أثّرت النظريات الحديثة لفيزياء القرن العشرين على المناخ الفكري العام، فقد قلبت الطاولة على التصورات الكلاسيكية للمفاهيم العلمية وانعكاساتها الفلسفية؛ مما أدى بالتبعية إلى مراجعة تلك المفاهيم وتعريضها للنقد والتحليل، وسنستعرض هنا بعض الأفكار الفلسفية التي تبادلت التأثير مع فيزياء القرن العشرين، خاصةً أعمال آينشتاين.

تأثر آينشتاين في مقتبل شبابه بإرنست ماخ عالم الفيزياء والفيلسوف النمساوي الشهير، إلا أنه يبدو بأن تأثره به لم يكن لمحتوى فلسفته، بل لأنه تعرَّض للعديد من المسائل التي شغلت بال آينشتاين. كان ماخ يُعد امتدادًا لوضعية كونت وباركلي، فقد رأى ماخ أن وظيفة الفيزياء هي إدراك العلاقات بين الظواهر (ما يدرك بالحس)، وما النظريات برأيه إلا وسيلة تعبير اقتصادية لتلخيص تلك العلاقات، فالسؤال عن جوهر الأشياء الكامن خلف الظواهر مرفوض برأيه، إلا أننا نعلم بأن آينشتاين يؤمن برؤية مخالفة بذلك، وهذا الموقف يجعلنا نفترض بأن آينشتاين الشاب قد فهم ماخ بشكلٍ سطحي وفاته إدراك جوهر فلسفته.



أهمية ماخ كانت في شجاعته في تحدي المفاهيم القديمة التي عُدّت مقدسة بالإضافة لمراجعة أسسها المعرفية التي ينأى عنها أغلب الفيزيائيين بدعوى عدم جدواها.

كان مما أذاع صيت ماخ في الوسط الفيزيائي والذي جذب إليه آينشتاين هو نقده لأسس الميكانيكا النيوتنية، فقد رفض ماخ المطلقات التي تضمن صحة قوانين نيوتن، وعرّض قانون القصور الذاتي للتحليل والنقد، فأزال عنه صفة الفراغ المطلق، وأراد أن ينسب قانون القصور الذاتي إلى الأجسام الكونية بدلًا من الفراغ المطلق، وأشار أنه بذلك ستغدو القوى القصورية قوى كونية كالجاذبية، وهو ما ساعد آينشتاين بالطبع في صياغته للنظرية النسبية. الجدير بالذكر أن رفض المطلقات كان متأصلًا في الفكر المثالي منذ القدم كليبنتز وباركلي مثلًا، إلا أن حجج ماخ كانت أكثر علمية مما أدى لرواجها في المجتمع العلمي.

لكن لا يمكن اعتماد تعاليم ماخ كمقدمات مباشرة للنظرية النسبية، فأهمية ماخ بالنسبة لآينشتاين كانت في شجاعته في تحدي المفاهيم القديمة التي عُدّت مقدسة بالإضافة لمراجعة أسسها المعرفية التي ينأى عنها أغلب الفيزيائيين بدعوى عدم جدواها!.

فوضعية ماخ لم تستطع أن تكون الأساس المعرفي للفيزياء الحديثة، فقد رفضها عدد كبير من علماء عصره على رأسهم ماكس بلانك وآيشتاين نفسه، فعُدت تعاليم ماخ معيقة للفكر النظري الحر الذي اتسمت به الفيزياء الحديثة، وهو ما يدلل عليه نحو ماخ إلى اعتبار الفرض الذري مجرد أداة -وليست حقيقة- للتعبير عن العلاقات بين الإحساسات والتي هي جوهر العلم، لكن هذا التفسير الأداتي ليس مخرجًا، فإن لم يقيّد ماخ هذا التفسير فسيفضي في النهاية إلى تدمير مذهبه.

إلا أن البعض يرى بأن وضعية ماخ ليست سلبية بشكل كبير، فإن أهميتها تعود لكونها تشكل حصنًا منيعًا حول العلم تجاه الهجمات الخارجية.

نعرُج أخيرًا إلى الاتجاه المسمى بالنزعة الإجرائية والتي أسسها الفيزيائي الأمريكي بيرسي ويليامز بريجمان.

يهدف هذا الاتجاه إلى تعريف محتوى المفاهيم الفيزيائية، وقد ارتبطت هذه النزعة بنقاشات عديدة حول طبيعة المفاهيم الفيزيائية خاصةً في الفيزياء الحديثة، وتعد هذه النقاشات ذات أهمية بالغة في سبيل الوصول لفهم أعمق لآراء آينشتاين الفلسفية. يرى بريجمان بأن محتوى المفاهيم الفيزيائية لا تتحدد بواسطة خواص الأشياء التي تصفها في العالم الخارجي، وإنما بواسطة الإجراءات التي نقوم باستخدامها لتطبيق تلك المفاهيم على أية حالات محسوسة.

وقد اعتبر بريجمان النظرية النسبية الخاصة كتأكيد لهذا الرأي، فكما نعلم بأن تفسيرات النظرية النسبية الخاصة كانت زاخرة بمصطلحات مثل (عصا القياس) و(الميقاتية) كالتعبير عن مفاهيم فيزيائية مثل (الطول) و(التزامن)، إلا أن تطور النظرية النسبية الخاصة قد أوجد تفسيرًا يقول بعدم وجود مكان لا للمراقبين فحسب، بل لأجهزة وإجراءات القياس أيضًا، وعزى الاختلاف في القياسات إلى الإسقاطات المختلفة للفواصل الزمانية والمكانية في مختلف النظم الإحداثية، وهو ما عُدَّ غير مبرَّر إجرائيًا.

أما بخصوص النظرية النسبية العامة، فقد أفادت التعريفات الإجرائية في صياغتها، فمبدأ التكافؤ الذي اعتُمد انطلق منه آينشتاين لصياغة للنظرية النسبية العامة، يُكافئ بين تعريفين إجرائيين للكتلة؛ أحدهما يختص بالجاذبية والآخر بالقصور، لكن تطورات النسبية العامة قد أفضت إلى مفاهيم تبدو مناقضة للنزعة الإجرائية كالنسيج الزمكاني المستقل عن الراصد وغيره من المفاهيم التي كانت عرضة لنقد بريجمان، وهو ما شكّل أرضية خصبة للجدال بين الطرفين.



آمن آينشتاين بالمنهج الفرضي الاستنباطي، ووفقًا لهذا المنهج فإن المبادئ النظرية تُصاغ أولًا ثم تستنبط منها النتائج التجريبية.

ومن مجمل رد آينشتاين على بريجمان نلحظ تباينًا بين الرؤى لطبيعة المعرفة الفيزيائية لكلا العالمين، فقد آمن آينشتاين بالمنهج الفرضي الاستنباطي، فوفقًا لهذا المنهج فإن المبادئ النظرية تُصاغ أولًا ثم تستنبط منها النتائج التجريبية؛ بالتالي فإن رد آينشتاين على بريجمان يمكن تلخيصه بأنه ولأجل دراسة نظرية ما، فإنه من غير الممكن تعريض كافة مضامينها للاختبار، بل الضروري فقط هو اختبار نتائجها العامة، وهنا نجد آينشتاين يؤكد مجددًا على الحرية النظرية للعقل الإنساني. لقد وصف آينشتاين هذه الحرية بالضد استقرائية؛ أي إمكانية صياغة المبادئ النظرية التي لا تستخرج بشكل مباشر من التجربة، ولكن هذه الحرية بالطبع ليست اعتباطية بل لها معنى محدد، فهذه الحرية ليست شبيهة بحرية كاتب الرواية -بحد تعبير آينشتاين- مثلًا، فالباحث أشبه بحلال ألغاز يقوم بافتراض العديد من الحلول واختبارها، لكن هناك حل واحد فقط هو الصحيح.

إن المنهج الفرضي الاستنباطي في عرف آينشتاين مرفوض من الناحية الإجرائية، حيث يفترض هذا المنهج إمكانية التجسيد التجريبي للنظرية ككل فقط، بينما تصر الإجرائية على وجوب امتلاك تعريف إجرائي لكل عنصر من النظرية، وهو ما يُعد تطرفًا حيث تضُم الفيزياء صروحًا نظرية عظيمة ورفضها باتباع المنطق الإجرائي يُعد مستحيلًا.

وللخروج من هذا المأزق اقترح بريجمان تعريفًا موسعًا للإجراءات من خلال السماح بالإجراءات الأدواتية والذهنية، إلا أن هذا لا يُعد حلًّا؛ فعدم وضع معايير محددة لهذه التوسعات سيفضي في النهاية إلى الانقلاب على المفهوم الأساسي للإجرائية.



رفض بريجمان أيضًا التجارب الخيالية، فهذه التجارب تقدم حلولًا تأملية للمسائل القابلة للملاحظة، والتي ينبغي حلها باستخدام التجارب الواقعية فقط.

وقد رفض بريجمان أيضًا التجارب الخيالية، فهذه التجارب تقدم حلولًا تأملية للمسائل القابلة للملاحظة، والتي ينبغي حلها باستخدام التجارب الواقعية فقط، ومن المعلوم جيدًا أن آينشتاين قد استخدم هذا اللون من التجارب في صياغته للنظريتين النسبيتين، بل وحتى القانون الأول لنيوتن هو نتيجة لتجربة خيالية، وما زالت تستخدم حتى الوقت الحاضر في المجالات المختلفة. فهذه التجارب تعتبر الملجأ للباحث حيث لا تتوفر التقنيات المناسبة، وتسمح أيضًا بحرية كبيرة للباحث لتشكيل التجربة والظروف، بل وتعد كمعيار لقابلية الموضوع للملاحظة من عدمه. (هنا برأيي أن بريجمان يبدو محقًّا في جانب ما، حيث لا يمكن الأخذ بنتائج التجارب الخيالية بجدية، فعالم الخيال ليس محكومًا بقوانين الطبيعة، فيمكننا تصور أجسام تتحرك بسرعات أكبر من سرعة الضوء مثلًا وخلافه، فالتجارب الخيالية لا يحكمها إلا الفرضيات والقوانين العقلية، لأجل ذلك فإن نتائجها لا تختلف كثيرًا عن النتائج المستنبطة من الفرضيات، فكما يقال: (الفيزيائيون النظريون يفعلون ما يريدون) ولا يمكن الأخذ بكل ما يقولونه بأنه الممثل للطبيعة ما لم يختبر جيدًا، إلا أن هذا لا ينفي مزايا هذا النوع من التجارب والمذكورة أعلاه، بالتالي فإن رفضها بالطبع غير مبرر).

لقد اعتقد بريجمان أن المنهجية الإجرائية ستوفر دقة أكبر للفيزياء عن طريق إزالة الصروح الاعتباطية منها، وفي الحقيقة أنها بالفعل تساعد على ذلك، فالأثير على سبيل المثال تم إظهار التناقضات الناتجة عنه بواسطة تعريفات إجرائية مقارنة بين نسبية غاليليو وكهرطسية ماكسويل، إلا أن التطبيق الحرفي للمنهج الإجرائي على الفيزياء قد يؤدي بالفعل لتدميرها. إن أهمية بريجمان تكمن في تنويهه لدور الإجراءات في توضيح المفاهيم الفيزيائية، ولكن سيكون من الخطأ الإصرار أن هذه الإجراءات هي من تخلق خواص الأشياء، كما أن النزعة الإجرائية تبدو وكأنها تحجم الفيزياء إلى مجرد حالة من الوصف الظاهراتي، وهذا الاتجاه يؤدي إلى نهاية غير محمودة يألفها مرتادوه جيدًا؛ ألا وهو الذاتنية.


جدير بالذكر بأن كل ماهو مكتوب بين أقواس لا يُعبر إلا عن رأي الكاتب، وقد اعتُمد في كتابة هذه المقالات على كتاب (آينشتاين والقضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين، تأليف: جريبانوف وآخرون) ويمكن الرجوع إليه بكل سهولة على الإنترنت.


المراجع



  1. آينشتاين والقضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين، تأليف: جريبانوف وآخرون