في مشهد له دلالات عميقة يرسم الشعب العربي الفلسطيني
ملحمة من الإيثار والتضامن مع الشعب السوري متجاوزًا محنته تحت الاحتلال
الإسرائيلي، ليقف داعمًا لأشقائه العرب بعدما شاهد كيف أن آلامهم فاقت آلامه، وانتفض
الفلسطينيون لنصرة من شردتهم الحرب السورية وألجأتهم إلى العيش في مخيمات النزوح
في ظل العواصف الثلجية، في محنة بدت وكأنها نكأت جرحًا فلسطينيًا قديمًا فذكـّرت
من ذاقوا طعم زمهرير برد الشام في الخيام ببداية تغريبتهم الطويلة المستمرة حتى
اليوم، والتي كانوا أحوج ما يكونون خلالها إلى النصرة والدعم، فكانت هذه الفزعة
الفلسطينية.

لا يؤلم الجرح إلا من به ألم

واليوم بينما تـُهدم بيوت الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة إذا هم يبنون لإخوانهم السوريين في المخيمات بيوتًا جديدة، لأنهم أكثر من عانى من محنة اللجوء وبالتالي أقدر على الإحساس بعمق آلام هذه المحنة كما قال الشاعر «لا يؤلم الجرح إلا من به ألم»، وطيلة السنوات الماضية تسابق أبناء الأرض المحتلة في جهود إغاثة ضحايا الحرب السورية بعد أن فترت الهمم تجاه قضيتهم في كثير من الدول فكان شركاؤهم في الجراح عونًا ونصيرًا.

فقد انتشرت الحملات الشعبية في الأراضي المحتلة لدعم الشعب السوري وتضميد بعض جراحه في وقت تفاقمت فيه معاناة ساكني الخيام في «المناطق المحررة» شمال غربي سوريا، وظهرت آيات التضحية والمروءة من العرب داخل الخط الأخضر الذين تخلوا عن الغالي والثمين إيثارًا لأشقائهم الأكثر ألمًا؛ فتجد صاحب سيارة فاخرة

يعرض سيارته للبيع

لإعمار عشرين وحدة سكنية للسوريين، ويعرض شاب فلسطيني من القدس

منزلَه للبيع

لإرسال ثمنه لشراء منازل للنازحين، وآخر يتبرع بمبلغ طائل وهو ملثم كي لا يُعرف أو يُشكر على صنيعه، ونساء يتخلين عن حليهن من أجل ستر شقيقاتهن في إدلب أو ريف حلب، وطلبة يتبرعون بمصروفهم، وآخرون بأموال ادخروها للحج أو لحوائج المستقبل.

«ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»

وكان للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني (إسرائيل) دور بارز في تلك الحملات منذ سنوات، بل إن الشيخ رائد صلاح، الذي يلقب بشيخ الأقصى، تبرع العام الماضي للنازحين السوريين بكامل قيمة الجائزة المالية التي حصل عليها في تركيا تقديراً لجهوده في خدمة الأمة، ولم يخصصها للقدس أو غزة مثلًا، مما يدل على الحضور الكبير لمحنة السوريين لدى أهل فلسطين الذين يعيشون داخل الخط الأخضر ويحملون جنسية دولة الاحتلال ويُطلق البعض عليهم لفظ «عرب إسرائيل»، وهي تسمية لا تروقهم بل يصفون أنفسهم بأنهم فلسطينيون يحملون تلك الجنسية اضطرارًا للبقاء في أرضهم ووطنهم، وقد صمدوا ضد كل محاولات تذويب الهوية التي مارسها الاحتلال بحقهم.

وانطلقت مجموعة من الحملات في الداخل الفلسطيني المحتل تحت عناوين مختلفة كـ«دفء القلوب الرحيمة» و«بيت بدل خيمة» و«فاعل خير» و«أنا إنسان» و«الكرامة» لاقت تفاعلًا كبيرًا ونجح منظموها في جمع ملايين الدولارات فضلًا عن المشغولات الذهبية بهدف تخفيف معاناة مئات العائلات التي هربت من بطش النظام السوري إلى المخيمات بشراء بيوت ومواد تدفئة.

وشارك في تلك الحملات سكان المخيمات الفلسطينية كمخيم شعفاط في القدس المحتلة، بل تصاعدت دعوات في الداخل الفلسطيني المحتل بأن يتكفل أهالي كل بلد من البلدات العربية ببناء مخيم في الشمال السوري، وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي، بمنشورات السوريين مرفقة بهاشتاج «الجرح واحد شكرًا فلسطين»، وبعث اللاجئون السوريون

رسائل شكر مصورة

إلى أشقائهم عبر الحدود نقلتها وسائل إعلامهم المحلية.

ومع تزايد التبرعات تزداد طموحات مسؤولو هذه الحملات فمثلًا كان هدف حملة «دفء القلوب الرحيمة» توفير المدافئ والوقود لأحد المخيمات، ثم تطوّر هدفها لبناء وحدات سكنية كاملة وأعلنت خطة لكفالة 3 مخيمات كبيرة بالكامل في منطقة الباب شرق مدينة حلب، وكذلك تشييد مرافق لخدمة السكان، وكانت الجمعية المشرفة على تلك الحملة سلمت في العام الماضي 600 منزل للاجئين، وأسهمت في بناء 900 بيت آخر من المقرر تسليمها خلال أسابيع.

وفي الضفة الغربية صدحت مكبرات المساجد ضمن حملات
التبرع للسوريين لكن الفصل الذي تنفذه قوات الاحتلال بينهم وبين فلسطينيي الداخل منعهم
من إيصال تبرعاتهم إليهم، وفي قطاع غزة ركزت خطب الجمعة على معاناة اللاجئين السوريين،
وتم الإعلان عن حملة تبرعات تشرف عليها وزارة الأوقاف في غزة لمدة ستة أيام في كل مساجد
القطاع الذي يتعرض لحصار خانق ويعاني كثير من سكانه من الفقر المدقع.

كما انطلق أهالي قطاع غزة، الخميس، في مظاهرات حاشدة نددوا فيها بجرائم الميليشيات الإيرانية وحزب الله في سوريا، وأقدم المحتجون في مدينة رفح جنوب القطاع على إحراق صور علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وقاسم سليماني، القائد الراحل لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وحسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، بسبب مشاركة ميليشياتهم في قتل الشعب السوري وتهجيره دعمًا لنظام بشار الأسد.

ورفع المتظاهرون الغزاويون لافتات كتب عليها شعارات من قبيل «الدم السوري يساوي الدم الفلسطيني»، و«لبيك يا سوريا» و«لا ننسى حلب» لإظهار عمق تضامنهم مع محنة أشقائهم العرب، في مشهد معاكس لما جرت عليه العادة فأبناء غزة المحاصرون هم اليوم من يتبرعون بالقليل الذي في أيديهم.