسعينات كشرط لتمويل الدول المتعثّرة].

كمُداخلة مادية نسوية ما بعد كولونيالية أيضًا، يقدّم الكتاب نسخة مبسّطة للمداولات الأخيرة المتكررة في الجغرافيا النقدية عن الكيفية الأفضل لدمج التحليل الماركسي الكلّي للقوى الهيكلية النيوليبرالية والإصلاحات السياسية الاقتصادية، مع المزيد من الاستقصاءات الجزئية للاحتمالات السياقية والتعقيدات الثقافية يتم خلالها في الوقت نفسه تشييد ومساءلة العمليات النيوليبرالية الموجودة بالفعل. فعوضًا عن إعادةِ قولبة استعراض جديد للأدبيات، أو إعادة صياغة مجردة لتلك التوترات، وبدلاً من مجرد الحديث عن الحاجة لمزيد من العمل التجريبي على الأرض، تأخذنا عطية إلى الأراضي التجريبية بعناية إثنوغرافية، وطلاقة لغوية، ومعرفة غنية بدراسات المنطقة، كلها مصاغة نظريًا بأناقة. فالعناية النقدية هنا تهدف إلى إعادة تقييم وتحليل التأكيد المفرِط على العلاقة بين المزاج والاقتصاد والأخلاق، لا الاكتفاء باستخدام دعوى «العناية النقدية» كمهرَب من تتبّع المال ودمج الاقتصاد السياسي الراديكالي مع الاهتمام بعلاقات القوى الاجتماعية المتنوعة. والعمل الميداني الذي يدعم كل هذا التمثيل والتحليل هو كامل العناية حقًا.

من وصفها التفصيلي لطبقات المشهد المتعددة الحاضرة في مجمّع مسجد رابعة العدوية، إلى تقريرها الذكي المتأمِّل عن اكتشاف دليل منهجي للمنظمات غير الربحية الإسلامية بالقاهرة، إلى تلخيصها للمتناقضات الممثَّلة في سلاسل الإسلام والاستهلاك الرأسمالي بداخل مراكز التسوق في القاهرة – سانتا بسيتي ستارز، وصالات الطعام، وموائد الرحمن الإسلامية، على سبيل المثال – تستخدم عطية بشكل متكرر مزيجًا من الوثائق الأرشيفية، وملاحظات على مستوى الشارع للأحياء السكنية، وأدلة من التصادمات الإثنوغرافية ذات تأثير تحليلي كبير. في الحقيقة، الكتابُ للسبب نفسه نموذج ممتاز صالح للاستخدام في تدريس الأساليب النوعية. فعوضًا عن «ترميز البيانات» عبثًا (أحيانًا بشكل فارغ) محاكاةً لاختبار الفرضيات العلمية الصلبة، تبيّن لنا عطية أن البيانات دائمًا ما يُبالغ في ترميزها بالفعل، وبالتالي فإن الانشغال الضروري للعمل الميداني يتضمن مجهودات مموضعة بعناية وتأنٍ لفك ترميزها، بشكل غير كامل مع ذلك.

وصفُها وتحليلُها لوقت ومكان العطاء في بداية الفصل الثالث هو مثال مثير للإعجاب في هذا الصدد. ففي البداية تأخذنا معها إلى أرضية المسجد بسجادها الأخضر الداكن؛ تقول (ص55):

كزائرة، يُسمح لي بالجلوس على أحد المقاعد. كل أول ثلاثاء أو خميس من الشهر، تندفع ما يقارب مائتا امرأة إلى المسجد لتلقّي مساعداتهن. يجب عليهنّ أولا حضور خطبة يلقيها داعية ثم أداء صلاة الظهر. نظرات الخشوع بادية على كثير من وجوههن الكالحة، والعرق يسيل على عباءاتهن السوداء [رداء تقليدي فضفاض]، وهن راكعات على الأرض، ينتظرن بنفاد صبر. بعد الصلاة، تُنادَى أسماء النساء واحدة بواحدة، وعلى كل منهن أن تقدّم بطاقة هوية لـ «الحاجّة»، وتوقّع على السطر المشير إلى مبلغ مساعدتها الشهرية، وأن تؤكّد العنوان وعدد الأطفال.

إنّه وصف إثنوغرافي وافٍ كأفضل ما يكون. لكن، وبالاعتذار لكليفورد جريتز [المراجع: جريتز من روّاد الأنثروبولوجيا المعاصرة، عُرف بعنايته بتأويل الرموز الثقافية]، سأقول إنه بسرعة أيضًا يصبح وصفًا ذكيًا، ومستنيرًا نظريًا كذلك: ملقيًا الضوء على التوترات الاجتماعية والاقتصادية في المسجد، مُلمِّحًا إلى أن التمويل أكثر من الإيمان هو ما جذب النساء إلى المواعظ، ثم يمضي قدمًا بشكل تحليلي لاستشفاف «نظرات الخشوع» إلى ما ورائها من ترقيعٍ للأخلاق والاقتصاد وتشكيل الذاتية الجنسانية بداخل ما تصفه عطية بـ «نيوليبرالية الزكاة» – أي الممارسة التصدّقية الجماعية القديمة ودعامة الإسلام التي حُوِّلت اليوم، تبعًا لدعوى الكتاب الرئيسية، إلى أداة لغرس مبادئ ريادة الأعمال وتحمّل المسؤولية الذاتية المحددة.

المتلقيات المحجبات حضرن الصلوات، واستمعن إلى المواعظ، وتبعن أوامر الحاجة لأنهن يعرفن أن لأعضاء لجنة الزكاة حرية التصرف في التقتير أو التيسير فيما يتعلّق بنفقات مساعدات الطوارئ، بالتالي أدّت النساء تلك التقنيات الذاتية وامتثلن لممارسات بحث اجتماعي اقتحامية تستقصي تفصيلات أوضاعهن وحيواتهن المنزلية وعوزهن (صفحة 56).

تتواصل تحليلات النيوليبرالية الورِعة بهذا الشكل خلال الكتاب، كذلك تتواصل في بعض التأملات الاستفزازية عند استنتاجها لعواقب الربيع العربي في مصر. فبالضبط، كما أكدّ قادة إحسان النيوليبرالية الورعة على الكفاءة والتخطيط والتنمية الإنتاجية في محاوراتهم مع عطية، تشير إلى أن الثوّار الشباب في ميدان التحرير ومواقع أخرى للانتفاضة الحضرية استخدموا لغة وأفكارًا مشابهة.

ينتهي الكتاب مجادلاً بأن صيرورات نيوليبرالية هامة بقيت منذ نهاية نظام مبارك حتى الانقلاب العسكري الذي أزاح مرسي نفسه عن منصبه. تقول عطية: «لم يحصل الثوار على الحكومة العلمانية التكنوقراطية التي تصورّها الكثيرون، لكنهم حصلوا على حكومة تكنوقراطية رغم ذلك. حتى بعد الإطاحة بمحمد مرسي في 2013، نقطةُ استمراريةِ واحدةٌ كانت أن مصر سيستمر في حكمها ‘الخبراء’. هكذا لعبت الذاتية النيوليبرالية الورعة دورًا حيويًا في كلٍ من الانتفاضة المصرية وناتجها السياسي» (ص163).

هذا التعقيب على تيموثي ميتشل عن حكم الخبراء في مصر [المراجع: للباحث الأمريكي البارز والمهتم بالشرق الأوسط ودراسات ما بعد الاستعمار دراسة بعنوان «حكم الخبراء: مصر، التكنو-سياسة، الحداثة»، ترجمها: بشير السباعي وشريف يونس، المركز القومي للترجمة – 2011]، يوحي بدوره أن النيوليبرالية الورعة صارت الآن جزءًا هامًا من حصافة الخبراء في البلاد، مترسّخة في نظام الحكم لدرجة استطاعتها تأطير سلسلة من برامج القيادة خلال كل الفصول العربية من ربيع وصيف وخريف، وما يمكن وصفه الآن كشتاء قاسٍ للغاية.

يبدو من الصعب معرفة القادم بالنسبة لمصر على الأخص وسط كل الفوضى والمعاناة الحالية في المنطقة بشكل أعم. لكن بينما يواصل الخبراء الغربيون استخدام القوالب النمطية الاستشراقية ليجادلوا بأن الدول الإسلامية في حاجة إلى العولمة من أجل مقاومة تخلّفها المفترض، تقدم حججُ عطية عن النيوليبرالية الورعة تذكيرًا هامًا بأن الكثير من التقاليد الإسلامية قد حوّلتها جذريًا آلياتُ السوقِ.

للسبب نفسه، تحمل [حججها] أيضًا أهميةً مساويةً كأساس لخطواتها القادمة كباحثة (تموّلها المنحة الوظيفية المقدمة من مؤسسة العلوم الوطنية) تدرس خريطة الفقر في مصر. بينما تسعى الوكالات الدولية والمنظمات غير الربحية لتحقيق أكبر تقليص ممكن للفقر باستخدام أموالها المخصصة للتنمية، وبينما يحققون هذا جزئيًا عن طريق تحويل الاستهداف العسكري إلى ممارسات تستهدف المعونة وتتعلّق كلها بالعائد على الاستثمار، يبدو وعي عطية بمصادر تلك الأفكار الاستثمارية النيوليبرالية واتجاهات حركتها في مصر هامًا بوجه خاص.


روابط إضافية [المراجع]

– الملف الشخصي للباحثة منى عطية بجامعة جورج واشنطن:

هنا

.

– محاضرة لمنى عطية عن كتابها: