تابع العالم في الآونة الأخيرة عن كثب ما يحدث في فلسطين، وكيف استطاع الشباب العربي، أو كما كان يُسمِّيه السابقون بـ «الجيل التافه» و«جيل السوشيال ميديا»، أن يؤثر على الرأي العام، ويُوصِل القضية الفلسطينية بروايتها الحقيقية للعالم، تلك الرواية التي تُخالف بشكل واضح رواية الصهاينة، الذين ظلوا لعقودٍ يُلمِّعون صورتهم بأموالهم ودعايتهم أمام العالم، فقط ليظهروا في صورة البطل الذي يتصدى لجهل الشرقيين وهمجيتهم.

وبين ليلة وضحاها سقطت تلك الرواية الصهيونية لتحل محلها رواية الفلسطيني البطل، وازداد مع تلك الرواية عدد المُتعاطفين مع القضية الفلسطينية، وغزت حملات التعاطف كل مواقع التواصل الاجتماعي، وأخذت بعض الشخصيات المشهورة والمرموقة في جميع المجالات بالتنديد بتلك الأعمال الإرهابية الوحشية المُمارسة من قِبل الكيان الصهيوني.

وهنا يكمن السؤال: هل اقتصرت نتائج المقاومة على هذا الأمر فحسب؟

كانت نتائج المقاومة أعمق وأبعد من ذلك بكثير، بل قد
يتراءى لنا أنها نتائج مُركبة، وعِرة التفصيل، ومُعقدة الفهم.

الفرق بين اليهودية والصهيونية

من ضمن تلك النتائج ما ظهر في الجانب المعرفي والثقافي، فقد تفتق في أذهان العامة سؤالٌ غُيِّب عن الساحة لفترات طويلة، وعلى أساسه حُرِّف السبب وراء الصراع مع الكيان المُغتصِب، ألا وهو:

ما الفرق بين اليهودية والصهيونية؟ أو مَن الذي نقاومه الآن؟

وبطبيعة الحال، قد عانى مثقفو العرب الكثير والكثير في
محاولة لتوضيح الفرق بين الاثنين، لكن بلا جدوى، فكأن الآذان كانت عن المعرفة
صماء، على عكس اليوم.

فاليهودية دينٌ سماوي يعود في الزمن إلى أكثر من ألفي
عام، له كتابه الخاص وهو التوراة، والذي يضم أسفار موسى الخمسة، إضافة إلى أسفار عن
بطولات وأقاصيص الآباء الأوائل لبني إسرائيل، وبعض التوصيات والتي منها: «لا تقتل».
[1]

أمَّا الصهيونية، فهي – وبلا شك – نظرية أو منهج سياسي يسعى لإقامة وطن يلم شمل اليهود بعد ذلك الشتات المعهود، ظهرت مُتأثرةً بالعديد من الأفكار والمناهج الأوروبية التي طغت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أي في عصر الحداثة والتنوير. فكانت الصهيونية نتاج ذلك العصر، حيث تأثرت بالأفكار الرومانسية كالترابط العضوي مع الطبيعة، ونوستالجيا الماضي، والعود الأبدي، فوظَّفت تلك الأفكار لصالحها، وجعلت الترابط العضوي قاصرًا على تراث اليهود، وجعلت الحنين للماضي، هو الحنين لعصر الأبطال في التاريخ التوراتي كـ «يوشع بن نون» و«داوود» و«سليمان»، وجعلت من العود الأبدي نظرة مادية بحتة تسعى إلى العودة إلى وطنهم الأول.

ظهر كل ذلك جليًّا في أدبيات العديد من الكُتَّاب اليهود، الذين استنهضوا تلك الروح المُتمردة على الواقع، مثل «تشرنحوفسكي» و«بريديشفسكي» و«شارلوت كورداي»، وذلك قبل حضور المؤسس الأول للصهيونية «ثيودور هرتزل».

ونستطيع أن نقول: إن الصهيونية فكرة مادية بحتة تأثرت بمادية عصر الحداثة، وتحلت بصبغة علمانية براجماتية. [2]

ولا عجب إن قُلنا بأن النازية والفاشية الإيطالية خرجتا من رحِم الصهيونية وليس العكس، فهتلر نفسه تأثر بالأدبيات الصهيونية الداعية لعودة اليهود لوطنهم الأم، والدليل على ذلك أن الصهيوني «زئيف جابوتنسكي» والذي استخدم مصطلح الإبادة في كتاباته – مثل الكاتب الأمريكي الصهيوني «تيودور كوفمان» صاحب كتاب «إبادة ألمانيا» – قد أعرب في مجلة «الجبهة الوطنية» التي كان يُصدرها الاتحاد العالمي للصهاينة، عن شدة إعجابه بموسوليني وهتلر، وذلك في عددها الصادر في 30 مارس/أذار 1933، حيث قال:

إن الاشتراكيين والديمقراطيين يصفون حركة هتلر النازية بأنها مجرد قشرة، ويمكننا أن نرى أنها قشرة تغطي ثمرة، والقشرة هي معاداة السامية، أمَّا الثمرة فهي تحقيق الهدف الصهيوني الأسمى بتهجير أعداد غفيرة من يهود أوروبا للاستيطان في فلسطين. [3]

ألا يتضح من ذلك أن الصهاينة يتخذون من فكرة معاداة
السامية حجة لتمرير مخططاتهم وإنجاحها؟

فلا عجب أن تجد من العُقلاء من تنبَّهوا لذلك التأثر المُتبادل بين الطرفين، الصهاينة والنازيين، كما هو الحال مع الأديب اليهودي البريطاني «جورج ستانير» في روايته الخيالية «نقل أدولف هتلر إلى سان كريستوبال»، والتي يقول فيها على لسان هتلر بعدما عثر عليه اليهود وقدموه لمحكمة يهودية للقصاص منه:

يجب أن تفهموا أنني لم أخترع شيئًا، لم يكن الجنس المتفوق من بنات أحلام أدولف هتلر الذي كان يحلم باستعباد الشعوب الأدنى، أكاذيب! أكاذيب! لقد تعلمت قوتكم الخفية هناك، قوة تعاليمكم الخفية، تعاليمكم أنتم، فأنتم شعب مُختار، شعب اختاره الله لنفسه، وعرقكم هو العرق الوحيد المختار على وجه الأرض، وجعله الإله فريدًا دون البشر.

وذلك ليس من الدين اليهودي في شيء، لذا سترى أن هناك يهودًا يُعادون «إسرائيل» والصهيونية أشد العداء، ومنهم اليهود الأرثوذكس، ويهود «ناطوري كارتا»، وهم جماعات يهودية ترفض «إسرائيل» بحجة أنها تُخالف المنهج الديني بشكل واضح، فاليهود لا يجوز أن يكون لهم وطن إلا بعد ظهور المسيح المُخلِّص لهم. فلا عجب بعد ذلك أن نقول بأن إسرائيل ليست سوى امتداد للنازية ولكن في الشرق.

لماذا نُقاوِم؟

هل العرب وحدهم هم المعنيون بتلك القضية، أم المسلمون، أم العالم بأكمله؟

صراحة الأمر أن كل مَنْ يؤمن بالحرية ويرفض رفضًا قاطعًا عمليات التهجير القسري والفصل العُنصري الذي يُجرِّمه المُجتمع الدولي، عليه أن يقف بجانب القضية الفلسطينية، مُدافعًا عنها إلى أبد الآبدين، غير مُكترث بأية عواقب، فلو كنت إسلامي التفكير فهي قضية دينية، ولو كنت شيوعيًّا فهي قضية تحرر وطني، وقبل ذلك أنت إنسان يؤيد قضية إنسانية في المقام الأول.

ما زلت أذكر قول مُريد البرغوثي حينما قال: «لقد أتعبتنا فلسطين»، وكان يقصد أنها أتعبت العالم كله، فهي ليست كباقي الدول التي ترضخ للمحتل، عصية كانت وما زالت على الانكسار، أبية لا تأبه لخصمها، كأنها قطعة من السماء لا الأرض.

ففي ظل ذلك العالم الراضخ تحت المادية الُمتجلية في
صورتها الرأسمالية، والتي تحكمها المصالح والعلاقات، هناك جزء صغير من العالم
يقاوم الالتحاق بذلك الركب، الخاضع تحت وطأة عصر ما بعد الحداثة، عصر تغيب فيه
القيم، وتحضر فيه المنفعة المادية، ذلك الجزء هو فلسطين.

إن فلسطين لا تقاوم فقط كيانًا مغتصبًا جشعًا، بل تُقاوِم عصرًا بأكمله، غابت فيه الأخلاق. فلسطين تقاوم المادية، وتقاوم غياب الفضيلة الأخلاقية. فلسطين تقاوم من أجل الإنسانية، فعصر الحداثة وما بعد الحداثة كان وما زال آخر مسمار يُدق في نعش الإنسانية، فقد قال عالم الاجتماع «ماكس فيبر» عن ذلك العصر:

الحداثة أفقدت الكثير من سحر الحياة وقيمتها.

ولذلك فلسطين تقاوم، ونحن نقاوم، ليس فقط من أجل فلسطين،
بل من أجل ما تبقى من الإنسانية.


المراجع



  1. العهد القديم، سفر الخروج، 20-13.
  2. عبد الوهاب المسيري، “موسوعة اليهود واليهودية”، دار الشروق، القاهرة، 1999م، جـ5، صـ163.
  3. عبد الوهاب المسيري، “تاريخ الفكر الصهيوني”، دار الشروق، القاهرة، 2010م، صـ70.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.