تأسست على نكبة الفلسطينيين عام 1948 قضيتان مركزيتان متلاحمتان؛ الأولى بدء تبلور الهوية الوطنية الفلسطينية بصورة أكثر وضوحًا وتحديدًا، والثانية نزوع الفلسطينيين – وتأسيسًا أيضًا على القضية الأولى – نحو تشييد مقاومة فلسطينية، تضع الشعب الفلسطيني في موقعه الطبيعي من الصراع، مقاتلاً في سبيل قضيته، ومتحدثًا باسمها، وبكلمة أخرى، تعيد للفلسطيني قيمته من جهة أنه صاحب شأن.

يمكن أن نلاحظ الوعي بتضافر القضيتين وقيامهما على النكبة؛ في الكراسة التي كتبها خليل الوزير (أبو جهاد) بعنوان «حركة فتح: البدايات»، إذ نجد فيها أطروحات من هذا القبيل.

إن الهدف الأساسي للمؤامرة على فلسطين كان تغييب الشخصية الفلسطينية وإلغاء العامل الفلسطيني. كانت نقطة التقاطع بين كافة القوى المعادية لشعبنا الفلسطيني وركائزها المحلية هي منع قيام حكومة وكيان فلسطيني بأي ثمن. المهمة التي اضطلعت بها الأنظمة العربية حينذاك تقوم تحديدًا على الرفض المطلق لكل ما يتصل بإمكانية تنظيم أبناء شعبنا الفلسطيني، حيث إن الرهان يقوم على إمكانية إبادة الكيان الفلسطيني.


لم تكن النكبة الحدث الفارق الأول الذي أخذت تتشكل منه «الأنا» الفلسطينية، ولكنّها كانت استمرارًا للفرادة التي تشكلت منها تلك «الأنا»، أو الذات الوطنية الفلسطينية، التي تشكلت على أسس مغايرة للوطنيات العربية، ففلسطين بحدودها التي عرفت بها بعد الانتداب البريطاني، لم تكن قبل ذلك وحدة إدارية واحدة زمن الحكم العثماني، فشمالها الذي ضمّ لوائي عكا ونابلس كان يتبع ولاية بيروت، بينما كان يتبع لواء القدس الباب العالي مباشرة.

في حالة من هذا النوع، ومع التماثل الشديد بين سكان بلاد الشام، لم يكن، حينها لشيء أن يجمع ما صار فيما بعد الشعب الفلسطيني، في وحداته الإدارية زمن العثمانيين، إلا ملاحظة طبائع الاستيطان الصهيوني الجغرافية التي استهدفت أماكن بعينها، وجعلت سكان تلك الأماكن يشعرون بوحدة الحال وبالاختلاف عن بقية الشاميين.

في كتابه «البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908 – 1993»، ينقل ماهر الشريف كتابات مبكرة منذ العام 1913 تعكس ذلك الوعي، منها ما كتبه «نجيب نصار» رئيس تحرير جريدة الكرمل، إذ كتب يبين الفرق بين واقع البيروتيين الذين يطالبون بالإصلاح؛ أي إصلاح الحكم العثماني، وواقع الفلسطينيين، يقول: «ما لنا وللبيروتيين! نحن الفلسطينيين على شفا جرف، فالخطر السياسي والاجتماعي والاقتصادي يهددنا من كل صوب».

وأوضح منه يكتب «راغب الخالدي» في صحيفة فلسطين في العام نفسه:

أنتم بني وطني لا تقاسون بأهالي دمشق، إن دمشق لم يزاحم أهلها أجنبي حتى الآن. أما أنتم، كيفما التفتم، هل ترون أن سيل مهاجرة الأجنبي يكاد يغرقكم؟

إذن كان الاستيطان الصهيوني في فلسطين هو الجامع الذي أخذ يبلور وعيًا وطنيًا خاصًا بالفلسطينيين، بالرغم من افتقارهم للوحدة الإدارية، ويمايزهم عن بقية الشاميين، ومع ذلك لم يتطور هذا الوعي إلى التصور بإقامة كيان فلسطيني مستقل تمامًا عن سوريا الطبيعية، أو في وقت لاحق عن الوحدة العربية، وظلت تصورات الفلسطينيين حول مستقبلهم مشوشة إلى حد كبير.


بعد الحرب العالمية الأولى ومع الانتداب البريطاني، أخذت الوحدة الجغرافية للفلسطينيين تتضح، دون أن يحظوا بوحدة إدارية يقيمون عليها كيانهم السياسي المعبّر عن هوية وطنية خاصة، على خلاف ما كان عليه الحال في البلاد العربية، ومنها الشامية، التي كانت قد استقلت فعلاً قبل نكبة العام 1948، والتي مزّقت الفلسطينيين من جديد، وحولتهم إلى مجتمعات متعددة، أقلها ما ظل في فلسطين المحتلة عام 1948، والبقية توزعت بين الإدارتين الأردنية والمصرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم في مجتمعات اللجوء والشتات.

مع ذلك، ورغم التمزق الجديد، كانت النكبة نقطة ارتكاز حاسمة في بناء الهوية الفلسطينية، على أساس من فلسطين الانتدابية، والاستعمار الصهيوني، والاختلاف الفلسطيني عن المحيط العربي، وبهذا لم تتبلور الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة الاستعمار الصهيوني فحسب، ولكنها كانت تضمر وعيًا بأن العربي هو «آخر» على نحو ما، بالرغم من سيادة الفكر القومي، بفرعيه البعثي والقوميين العرب، والفكر الإسلامي، إلى ما قبل تأسيس فتح، فلم يكن بمقدور الفلسطيني، ومهما نظّم نفسه في الأحزاب القومية والإسلامية وحتى الشيوعية، إلا أن يلاحظ اختلافه عن بقية العرب، مع خصوصية نسبية للضفة الغربية بحكم التحاقها الكامل بالمملكة الأردنية الهاشمية.


يُعبّر النص السابق لخليل الوزير، ورغم أنه صدر في وقت متأخر عام 1986، عن الوعي الفلسطيني الكامن بالعربي الآخر، ولكنه في الحقيقة استصحاب لوعي مبكر، بدأ مع بدايات التفكير الفلسطيني بتنظيم الفلسطينيين لأخذ زمام المبادرة، كما في افتتاحية مجلة «فلسطيننا» في عددها الأول، والتي كانت منصة فتح الأهم بين يدي انطلاقتها:

ظللنا نجاهد كثيرًا، وكثيرًا جدًا، حتى استطعنا أن نعدها [أي المجلة] لتكون منبرًا لشعبنا الشريد، ولتكون صوتًا قويًا لقضيتنا العادلة الحقة، وكبرهان قوي ساطع على أن شعب فلسطين لم يستسلم ولم يخضع بل هو في طريقه الشاق الوعر يجاهد ويناضل لاستعادة الوطن السليب. إن إصدارنا هذه المجلة ليس بالشيء السهل اليسير، وخاصة ونحن -شعب فلسطين





نحارب في كل مكان نوجد فيه، لا صوت لنا ولا كيان.


كانت انطلاقة فتح إذن هي نقطة الالتحام الفعلية، وبصرف النظر عن أي محاولات أخرى، بين القضيتين المركزيتين، الهوية الفلسطينية، والكفاح الفلسطيني، وذلك كله وجد جذره في النكبة، التي هُزمت فيها الجيوش العربية، كما هُزمت بعد ذلك في النكبة الثانية عام 1967. وإذا كانت النكبة الأولى جذر التبلور النهائي للوعي الفلسطيني ذاتًا وكفاحًا، كانت النكبة الثانية الانطلاقة الفعلية للمقاومة الفلسطينية.

النكبة التي أخذت معناها من الاستيلاء على الأرض وتشريد السكان، من الطبيعي أن تنبثق عنها مقاومة أو ثورة المشرّدين، وهذا الذي كان فعلاً فيما عُرف بالثورة الفلسطينية المعاصرة، التي تجسدت في الأردن، ثم انتقلت إلى لبنان بعد الصدام مع الحكم الأردني، وخرجت من لبنان بعد غزو العام 1982، لتبدأ المقاومة من داخل الأرض المحتلة.

بدأ نضال الفلسطينيين لإنهاء هذه النكبة؛ أي لاسترجاع الأرض، وإعادة المشرّدين، ولكن سياسات فتح، وللمفارقة التاريخية، أخذت تسير في اتجاه معاكس ينفي النكبة، ولكن دون استرجاع الأرض ودون عودة المشرّدين، وبنفي النكبة مؤسسًا لكفاح الفلسطينيين.


باتفاقية أوسلو، واعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بـ «إسرائيل»، أخرجت فلسطين المحتلة العام 1948 من الصراع، بالرغم من أنها الأرض التي انطلقت فتح أساسًا لاسترجاعها وإعادة أهلها المشردين منها إليها، ومع ترسيخ السلطة الفلسطينية، الكيان المنبثق عن اتفاقية أوسلو، كيانًا وحيدًا يُمثّل الفلسطينيين، تحيا كسيحة في ظله منظمة التحرير، أخرج فعليًا من الصراع المشرّدون خارج الأرض المحتلة، الذين شكلوا فعليًا لعقدين من الزمان تقريبًا، ثورة الفلسطينيين، والمعبر عن هويتهم، والمجسد لكفاحهم، وبقيام هذه السلطة بدأت الثورة الفلسطينية تتحول إلى نظام عربي آخر، وبدأ الفلسطينيون يفقدون فرادتهم!.

وإذا كانت المقاومة من أبرز القضايا المنبثقة عن النكبة، فقد أخذت السلطة الفلسطينية تحاصر المقاومة، إلى درجة نفيها تمامًا من مجال السلطة الفاعلة فيه من بعد الانقسام الفلسطيني؛ أي في الضفة الغربية، ومن بعد هذا الانقسام بنت السلطة على سياساتها السابقة النافية سلبًا للنكبة، والتي قطعتها نسبيًّا فقط انتفاضة الأقصى حينما شاركت فيها قطاعات من فتح والسلطة.

سياسات النفي السلبي للنكبة، وبعد النتائج الكبرى في نفي النكبة المترتبة على أوسلو، مثل إخراج الأرض المحتلة عام 1948 واللاجئين من الصراع وتحويل الثورة إلى نظام عربي، يمكن تلخيص بقية التفاصيل الكبيرة الأخرى في سياسات القضاء على المقاومة، وإعادة هندسة الوعي الفلسطيني الذي لم تعد فيه النكبة سوى حدثًا رمزيًا يُتعاطى معه بأدوات فلكلورية صرفة.


إن السياسات الثقافية والاقتصادية والأمنية التي تتبعها السلطة الفلسطينية تقصي الشهيد والأسير وتراث النضال الفلسطيني من الوعي الفلسطيني، وتعيد مركزة الفرد حول ذاته بصرفه عن الهم العام، باجتراح أنماط حياة جديدة له تتسم بالاستهلاكية العالية والفردانية الشديدة، وفي السياق نفسه يأتي خلق الرموز الجديدة والإنجازات الزائفة، وإحلالها مكان الرموز التي انبثقت طبيعيًا عن النكبة، فأحلّت المغني والفنان مكان الشهيد والأسير، وأحلت الإنجازات الفردية الاستهلاكية المرهونة بالمنظومة الاقتصادية الكومبرادورية مكان الكفاح الجماعي في مواجهة الاستعمار.

إن كل سياسات السلطة الراهنة تشتغل على النفي السلبي للنكبة، وهي وإن كانت قد نجحت نسبيًّا في فرض أجندتها الجديدة، فإنها في المقابل دفّعت فتح ثمنًا غاليًا من قدرتها التمثيلية، ومن نفوذها المجتمعي، ونشأ عن ذلك فراغ كبير، هذا الفراغ ينصرف بالسؤال إلى القوة الفلسطينية الأساسية المنافسة لفتح؛ أي لحماس: هل هي مدركة لهذا الفراغ؟، وهل هي قادرة على ملئه؟