احتجاجات عنيفة شهدتها إثيوبيا على مدار الأيام القليلة الماضية. ثار خلالها المحتجون ضد سياسات الحكومة في أديس أبابا. وصل الأمر إلى حد العصيان المدني والحصار، ما دفع رئيس الوزراء «هايلي ماريام ديسالين» إلى إعلان الاستقالة.

انطلقت شرارة الغضب من جماعات «الأورومو» ذات الأغلبية في المجتمع الإثيوبي ضد حكومة الأقلية من «التيغراي». لم تكن هذه المرة الأولى التي تتنطلق فيها مثل هذه الاحتجاجات، فهي امتداد لسلسلة طويلة؛ شهدت ذروتها خلال عامي 2015 و2016.


الأغلبية المضطهدة

الأورومو هي جماعة عرقية تسكن إثيوبيا، وتشكل نحو 40% من سكانها، وبالرغم من نسبتها الكبيرة هذه، إلا أنها

تخضع لحكم

أقلية من التيغراي، والتي تشكل 6% فقط من المواطنيين.

تمارس تلك الأقلية بحق الأورومو مختلف أنواع الاضطهاد، فتسلب حقوقها السياسية والاقتصادية، وتهمش إقليمها «أوروميا» بشكل منهجي، وترتكب بحقها مختلف جرائم القتل والتنكيل والاختفاء القسري والاغتصاب.

وبصفة عامة فحكومة التيغراي تتعمد ممارسة سياسات مجحفة بحق الأورومو. فاقتصاديًا، تعمل على تكريس الفقر ومحاربة التنمية في مناطق تواجدهم ما أدى إلى

ارتفاع نسبة الفقر

بها إلى 80%. كما تعمد إلى مجموعة من السياسات من شأنها الإخلال بالتركيبة السكانية لصالح التيغراي. إذ تتظاهر بسعيها لتنفيذ خطة تطوير عمراني في الإقليم، إلا أن الغرض منها كما هو واضح لدى زعماء الأورومو ومعارضيهم، مصادرة أراضي «أوروميا» لتصبح جزءًا من إقليم التيغراي. وبالفعل سبق أن انتزعت الحكومة أراضي السكان بالإقليم ووزعتها على كبار المستثمرين، متخذة من التنمية بابًا تستتر وراءه.

اجتماعيًا، تتعمد الحكومة طمس هوية الأورومو ومصادرة حقهم في الاحتفاظ بخصوصيتهم. فتمنعهم من استخدام لغتهم في التعليم. وتشترط على من يلتحق بالمدارس والجامعات إتقان «اللغة الأمهرية»، وهي اللغة التي يراها الأورومو لغة استعمارية؛ الأمر الذي أدى إلى انتشار الجهل وسطهم بنسبة 80%.

أما سياسيًا، فحدّث ولا حرج، فالائتلاف الحاكم من أقلية التيغراي بقيادة حزب «الجبهة الثورية الديمقراطية» يسيطر على 100% من المقاعد في البرلمان. وأبناء تلك الأقلية هم فقط من يحق لهم الوصول إلى المناصب الهامة بالدولة؛ سواء كانت في الحكومة أو الجيش. فيما لا يُسمح للأورومو أو أي من جماعات المعارضة من الوصول إلى الحكم أو شغل المناصب السياسية بالدولة.

وليس أدل على ذلك من نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي شهدتها إثيوبيا في يونيو/حزيران 2015. فقد فاز

الائتلاف الحاكم

بجميع مقاعد البرلمان. إذ حصل والأحزاب الصغيرة المتحالفة معه على 546 مقعدًا من أصل 547 ولم تستطع المعارضة الوصول إلى أي من هذه المقاعد. أما المقعد المتبقي فقد تم تأجيل الانتخابات في دائرته. وفاز بها لاحقًا تابعون للائتلاف الحاكم.

إزاء هذه السياسات العدوانية والتمييزية لم يكن أمام أبناء تلك القومية سوى ترك مدنهم وقراهم والهجرة إلى الدول المجاورة؛ مثل: كينيا والسودان الصومال وغيرها. ومنذ عام 1992

تزايدت معدلات

الهجرة حتى وصلت إلى نحو 75%.


الأورومو في تقارير منظمات حقوق الإنسان


منظمة العفو الدولية

في ظل تلك السياسات المجحفة بحق الأورومو توالت الانتقادات من المنظمات الحقوقية الدولية للحكومة الإثيوبية. ففي تقرير لها عام 2014 انتقدت «منظمة العفو الدولية» انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الحكومة ضد تلك الجماعات. فأكدت تعرضها باستمرار إلى عمليات توقيف تعسفية واختفاء قسري واعتقالات بدون محاكمة، فضلًا عن إعدامات غير قضائية.

كما أشارت

إلى اعتقال ما لا يقل عن 5000 من الأورومو منذ 2011 بمبررات مبهمة وبتهمة المعارضة.

أكدت المنظمة أيضًا تعرض العديد منهم لعمليات التعذيب المتكرر مستندة في هذا إلى استجواب معتقلين سابقين فروا إلى كينيا وأوغندا. حيث

روت إحدى الفتيات

«كيف وضعوا على بطنها جمرات فحم حمراء للاشتباه في أن والدها يدعم جبهة تحرير أورومو»، بينما نقل معلم «كيف طعنوه بحربة في عينه لرفضه نشر دعاية الحزب الحاكم بين تلاميذه».

لم يكن هذا الانتقاد هو الأول من نوعه. فمنذ 1992 و«منظمة هيومن رايتس ووتش»

تصدر تقريرًا

سنويًا عن إثيوبيا وجميعها يؤكد تدهور أوضاع حقوق الإنسان بها، وبشكل خاص إزاء جماعات الأورومو. ففي 2015 على سبيل المثال نددت المنظمة بسقوط أكثر من 500 قتيل في الاحتجاجات التي نشبت في إقليم «أوروميا». وهو الأمر الذي تكرر في تقريرها عن عام 2016. إذ

أكدت سقوط

قرابة 400 إثيوبي خلال الاحتجاجات في العام ذاته، واعتقال أكثر من 20 ألف سياسي أورومي منذ مارس/ آذار 2014.


تجدد الاحتجاجات: ما أشبه الليلة بالبارحة

إزاء تلك الانتهاكات والاضطهاد الذي تمارسه حكومة التيغراي، اندلعت العديد من الاحتجاجات في مناطق الأورومو. وأدت مؤخرًا إلى استقالة رئيس الوزراء «ديسالين». تعددت الأسباب وراء هذه الموجة الأخيرة؛ ما بين عمليات القمع والتهجير للمزارعين، وتباطؤ الحكومة ومحاولتها التراجع عن وعودها بإطلاق سراح المعتقلين والمعارضين السياسيين.

فالبداية كانت في 3 يناير/كانون ثاني الماضي، حينما أعلن رئيس الوزراء المستقيل نية الحكومة الإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين وإسقاط التهم الموجهة لهم، لخلق مساحة من التوافق والحوار السياسي. بالفعل بدأت الحكومة في تنفيذ وعودها وأطلقت سراح زعيم مؤتمر أورومو الاتحادي المعارض «ميرارا جودينا»، لكنها تراجعت عن الإفراج عن بقية المعتقلين.

فجأة ودون مقدمات، وقعت اشتباكات بين قوات الشرطة ومحتجين من الأورومو في 11 فبراير/شباط الجاري، سقط على إثرها عدد من القتلى. نتج عن ذلك التراجع عن الإفراج عن المعتقلين الدعوة لعصيان مدني في مدن لثلاثة أيام وبدأ المحتجون بمحاصرة العاصمة.

في اليوم الثاني من الإضراب حاولت الحكومة امتصاص الغضب الشعبي عبر إطلاق سراح المئات من السياسيين الأورومين وقادة المعارضة، إلا أن محاولات التجميل هذه لم تكن كافية لإثناء المحتجين عن المطالبة باستقالة الحكومة وتشكيل حكومة أخرى إلى أن تُجرى انتخابات حرة ونزيهة. فاستقال رئيس الوزراء ودخلت البلاد في حالة طوارئ جديدة بعدما

تم رفعها

في أغسطس/آب الماضي.

وقد ارتفعت وتيرة احتجاجات الأورومو منذ نوفمبر/ تشرين ثاني 2015، بعد إعلان الحكومة عن خطة لتوسيع العاصمة ومصادرة الأراضي الزراعية المتاخمة لها والتي تقع ضمن أملاك الأورومو. نتج عن ذلك سقوط قتلى ومواجهات مسلحة واعتقالات لقادة المعارضة من الأورومو ومحاكمتهم بتهم الإرهاب. انضمت الأمهرة أيضًا وهي ثاني أكبر مجموعة عرقية في جنوب إثيوبيا إلى تلك الاحتجاجات، لتوسعات مماثلة بإقليمهم. الأمر الذي أدى بالنهاية إلى تراجع الحكومة عن خطتها بعدما فشلت وسائل القمع التي اتبعتها ضد المحتجين.

وتجددت الاحتجاجات كذلك في 2016، ولجأت الحكومة بالنهاية إلى

إعلان تشكيل وزاري

يمنح الأورومو والأمهرة أكثر من ثلث الحقائب الوزارية. إلا أن المعارضة كانت قد رفعت سقف مطالبها لإسقاط النظام. واعتبرت التغيير مجرد مناورة لامتصاص الغضب ومنع توسيع الاحتجاجات.


ماذا بعد؟

إثيوبيا تستهدف بلا رحمة، وتمارس التعذيب، بحق أكبر مجموعاتها الأثينية من الأورومو، الذين ترى فيهم مجموعة معارضة للحكومة.

في ظل التشابه بين الاحتجاجات الحالية ونظيرتها السابقة يبقى التساؤل: هل يمكن أن تأتي الاحتجاجات هذه المرة بجدواها في تحسين أوضاع الأورومو أم أنها ستلقى نفس مصير نظيراتها السابقة؟ماذا لو حقق الأورومو أمانيهم هذه المرة وتولى رئاسة الوزراء أحد قيادتهم هل يعني ذلك انتهاء مأساتهم؟

من غير المتوقع أن تمثل تلك الاحتجاجات تغيرًا جوهريًا فيما يخص مستقبل الأورومو. فاستقالة رئيس الوزراء هذه بمثابة محاولة جديدة للمناورة من قبل السلطة الحاكمة لإطالة أمد بقائها دون اتخاذ أي إجراءات حقيقية من شأنها تحسين وضع الأورومو. ففي كل مرة تندلع فيها الاحتجاجات تلجأ الحكومة إلى إعطاء بعض الامتيازات الرمزية للأورومو أو تتجه إلى المهادنة منعًا لتفاقم الأوضاع. والأن تعيد الحكومة الكرة ذاتها عبر التضحية برئيس الوزراء تحت مزاعم تحقيق الإصلاح السياسي بالبلاد.

والواضح أيضًا أن تلك المحاولة لم تُكلّفها تنازلًا كبيرًا بالقدر المتصور، فـ «ديسالين» المستقيل

لم يكن

من التيغراي. وتم اختياره كشخصية توافقية ضعيفة، وكأنه آلة سياسية يحركها التيغراي كما يريدون.

وإذا حدث وتم اختيار رئيس للوزراء من جماعة الأورومو خلفًا لـ «ديسالين» (حيث يدور الحديث عن إمكانية اختيار «ليما ميجراس» زعيم المنظمة الديمقراطية لشعب أورومو) كمحاولة لترتيب الأوضاع والالتفاف على مطالب المحتجين، فلا يعني ذلك تغييرًا هيكليًا لصالح الأورومو. فما زال التيغراي هم من يسيطرون على مفاصل الدولة ومناصبها السيادية. والأمر لا يتعلق فقط بالحقوق السياسية –

كما أشار

أستاذ العلوم السياسية الدكتور حمدي عبد الرحمن- إذ يرتبط بشكل أكبر بإشكالية الهوية والوعي العرقي في مجتمع متعدد الأعراق.

أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن الأورومو ليست القومية الوحيده التي عانت من الاضطهاد وانتهاك حقوقها من قبل الحكومة الإثيوبية. فهناك انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ارتكبتها الحكومة داخل الدولة وخارجها، ووثقتها «هيومن رايتس ووتش». حيث أكدت المنظمة أن القوات الإثيوبية ارتكبت جرائم ضد الإنسانية عامي 2003 و2004، بما في ذلك عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والاغتصاب والتعذيب.

وبالرغم من هذه الانتهاكات بالداخل والخارج، ما زالت هناك حالة من الصمت والتعتيم الدولي إزاءها. وما زالت تقارير لجنة حقوق الإنسان التابعة للحكومة الإثيوبية هي المعتمدة دوليًا. وما زال هناك رفض دولي للدعوات التي يوجهها مسئولو الأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات وسجل الحكومة في مجال حقوق الإنسان.