أعادت صواريخ المقاومة في الأسبوع الأخير من رمضان المبارك (1442هـ) فتح الأفق الإستراتيجي للقضية الفلسطينية من باب التضامن مع القدس والأقصى وأهالي حي الشيخ جراح. وكان الظن قد ساد بأن تركة إدارة «ترامب» غير المأسوف عليها قد أغلقت هذا الأفق بما أسمته «صفقة القرن» بالتعاون مع قوى ودويلات الصهيونية العربية والمهرولين للتطبيع.

الفرق بين الأفق الإستراتيجي المفتوح والأفق المغلق، هو الفرق بين مسار «المقاومة»، ومسار «المفاوضات». مسار المقاومة مفتوح على الدوام على الضمير الوطني وعلى جميع قواه النضالية التي تكافح من أجل نيل حقوقها بكافة أشكال الكفاح بما في ذلك الكفاح المسلح، ومفتوح على الدوام كذلك على الضمير الإنساني والعالمي بكل قواه المعنوية والروحية التي تأبى الظلم وترفضه أيًا كان مصدره، وتقف إلى جانب المظلوم وتنصره، وهذا هو سر اتساع دائرة التأييد للشعب الفلسطيني ومقاومته عبر العالم، بما في ذلك البلدان الأوروبية والأمريكية، في مقابل انحسار دائرة التأييد للاحتلال الإسرائيلي في الحكومات الغربية التي صنعت هذا الاحتلال ولا تزال تمده بأسباب البقاء وبأسلحة العدوان.

وهذا المسار المقاوم مفتوح على الدوام أيضًا على «الشرعية الدولية» التي تعطي للشعوب المحتلة حق مقاومة الاحتلال بكل وسيلة ممكنة، وبالقوة المسلحة حتى تنال حريتها وتحقق استقلالها كاملاً غير منقوص.

أمّا مسار المفاوضات في ظل الاحتلال، فهو مسار مغلق ومحكوم بموازين القوة المادية المختلة على الأرض. وهذه الموازين تكون دائمًا في صالح قوة الاحتلال، وفي صالح الأمر الواقع. وهو مسار محكوم عليه بالفشل، ولم يشهد تاريخ حركات التحرر الوطني مرة واحدة أن «المفاوضات» وحدها أدت إلى الاستقلال أو زوال الاحتلال.

وكانت كل تجارب المفاوضات التي نجحت بين الاحتلال والقوى الوطنية المطالبة بالاستقلال عبارة عن مفاوضات من أجل ترتيب خروج المحتل وتنظيم رحيله، ولم تكن للمساومة على حق واحد من الحقوق الوطنية، ناهيك عن حق من الحقوق غير القابلة للتصرف. ومسار المفاوضات مغلق إغلاقًا مغلوقًا في قضايا التحرر الوطني لأنه ينكفئ بأطرافه على أنفسهم، ويتركهم وحدهم وجهًا لوجه من عدوهم، ويصرف اهتمام الضمير العالمي عنهم، ويحول جولات التفاوض إلى عمل عبثي بأتم معنى الكلمة، وهو ما آلت إليه مفاوضات «عملية السلام» منذ أوسلو في التسعينيات إلى اليوم، أي على مدار ثلاثين سنة تقريبًا.

لنتذكر ما حدث عندما أعلنت إدارة ترامب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، واعترفت في الوقت نفسه بأن القدس عاصمة للكيان الصهيوني في خطوة من خطوات الإجرام الأمريكي في حق الشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية والإنسانية بكاملها، لقد أعلنت تلك الإدارة يومها أنها حريصة على «استئناف المفاوضات لإيجاد تسوية دائمة للقضية بين الإسرائيليين والفلسطينيين».

ولم يكن هذا الكلام يعني إلا السعي من أجل إحكام إغلاق الأفق الإستراتيجي للقضية الفلسطينية وتقزيمها وعزلها عن محيطها الأوسع عربيًا وإسلاميًا وإنسانيًا. وعندما أعادت المقاومة فتح هذا الأفق -بصواريخ عبثية على حد تعبير أبو مازن لا فض فوه- جاء رد الفعل الطبيعي للإدارة الأمريكية وغيرها من القوى الغربية الاستعمارية على النحو الذي رأيناه وهو: مزيد من الدعم للكيان الصهيوني بزعم «حق الدفاع عن النفس».

في قضايا التحرر الوطني، أثبتت تجارب الشعوب المستعمرة أنه ما من مرة تخلت فيها حركات التحرر عن مبدأ المقاومة وانخرطت في المفاوضات بلا ظهير من المقاومة المسلحة؛ إلا وآلت قضيتها إلى العزلة والانحسار مع انغلاق أفقها الإستراتيجي وحرمانها من الدعم الممتد للضمير الإنساني.

الوجهةُ
الإستراتيجية للتفاوض لحل الصراعات هي بحسب لغة العلاقات الدولية: آلية من أجل
تقريب وجهات النظر والتوصل إلى حل وسط يرضي جميع أطراف الصراع وفق ميزان القوى
القائم بينها.

الدعوة إلى استئناف التفاوض وعملية السلام -التي ينادي بها البعض هنا وهناك- ليست أمرًا عبثيًا من منظور الإدارة الأمريكية والمؤسسة الإسرائيلية، وإن كان هو عين العبث من منظور المقاومة الفلسطينية ومعها قوى التحرر ومحبي السلام في العالم. الأمريكان والإسرائيليون وتوابعهم من العربان يسعون بكل قوة وبأقصى سرعة للإجهاز على النواة الصلبة للمقاومة المسلحة وتصفية القضية نهائيًا من خلال ألعوبة المفاوضات. وهذا التحول الإستراتيجي من المقاومة المنفتحة على الضمير الإنساني عبر العالم، إلى المفاوضة المنغلقة بحكم اختلال موازين القوى؛ هو أخطر التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة.

نحن
نعلم أن قضية فلسطين كانت منذ نشأتها ولا تزال هي قضية العالم الإسلامي بأسره،
وأنها ميزان كرامته، ومقياس هيبته، ومظهر قوته. ويدلنا تاريخ هذه القضية على أن
عزلها في أنها «صراع فلسطيني-إسرائيلي»، عن عمقها الإنساني بدوائره المتعددة، كان
ولا يزال هدفًا رئيسيًا للاحتلال الإسرائيلي والقوى الدولية الداعمة له، وفي
مقدمتها أمريكا.

فإلى جانب استخدام القوة الغاشمة وشن الحروب وسياسات التهويد وبناء المستوطنات وشن الاعتداءات ضد أبناء الشعب الفلسطيني، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني، يحاول الاحتلال بكل ما أوتي من قوة أن يحقق هدفه الإستراتيجي وهو: عزل القضية برمتها عن الضمير العربي والإسلامي والإنساني العالمي في آن واحد.

يستخدم الاحتلال وسائل شتى لتحقيق هذا الهدف: منها التشويه الإعلامي المنظم، وتصوير المقاومة في صورة العنف والإرهاب، وإحكام الحصار على قطاع غزة، وإثارة الانقسام في الصف الفلسطيني وتغذيته، وقلب حقائق هزيمته أمام المقاومة إلى وقائع انتصارات يزعم أنه حققها. ثم تأتي الدعوة لاستئناف المفاوضات في ظل هذه الظروف، وهي ألعوبة قديمة ومكررة ولم ينطلِ زيفها على أحد؛ واستئنافها في ظل الأوضاع التي ترتبت على معركة سيف القدس يعني غلق الأفق الإستراتيجي للقضية مجددًا أمام الضمير العالمي.

صحيح أن المفاوضات كانت منذ أوسلو وسيلة من الوسائل التي تتذرع بها الإدارة الأمريكية بالتعاون مع الاحتلال لعزل قضية فلسطين عن عالمها الإسلامي الممتد من المحيط إلى المحيط، وعن عمقها الإنساني والأخلاقي، ولكن ما تُجهز له إدارة بايدن هذه المرة لمرحلة ما بعد معركة سيف القدس يعني -فيما يعني- محاولة تعويم سلطة أبو مازن وتصليب عودها للحد من توسع الحالة النضالية للمقاومة داخليًا وخارجيًا.

ولو
نجحت الإدارة الأمريكية والمؤسسة الإسرائيلية في هذا المسعى فهذا هو هدفهم، أمّا
إن فشلت فسوف تسارع إلى اتهام السلطة الوطنية بأنها غير راغبة في السلام، بل وإنها
«إرهابية» لا تختلف عن بقية فصائل المقاومة ويجب القضاء عليها وفق أجندة الحرب
المفتوحة على الشعب الفلسطيني وحقوقه.

في
المرحلة السابقة ومنذ أوسلو كانت المفاوضات هدفًا في حد ذاتها ولذاتها من المنظور
الإستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي، ولم يتم اعتبارها وسيلة للحل السلمي أبدًا.
وكانت آخر جولات المفاوضات الفاشلة تلك هي التي بدأت في الرابع عشر من أغسطس/آب
لعام 2013، بوساطة الأمريكي «مارتن أنديك»، وذلك بعد توقف دام ثلاث سنوات قبل ذلك.

وسرعان
ما توقفت ألاعيب الوسيط الأمريكي إنديك بعدما تبين أن المفاوضات ستتم في ضوء اتفاق
إطار قدمه آنذاك وزير الخارجية الأمريكي «جون كيري». وكنا نظن أن ما قدمه كيري هو
الأخطر على الفلسطينيين والعرب منذ النكبة الأولى سنة 1948 حتى ما قبل نقل السفارة
الأمريكية إلى القدس في الذكرى السبعين للنكبة، وكان بعض ما قدمه كيري معلنًا
وأغلبه مخفيًا.

ولكن
ماخفي فيما قدمه كيري وقتها هو ما كشفت عنه الأحداث بعد ذلك تحت عنوان جديد هو
«صفقة القرن» التي توجه ضربة قاصمة لحلم إنشاء دولة فلسطينية، وتعطي إسرائيل كل ما
تريده ابتداءً من إسقاط حق العودة، وتهجير حوالي ثلاثة ملايين فلسطيني من الضفة
ومن داخل الخط الأخضر بزعم أن الدولة الفلسطينية الموعودة لن تستوعب العائدين من
لبنان وسوريا ومن بقية دول الشتات! ومرورًا بالتنازل عن القدس والاعتراف بها عاصمة
للكيان الصهيوني، والتسليم بالمستوطنات كأمر واقع، وانتهاءً باعتراف النظام العربي
الرسمي بيهودية دولة إسرائيل، بل والدخول معها في حلف لمواجهة الإرهاب!

وهنا تتجلى الأهمية الإستراتيجية لانتصار المقاومة في معركة سيف القدس حيث إنها أسقطت -ولو مؤقتًا- كل تلك الحسابات الإسرائيلية والأمريكية، وأعادت طرح القضية في أفقها الإستراتيجي الطبيعي على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.

إن
البطلان الأصلي هو علة العلل في آلية المفاوضات التي يتحدث عنها الأمريكيون وغير
الأمريكيين بين الفلسطينيين والصهيونيين. وأسباب بطلانها كثيرة تتعلق بمبدأ
التفاوض ذاته، وليس بعقبات إجرائية هنا أو هناك كما يصور الطرف الإسرائيلي
والأمريكي. وأي حديث عن المفاوضات أو استئناف عملية السلام المزعوم هدفه هو: عزل
القضية وإغلاق أفقها الإستراتيجي، ومحاصرة نتائج الانتصار الذي أحرزته المقاومة في
معركة سيف القدس، وتمكين الجانب الصهيوني من تصفية المقاومة أملًا في حسم الصراع
لصالحه نهائيًا.

إن
هدف عزل القضية واضح تمام الوضوح لدى صناع القرار ومستشاريه في الولايات المتحدة
الأمريكية، ويؤكد ذلك ما قاله منذ سنوات طويلة «برنارد لويس» المستشار الأقدم في
الإدارة الأمريكية عندما دعت أمريكا في سنة 2007 إلى مؤتمر أنابولس للسلام، فقد
كتب مقالًا في صحيفة «وول ستريت» وأكد فيه أنه:

يجب ألا ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه إلا باعتبارها مجرد تكتيك موقوت، غايته تعزيز التحالف ضد الخطر الإيراني وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية، ودفع الأتراك والعرب والأكراد والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضًا، كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر من قبل.

هذا هو وعيهم بالقضية وبوظيفة المفاوضات.