يبدو المشهد كلاسيكيًا تمامًا. السوق ينتابه حالة من الترقب بسبب تلك الوجوه الغريبة التي تتوافد على أحد الدكاكين الكائنة في الجانب الشرقي، وهو الذي يتسم بقلة المترددين عليه. يبدو أن هذا الدكان تم بيعه وجارٍ تجديده. عفوًا، الدكان تم هدمه تمامًا ليحل محله صرح ضخم يثير القلق في النفوس ثم تتصاعد وتيرة الأحداث.

يظهر الرجل الذي يتقدمه موكب يخطف أنظار الجميع حاملًا رسالة واضحة. القادم هذا لم يأت ليأخذ بل ليعطي، وهو ما يثير حفيظة هؤلاء الذين قضوا حياتهم بين البيع والشراء؛ لأن التاجر الذي لا يأبه بالخسارة هو مصدر خطر على الجميع.

يقسم الرجل أنه لم يأت لإحداث ما يعكر صفو السوق، بل إن عشقه للتجارة هو محركه الأساسي. المنافسة ليست هدفه؛ ولذا اختار الجانب الشرقي الذي لا يتنافس فيه واحد من الكبار. يدعو الكبار أن يتقبلوه بينهم ويعدهم بانتعاش السوق دون المساس بمواقعهم، فيقبلوا.

من فرط كلاسيكية المشهد يعلم المشاهد تمامًا أن تلك ليست سوى البداية. سيتوحش هذا الغريب بل سيسيطر على السوق ويصبح أكبر الكبار. ينافس الجميع ويتحكم بما لديه في تجارة الآخرين، ثم يحدث ما يوجب حدوثه حتى يكتمل المشهد، يقرر أحد الكبار أن ينافس التاجر الجديد فيعاقبه الأخير بالاستيلاء على جزء من تجارته لتتردد في السوق تلك الجملة الأثيرة «تاجر لا يأبه للخسارة هو مصدر خطر على الجميع». حسنًا فلتبقى تلك القصة في ذهنك ولنعود سويًا لعالم كرة القدم.


أن تعاقب برشلونة فيخاف ريال مدريد

فترة الميركاتو هي فترة إعادة ارتباط جميع اللاعبين بأندية كرة القدم، الكبيرة منها على وجه الخصوص والقادرة على انتداب لاعبين مناسبين لسد ثغرات الموسم المنقضي. فلا عجب أن تتردد الأخبار بشكل يومي عن ارتباط بعض الأندية الكبيرة بلاعبين تألقوا خلال المواسم المنتهية أو البطولات الكبرى.

في سوق الانتقالات لا يوجد من هو أكبر من فريقي الريال وبرشلونة. الحديث هنا ليس عن القوة الشرائية فقط، فسحر اللعب لطرفي الصراع الإسباني هو سحر لا يقاوم عبر الزمن. إذن لا عجب أن تربط أخبار الانتقالات بين ريال مدريد ونيمار لتعويض رحيل رونالدو المفاجئ أو الارتباط بالظاهرة الفرنسية الجديدة كيليان مبابي باعتباره الهدف الأكثر تألقًا في كأس العالم طبقًا لمعايير سوق الانتقالات.

الغريب هنا هو بيانات ريال مدريد المتعاقبة والتي تؤكد أنه

لا خطط لانتداب نيمار

و

لا اهتمام بموهبة فرنسا القادمة

، وكأن الربط بين العملاق الإسباني وتلك المواهب هو تهمة تقتضي أن يسارع المتهم في توضيح موقفه تجاهها والتنصل منها. الأمر يبدو وكأن الريال يحاول طمأنة فريق العاصمة الفرنسي ببيانات تحمل توقيع فلورينتينو بيريز.

هذا الرجل الذي عرفت جماهير كرة القدم على يديه مصطلحًا جديدًا لوصف تلك الفرقة المدججة بالنجوم الذي أشرف على تجميعها من كل صوب «الجلاكتيكوس». أصبح الملياردير الإسباني يوقع على بيانات تنكر الارتباط بمواهب كرة القدم بدلًا من توقيعه الذهبي الذي تذيل عشرات الصفقات، والسبب أن تلك المواهب تنتمي لذلك التاجر الجديد «باريس سان جيرمان».

تغيرت قواعد اللعبة تمامًا بعد ظهور أثرياء كرة القدم الجدد. سوق الانتقالات هو لعبة لها قواعدها التي تتحدث بالملايين، قواعد تتداخل مع قواعد تم تدشينها عبر السنين ليتم التحكم في كرة القدم من قبل الكبار. ثوابت القيمة التسويقية لفرق كرة القدم وثوابت البث التلفزيوني والمعسكرات الآسيوية والأمريكية. عوامل عدة تتحكم في سوق الانتقالات الذي يبقى أحد أهم أركان اللعبة؛ لأنه ببساطة المعني بالعنصر الرئيسي لكرة القدم وهو اللاعب.

أشرس هؤلاء الأثرياء الجدد كان نادي العاصمة الفرنسية، فالأمر تخطى مسألة القوة الشرائية الغاشمة إلى مرحلة عقاب من يتجرأ على المساس بالقوام الأساسي للفريق الفرنسي.

في الصيف الماضي وقبل البدء في موسم 2017-2018،

ربطت التقارير الصحفية

الإيطالي ماركو فيراتي متوسط ميدان باريس سان جيرمان ونادي برشلونة الإسباني. كان الأمر منطقيًا بشكل كبير. دار الحديث كما هي العادة عن أن الاتفاق بين برشلونة واللاعب على البنود الشخصية تم بالفعل، يتبقى فقط موافقة الفريق الفرنسي وهو ما لم يحدث.


مارس فيراتي ووكيله

العديد من أشكال الضغط على الفريق الفرنسي وهو ما زاد من رفض الأخير للصفقة تمامًا. توقع الجميع أن الخطوة المقبلة هي رفع السعر المقدم لانتداب اللاعب من قبل برشلونة، عرض لا يمكن رفضه كما تقتضي قواعد اللعبة؛ إلا أنه لا يوجد عرض لا يمكن أن ترفضه إدارة باريس، فالأموال هنا، وهي التي من المفترض أن تكون أساس لعبة سوق الانتقالات، هي آخر ما يهم الفريق الباريسي، ليخرج وكيل اللعب

ويصرّح بأن فيراتي

سجين في نادي باريس.

أطاح باريس سان جيرمان بقواعد اللعبة في مهب الريح، فلم يقتصر الأمر على رفض عرض برشلونة لانتداب فيراتي بل امتد إلى الحصول على واحد من أهم لاعبي برشلونة والعالم عن طريق تسديد الشرط الجزائي الضخم للبرازيلي نيمار في نفس الصيف تحقيقًا لمبدأ «اللي يلعب معانا يستحمل» والذي عرفته الجماهير العربية فيما بعد.

تبقى أهمية نيمار التسويقية حاضرة والحديث عن الخروج من ظل ميسي مهما؛ إلا أن فكرة عقاب باريس لبرشلونة لا ينكرها أحد أيضًا، وهو ما أكده توالي بيانات الريال للتنصل من الارتباط بلاعبي باريس سان جيرمان خوفًا من مصير برشلونة.

أعتقد أن القصة الكلاسيكية التي بدأنا بها الحديث اتضحت الآن ونستطيع بسهولة أن نربط الأحداث والأدوار، دعنا الآن نتحدث عن فكرة قد تبدو مختلفة قليلًا، ماذا لو لم يظهر ذلك التاجر الشره.


لماذا باريس تحديدًا؟

يبقي الجانب الآخر من المشهد في قصتنا الكلاسيكية، كيف يرى لاعبو الكرة أنفسهم الأمر. لم يكن بمقدور فريق ثري كباريس سان جيرمان أن يتوحش في سوق الانتقالات بذلك الشكل إلا بإغراءات يقدمها للسلعة الأساسية في كرة القدم الحديثة وهم اللاعبون أنفسهم، إغراءات تفوق الأموال وحدها.

الحقيقة أن الوضع في باريس مثالي لأبعد الحدود للاعب كرة القدم، فالأموال حاضرة بوفرة، كما أن الدوري الفرنسي لا يمتاز بالندية التي يمتاز بها الدوري الإنجليزي والذي يتضمن فريقًا آخر ذا ثروة طائلة مشابهة وهو فريق مانشستر سيتي. الأمر الذي دعا البرازيلي روبينيو إلى

وصف رحلته القصيرة

داخل جدران الفريق الإنجليزي بأن مدافعي الفرق المنافسة كانوا يركلونه مثل الحيوان.

إن الحياه في باريس تبدو مثالية أيضًا بعيدًا عن الصحافة الإنجليزية والجنون الإيطالي. المثال الأكثر وضوحًا على تلك المسألة برمتها هو الأرجنتيني أنخيل دي ماريا.

رحل دي ماريا عن ريال مدريد صيف 2014 إلى مانشستر يونايتد الإنجليزي ليلعب موسمه الأسوأ على الإطلاق منذ أن عرفته جماهير الكرة بقميص بنفيكا. فطبقًا للأرقام، لعب دي ماريا في

موسمه الأخير مع ريال مدريد

53 مباراة في مختلف المسابقات محرزًا 11 هدفًا وصنع 25 آخرين،

بينما في موسمه مع مانشستر يونايتد

لعب 33 مباراة وسجل 4 أهداف فقط وصنع 12 آخرين. من المنطقي أن تقل أرقام دي ماريا مع النادي الإنجليزي لأسباب عدة، إلا أنه كان من المنتظر أن يحاول دي ماريا مواكبة بدنيات الدوري الإنجليزي ومواصلة العمل لتحسين تلك الأرقام، إلا أن الرجل وجد حلًا سحريًا.

لماذا يبذل كل ذلك الجهد لإنقاذ مسيرته وهناك ناد مثل باريس سان جيرمان؟ فليرحل لباريس حيث المنافسة في الدوري لا تقارن بمثيلتها في الدوري الإنجليزي و الأرقام ستؤكد عودته حتى وإن كان تلك العودة على حساب أندية فرنسية ضعيفة. هذا ما حدث

بالفعل فأرقام دي ماريا موسم 2015/16

وهو موسمه الأول مع باريس كانت كالتالي: 24 مباراة، 17 هدفًا، وصناعة لـ 25 هدفًا آخر.

كل تلك الأسباب تجعل باريس سان جيرمان النادي المفضل لأكثر من لاعب كل طبقًا لأسبابه. إلا أن ما سيتضح بعد ذلك هو أن الطريق إلى باريس مفروشًا بالورود أما طريق الخروج فهو غير موجود بالأساس، تذكرة ذهاب فقط وكأنه قصر أنيق كتب على ساكنيه الإقامة الأبدية، فطالما كنت لاعبًا باريسيًا وتؤدي جيدًا فالأمر انتهى، أنت لن ترحل إلا بنهاية عقدك، لا سبيل للخروج.


ماذا لو انهار السجن الباريسي الأنيق

فكرة انتقال لاعب دون موافقة ناديه تبدو شائكة بعض الشيء، فمن المؤكد أنه طالما ارتضي اللاعب أن يرتبط بناد ما لمده معينة وتم توثيق ذلك بعقد فهو مسئول عن اختياره وملزم بعقده، إلا أنه أيضًا يجب أن يُنظر للاعب كرة القدم على أنه إنسان وليس سلعة. هناك العديد من الأسباب التي تجعل لاعب كرة القدم يطمح او يحتاج أو يلح في الانتقال لنادٍ آخر، أسباب تتعلق بطريقة اللعب والطموح أحيانًا وبالظروف الأسرية والشخصية في أحيان أخرى والأهم أن في سوق لاعبي كرة القدم لا يوجد ناد يشتري فقط ويرفض أن يبيع.

لكن دعنا نقلب الآية، ماذا لو انهار هذا السجن الباريسي الأنيق، كيف كان ستبدو خريطة كرة القدم التي تغيرت بالفعل إثر ظهور باريس وأشقائه الأغنياء؟

كان سيصبح كلاسيكو الأرض أكثر قوة من ذلك المنتظر الموسم القادم، خاصة مع الميركاتو الكارثي للريال والمضطرب لبرشلونة. كنا لنجد نيمار في البرسا كما هو وفيراتي يجاوره في وسط الملعب، أما مبابي فسيتجه إلى ريال مدريد بالطبع ليجاور كافاني.

جوزيه مورينيو لم يكن ليفرّط في مدافع مثل ماركينيوس في ظل بحثه الدؤوب عن مدافع في سوق الانتقالات. بيب جوارديولا أيضًا كان سيعمل على انتداب أدريان رابيو بعد أن فضّل جورجينهو الانتقال لتشيلسي رُفقة ساري. ربما سيجد أرسنال ضالته في مركز الجناح مع يوهان دراكسلر، دي ماريا سيكون خيارًا محببًا للأندية الإيطالية فيما عدا اليوفنتوس كمرحله انتقالية معتادة للاعبي أمريكا اللاتينية قبل الرجوع لأندية وطنهم.

ربما بوفون كان ليقضي عامًا في تشيلسي ليسهّل انتقال البلجيكي كورتوا لريال مدريد، أو كان ليقضي أعوامه الأخيره مع كرة القدم في الصين رفقة إنييستا، تياجو سيلفا يعود للميلان لتعويض رحيل بونوتشي ولمرافقة كالدارا كثنائي دفاعي جيد للغاية، أما توماس مونييه فسيبقى محل صراع العديد من الأندية التي تعاني من نقص مركز الظهير الأيسر.

يبقى فقط أن يفوز باريس سان جيرمان ببطولة دوري أبطال أوروبا، وهو الحلم الذي يراود مالكيه حتى ينطلق تتر النهاية معلنًا نهاية قصتنا الكلاسيكية بمشهد أخير يظهر فيه التاجر الشره غير عابئ بالسوق وتجاره وبضاعته. فقد انتهت اللعبة وسارت كما خطط لها من البداية.