لم يحظَ تدوين الحديث عند الشيعة الإمامية باهتمام كبير؛ نظرًا للمنطلقات المصبوغة بالصبغة الطائفية في التعاطي مع الشيعة، وقد قَدَّمَ الشيعة مدونات حديثية لا تقل أهميةً عن مدونات الحديث السنية، بل والمدهش هذا التشابه الكبير في طريقة التعامل مع الحديث النبوي، من حيث الأسانيد وعلم الرجال وعلم الجرح والتعديل…وغيرها، ولكن ذلك لا يعني أنه ليس هناك اختلافات بين الشيعة والسنة في هذا المجال، وإنْ كنا نجده اختلافًا لا يمس جوهر الحديث بتفرعاته المختلفة كأحد العلوم الإسلامية المهمة -إنْ جاز التعبير- ولذا سنحاول في هذه المقالة تقصي حقيقة التدوين الحديثي عند الشيعة الإمامية في مراحله المختلفة، والإشارة إلى أهم مدونات الحديث والموقف منها.

كيف نفهم وضعية أهل الحديث كتيار فكري؟

من المعروف وحسب المفكر اللبناني حسين مروَّة؛ فإنَّ مدرسة أهل الحديث؛ كانت رد فعل على مدرسة أهل الرأي، وحسب ما ذكره مروة فإنَّ مدرسة أهل الحديث تنكر العمل بالرأي.[1]

والطريف في الموضوع أنَّ جزءًا من تيار أهل الحديث تَطَرَّفَ في رؤيته وموقفه، وجعل بعضهم الحديث ناسخًا للقرآن حسب ما ذكر حسين مروَّة عن أحمد أمين في كتابه الذائع الصيت: فجر الإسلام[2]. وكان ذلك بدايةً لتضخم مدونة الحديث لدى السنة، خصوصًا منذ أن صنف أحمد بن حنبل كتابه: المُسند؛ وهو ما حدا بالمفكر السوري جورج طرابيشي أنْ يبحث تلك الإشكالية في دراسة مهمة عنونها بـ: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث[3].

هُنا يُثار السؤال: هل يختلف الأمر عند الشيعة؟ هذا ما سنقتفي أثره في الفقرات القادمة.

مكانة الحديث عند الشيعة الإمامية

يظن الكثيرون أو البعض أنَّ الشيعة لا يعرفون الأحاديث، ولا يعترفون بالسنة؛ لأنهم شيعة! وهذا الكلام هو ساذجٌ بالطبع وغير صحيح، فالشيعة كما السنة يعتمدون على الحديث اعتمادًا كبيرًا، ويعتبرونه المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن مثل السنة تمامًا، ولكن للشيعة طرقهم في الحديث، كما للسنة أيضًا طرقهم، وللشيعة رجالهم في الإسناد والرواية، وكذا بالنسبة للسنة.

ما يَفْرِقْ الاثنين: أنَّ الشيعة يسندون إلى الأئمة الاثني عشر فالنبي، والسنة يسندون إلى التابعين فالصحابة فالنبي، وذاك لا يعني أنَّ الشيعة لا يسندون إلى الصحابة مطلقًا -باستثناء علي- الأمر ليس هكذا، هم يسندون إلى بعض الصحابة وليس كل الصحابة؛ لأنَّ كل الصحابة ليسوا بعدول عند الشيعة بخلاف علي بن أبي طالب الذي هو مدار مذهبهم[3].

مرويات الشيعة ترد على مرويات السنة

ذكر السيوطي (جلال الدين) في كتابه تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي أنَّ «وأما ابتداء الحديث، وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن العزيز بأمره»[4]. هذا ويُعتبر محمد بن شهاب الزُهري أول من دون الحديث في زمن عمر بن عبد العزيز حسب السرديات السنية، ولكنَّ ذلك ليس رأيًا نهائيًا، فالبعض يرى أنَّ عمر بن عبد العزيز أصدر أوامره بالتدوين، ولكن الظروف حالت دون تطبيقها، فخلافته لم تدم إلا ثلاث سنوات غير كاملة (99- 101هـ)، ويرى البعض أنًّ التدوين الفعلي تم في خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان، في حدود سنة 124هـ.

وعليه فإنه وفقًا للسردية السنية فإنَّ الحديث بدأ تدوينه في القرن الثاني الهجري (ربعه الأول على الأقل)؛ إذا شئنا التوفيق بين الروايات المتضاربة جريًا على عادة القدماء! يعني أنَّ الحديث تأخر تدوينه وجمعه في بواكيره الأولى قرنًا ونيف، مع ملاحظة أنَّ المدونات الحديثية التي ستحفظ لنا هذا التراث ستظهر بالتوالي منذ القرنين الثاني والثالث (موطأ مالك – مسند الإمام أحمد) ثم كتب الصحاح الستة (الصحيحان: البخاري ومسلم+ السنن الأربعة: أبو داوود-الترمذي-ابن ماجه- النسائي).

والسبب في تأخر التدوين كما تروي المصادر السنية، هو نهي النبي ثم الخلفاء الثلاثة (أبو بكر- عمر- عثمان) عن كتابة الحديث، بل أنَّ عمر بن الخطاب الخليفة الثاني كان يعاقب من كان يروي عن النبي شيئًا!

هناك حديث رواه الصحابي (أبو سعيد الخُدري): أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، فمن كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه»![5]

وهذا الحديث روي كذلك بألفاظ مختلفة ولكنها تؤدي ذات المعنى وهو النهي، والاختلاف في النقل، والاختلاف يدل على عدم الدقة في النقل حسب ما أورده راد في كتابه[6]. وهناك إشكاليات مثارة بشأن سند هذا الحديث؛ لا مجال لتفصيلها هنا. هذا الكلام تناقضه تمامًا السردية الشيعية فهي ترى أنَّ التدوين للحديث بدأ مع الرسول، وتسرد السردية روايات متعددة مدعمة تؤيد وجهة نظرها منها:

«قام صلوات الله عليه بعد فتح مكة بين الملأ من قومه وخطب فيهم، فقام رجلٌ من اليمن يُكَنَّى بأبي شاة، وقال: اكتبْ لي ذلك، فقال(ص):» اكتبوا لأبي شاة»

هذا الحديث من مرويات السردية السنية، حيث ورد في مسند الإمام أحمد، وأورده الرامهُرمزي في كتابه: المحدث الفاصل بين الرواي والواعي (من كتب الحديث المعتبرة سنيًا)، وذكر ابن الصلاح في مقدمته هذا الحديث، واستدل به على جواز كتابة حديث النبي[7].

هناك أحاديث أخرى مروية في الكتب السنية يحتج بها الشيعة في تدوين الحديث في حياة الرسول، مثل حديث عبد الله بن عمرو، ورافع بن خديج، وغيرهما، تصبُّ هذه الروايات في مصلحة تدوين الحديث في العصر النبوي، وليس في المائة الثانية والثالثة كما هو مشهور وسائد.

كيف ومتى بدأ التدوين عند الشيعة الإمامية؟

وصلت إلينا أربع مدونات شيعية هي الكتب الأربعة التي تمثل الكتب المعتمدة عند الشيعة، وهي حسب الترتيب الزمني:

1. الكافي في الأصول والفروع

الذي صنفه محمد بن يعقوب الكُليني (تـ 328 أو 329هـ)، وسبب التسمية حسب الكُليني «كتابٌ يجمع فيه من جميع فنون علم الدين»، أو لعبارة منسوبة للإمام محمد بن الحسن العسكري (المهدي): «الكافي كافٍ لشيعتنا»، قال هذه العبارة بعد أنْ عُرضَ عليه الكتاب. وقد جمع الكليني الأحاديث بحيث لا تكون متعارضة مع القرآن، ولا الإجماع (إجماع الطائفة هنا).

ويضمُّ الكافي ما بين: خمسة عشر وستة عشر ألف حديث، فهناك أقوال متضاربة في العدد الدقيق لأحاديث الكافي. واستند الكليني على الأصول الأربعمائة (سنتحدث عنها في الفقرات القادمة)، وتبويب الكتاب لا يختلف كثيرًا عن تبويب المدونات الحديثية عند السنة (فهناك كتاب للطهارة، وأخرى للصلاة) وهكذا. أما من حيث صحة ما ورد فيه من أحاديث فهو مدار خلاف بين تيارين كبيرين داخل النسق الشيعي:

أ. الإخباريون ويرون أنَّ جميع الأحاديث صحيحة، ولا مجال للطعن فيها.

ب. الأصوليون ويرون أنَّ هناك أحاديث ضعيفة بل وحتى مدسوسة في الكافي، فلابد من نقده وتنقيته.

2. من لا يحضره الفقيه

وهو لمحمد بن علي بن بابويه القُميِّ (الملقب بالشيخ الصدوق) (تـ 381هـ). ويبدو أنَّ منوال الشيخ الصدوق كان على خطى الطبيب محمد بن زكريا الرازي الذي صنف كتابًا في الطب يحمل عنوان: من لا يحضره الطبيب. وقد نهج الصدوق نهجًا مختلفًا عن الكليني، فهو كان يحذف الإسناد إلا الاسم الأخير في السند كنوع من الاختصار والتيسير، وحاول أنْ يتلافى الأحاديث المتعارضة، وجمع الأحاديث من المصادر المعتبرة لدى الطائفة.

3. كتابا الطوسي

أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(ـتـ 460هـ) المعروف
بشيخ الطائفة صنَّفَ كتابيه:

الأول: تهذيب الأحكام.

الثاني: الاستبصار فيما اختلف من أخبار.

والكتاب الأول: يُعتبر أكبر موسوعة في أحاديث الأئمة في أبواب الفروع، وهو يحظى بقبول واسع في أوساط الفقه الشيعي الاثني عشري. أما الثاني: جمع فيه الروايات الواردة في مختلف البحوث الفقهية، مع ذكر الروايات المخالفة لها[8].

هذه هي الكتب الأربعة المعتبرة عند الطائفة، ونلاحظ
أنها ظهرت في أزمنة متقاربة في القرنين الرابع والخامس ولذلك دلالته.

منذ القرن الثالث نجحت الحركات العلوية في إقامة دول في بعض الأقاليم الإسلامية مثل البويهيين في فارس والعراق وهم زيدية (334- 448)، وكان هناك الفاطميون في شمال أفريقيا ثم مصر، والحمدانيون في الشام وغيرها من دول استندت على الرؤية الشيعية، ونشطت حركات ثقافية وعلمية شيعية مثل إخوان الصفا.

يبدو أنَّ هذه الفترة قد ساعدت الشيعة الاثني عشرية على تدوين الأحاديث وظهور الكتب في تلك الحقبة، وهي لا تنفصل عن حالة ازدهار عام شهدها العالم الإسلامي عمومًا منذ القرن الثاني الهجري، وذلك يعود إلى الحامل الاجتماعي والطبقي (طبقة التجار)، وازدهار التجارة البعيدة (الكارمية) التي ساعدت على تدفق الذهب والفضة، ومن ثم ازدهار المدن الإسلامية، وازدهار الجانب الثقافي والحضاري، وهذا سيتعرض للتآكل التدريجي كمقدمات لعصر الانحطاط الذي ستبدأ بوادره في القرن الرابع مع وصول جحافل الأتراك السلاجقة من آسيا الوسطى (عصر الإقطاع العسكري).

جذور التدوين والأصول الأربعمائة

كما ذكرنا في بداية حديثنا: أنَّ السردية الشيعية ترفض رفضًا مطلقًا السردية السنية حول تأخر تدوين كلام النبي وفعله وتقريره، واستندوا على مرويات سنية مؤيدة للكتابة كما ذكرنا؛ ولذا انطلقت السردية الشيعية من منطلق آخر قبل ظهور الكتب الأربعة ألا وهو: أنَّ تدوين الحديث بدأ منذ حياة النبي، روي عن الإمام الصادق (جعفر بن محمد) أنه قال: «وجدتُ في ذؤابة سيف على صحيفة» ويقصد صحيفة احتوت على كلام للنبي أملاه على علي، كان علي يحتفظ بها في ذؤابة سيفه (أي مقدمة سيفه)، وفي رواية عن الباقر (محمد بن علي زين العابدين)، أنَّ هذه الصحيفة وُجدتْ في قِراب السيف، وخبر الصحيفة ورد في البخاري وترجم له (أي لهذا الخبر) في «كتاب العلم».

وجاء عن أم سلمة في المحدث الفاصل للرامهرمزي، أنَّ «رسول الله دعا بأديم، وعلي بن أبي طالب عنده، فلم يزل رسول الله يملي، وعلي يكتب، حتى ملأ بطن الأديم وأكارعه». وتستمر الروايات تسرد عملية التدوين وأسماء المدونات لكل إمام من الأئمة الاثني عشر [علي- الحسن- الحسين- زين العابدين بن الحسين- محمد الباقر بن زين العابدين- جعفر الصادق بن محمد- موسى الكاظم بن جعفر- علي الرضا بن موسى- محمد الجواد بن علي- علي الهادي بن محمد- الحسن العسكري بن علي- محمد بن الحسن العسكري (المهدي)]. وكان من أشهر تلك المدونات الأولى: صحيفة علي وتسمى بصحيفة النبي، ومصحف فاطمة (أقوال وخطب ومواعظ)، الصحيفة السجادية…إلخ.

لكن مما يلاحظ أنَّ هذه المدونات لم تصل إلينا مكتوبة، فهي رويت شفاهة فظهر هناك ما يُعرف بالأصول الأربعمائة التي تُعد الأصل أو المصدر الأساسي للكتب الأربعة المذكورة، ولما صُنفَ في وقتٍ متأخر (بحار الأنوار للمجلسي في القرن الحادي عشر الهجري).

ما هي الأصول الأربعمائة؟

يطلق هذا المصطلح على أربعمائة أصل حديثي، صُنفتْ من قبل رواتها، الذين سمعوا مباشرة وبلا واسطة من الأئمة المعصومين في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، وهي تمثل الركيزة الأولى للكتب والمجامع الحديثية، فهي تضم الأحكام والسنن، والمواعظ والتفاسير (جاء هذا التعريف في مستطرف السرائر: لمحمد بن إدريس الحِلي: 543- 503هـ). ويوجد في العصر الحالي من هذه الأصول الأربعمائة: ستة عشر أصلا (حسب مستدرك الوسائل)، صدرت مطبوعة.

ومن أمثلة الرواة الذين لهم أصول: زيد الزراد- علي بن رئاب- أبو بصير الثقفي وغيرهم.

هذه الأصول الأربعمائة التي اُستمدتْ من المدونات الأولى مثل صحيفة علي وباقي أبنائه حتى الإمام الثاني عشر، تشكل الزاد الحديثي للكتب الأربعة وما أتى بعدها. ورغم ذلك لم تنجُ المدونات الشيعية من الضعف والتدليس والوضع، حيث تم نقدها مثلاً من قبل السيد الطبطبائي، وكمال الحيدري (من المحدثين)، وهناك مدارس نقدية كثيرة، وهناك قرآنيون شيعة لهم انتقادات حادة على ما جاء في المدونة الشيعية، فلا يتسع المجال للإفاضة، ونؤكد أخيرًا أنه على الرغم من أنَّ التدوين حدث في عهد النبي حسب السردية الشيعية، فإن ذلك لم يصل مكتوبًا، فكلها تكهنات أخذتْ طابعًا أسطوريًّا وأيديولوجيًّا أحيانًا.


المراجع



  1. حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ، دار الفارابي، بيروت، ط2، 2008م، بتصرف يسير منا،م2، صـ:74.
  2. جورج طرابيشي: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث( النشأة المستأنفة)، دار الساقي، بيروتـ ط1، 2010م.
  3. راجع تفاصيل تلك القضية في دراسة  الدكتور: على مهدوي راد: تدوين الحديث عند الشيعة الإمامية، همستي نما، طهران، 1231ق، 2010م، وهي دراسة قيمة، كانت مقالات بالفارسية نشرها الباحث في عدد من الدوريات المختصة بالعلوم الإسلامية.

    وأيضًا: السيوطي(جلال الدين:تـ911هـ): تدريب الرواي في شرح تقريب النواوي، ج1، صـ 94.، والنص نقله علي مهدي راد: تدوين الحديث عند الشيعة، مرجع سابق، صـ 35.
  4. 4- مرجع سابق،صـ:37وما بعدها.
  5. الحديث في صحيح مسلم برقم:2289/4، وفي مسند أحمد:3/21.
  6. محمد مهدوي راد: مرجع سابق، صـ: 65.
  7. مرجع سابق، صـ 45.
  8. حسن الأمين: دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط6، 1422هـ- 2001م( مواد متنوعة استقناها من الموسوعة بخصوص الكتب الأربعة بشكل مكثف ومختصر جدا).