عمر عبد الرحمن؛ رجل كفيف من محافظة بسيطة في مصر، قاده قدره لأن يكون أميرًا لواحدة من أبرز الجماعات الجهادية في الثمانينات والتسعينات، ثم انتهى به الأمر محكومًا بالسجن مدى الحياة في أمريكا التي أكلت سجونها أكثر من ربع عمره، إلى أن قبض ملاك الموت روحه مساء اليوم. فمن هو عمر عبد الرحمن؟


مع الشريعة، ضد النظام

ولد عمر عبد الرحمن في محافظة الدقهلية عام 1938، ووجهته أسرته إلى التعليم الديني، فحصل على الشهادة الابتدائية والثانوية من الأزهر، ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة، وتخرج فيها عام 1965.

واصل عمر دراساته العليا في كليته حتى حصل شهادة الماجستير ثم الدكتوراة عن دراسة بعنوان: «موقف القرآن من خصومه كما تصوره سورة التوبة».

عرف عن عمر عبد الرحمن راديكاليته في معاداة الأنظمة المصرية الحاكمة منذ عهد جمال عبد الناصر، وجلبت عليه تلك المواقف الكثير من المشاكل التي بدأت بإيقافه عن عمله كمعيد في كلية أصول الدين في عام 1969، بسبب آرائه السياسية.

عقب وفاة جمال عبد الناصر في عام 1970، اعتقل عبد الرحمن لمدة 9 أشهر بعدما أفتى بأنه لا يجوز أن يضع الأئمة نعشًا فارغًا للصلاة عليه كأن به الرئيس الراحل،

وقال

أن من يريد أن يصلي على عبد الناصر فليذهب إلى قبره وليصلِّ عليه، أما أن يضع نعشًا تصويريًا فهذا لا يجوز.

بعد أن حصل على الدكتوراه، استدعته جامعة الأزهر وعينته في فرعها بأسيوط، في عام 1973. لكن مركز الرجل في الجامعة لم يمنعه من الاعتراض على مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد، فقاد مسيرة من طلاب جامعة الأزهر بأسيوط إلى مبنى المحافظة، حيث سلم المحافظ وثيقة احتجاجية تعترض على القانون لأنه مخالف للشريعة الإسلامية.

سافر الدكتور عمر إلى السعودية للعمل في إحدى جامعاتها في عام 1977، ومكث هناك أربع سنوات تقريبًا، ثم عاد إلى القاهرة عام 1980. كانت معارضة السادات قد بلغت أوجها في ذلك الحين بسبب اتفاقية كامب ديفيد، وأصبح عبد الرحمن رمزًا من رموز الإسلاميين المعارضين للسادات، فعرض عليه مجلس شورى الجماعة الإسلامية أن يكون أميرهم، وقد كان.

اندلعت أحداث «التحفظ» في أيلول/ سبتمبر 1981، وهي حملة اعتقالات شنها السادات ضد معارضيه، وكان الدكتور عمر من الأسماء المطلوب القبض عليها، فاختفى خلال هذه الفترة، إلى أن قبض عليه بعد اغتيال السادات بتهمة التحريض على قتله.

قرر عبد الرحمن الدفاع عن نفسه وعن التنظيم، فألقى عدة مرافعات شهيرة، جمعت في كتاب بعنوان «

كلمة حق

»، دافع فيها عن أفكاره واتهم النظام بتنحية شريعة الله عن حكم الحياة واستبدالها بشريعة الجاهلية. وبعد مرور ثلاث سنوات على سجنه، برَّأته المحكمة بعد أن شهد عبود الزمر وعصام دربالة وقيادات من الجماعة الإسلامية بأنه لم يكن له علاقة بعملية اغتيال السادات.

استمر الدكتور عمر على مواقفه المعادية للنظام بعد تولي حسني مبارك، وجلب هذا عليه تضييقات أمنية كثيرة، كان آخرها وضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله من عام 89 إلى عام 1990. وعندما طلب السفر لأداء فريضة العمرة، أعطته مباحث أمن الدولة التأشيرة قبل سفره بلحظات فلم يلحق بالطائرة، فقرر السفر إلى السودان الذي استُقبل فيه بحفاوة.


الشيخ يرى وجه أميركا القبيح

سافر عبد الرحمن من السودان إلى السعودية ثم إلى باكستان، حيث التقى هناك بقادة الجهاد ضد الاحتلال السوفيتي، ثم عاد إلى السودان مرة أخرى، ومكث فيها إلى أن دُعي إلى مؤتمر في أمريكا عن طريق الجالية الإسلامية هناك.

استطاب عمر الحياة في أمريكا فمكث فيها، لكن حياته هناك أخذت منحى آخر بعد أن اتُّهم، هو وتسعة آخرون، في العام 1993، بالتخطيط لتفجير مبانٍ مهمة في نيويورك، والتخطيط لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك وزعماء سياسيين ودينيين آخرين.

اعتُقل الدكتور عمر عبد الرحمن، وحوكم أمام القضاء الأميركي الذي أدانه وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. شاب القضية الكثير من الجدل، خاصة وأن الكثير من الأدلة التي قُدمت ضد عبد الرحمن ورفاقه كانت «سرية».

فرضت السلطات الأمريكية قواعد خاصة على عبد الرحمن في عام 1997 لمنعه من إرسال أو تلقي رسائل كتابية أو صوتية من معتقلين آخرين أو من حراس السجون أو أي شخص خارج السجن. وفي مرحلة لاحقة، جعلت السلطات الأمريكية هذه القيود أكثر صرامة حيث منعت عبد الرحمن من الحديث إلى وسائل الإعلام سواء بصفته الشخصية أو عبر محاميه.

في العام 2002،

أدانت

السلطات الأمريكية أربعة أشخاص بتهمة تقديم الدعم إلى تنظيم الجماعة الإسلامية المصري المحظور وزعيمه الشيخ عمر عبد الرحمن. شملت قائمة المتهمين محامية عبد الرحمن، ليني ستيوارت، التي حكم عليها بالسجن 10 سنوات، والمترجم الخاص به وشخصان آخران.


أفرجوا عن الشيخ الضرير العليل

وُجهت إلى الإدرات الأميركية المتعاقبة مناشدات كثيرة للإفراج عن الدكتور عمر، كان أبرزها عقب صعود الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى سدة الحكم في العام 2008 وبدأ الإفراج عن معتقلي غوانتنامو، حيث وجهت أسرة عبد الرحمن والجماعة الإسلامية في مصر مناشدات عدة في هذا الشأن.

نشطت هذه التحركات عقب ثورة 25 يناير 2011، حيث نظمت أسرته العديد من الوقفات الاحتجاجية أمام مقر مجلس رئاسة الوزراء والمجلس العسكري، واعتصمت أمام السفارة الأميركية في القاهرة، إلا أن طلبها لم يُجَب.

عقب تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقاليد الحكم، تصاعدت

التضييقات

على الدكتور عمر عبد الرحمن في محبسه، وكان آخرها منع الأدوية عنه، ومصادرة جهاز راديو كان بحوزته.

قبل يوم من وفاة عبد الرحمن، تواصلت المخابرات الأميركية مع أسرته، وطلبت منها التواصل مع السفارة الأميركية بالقاهرة لتقديم طلب بشأن إعادته إلى مصر، نظرًا لحالته الصحية المتأخرة جدًا، وعليه بدأت الأسرة في التواصل مع مسؤولين مصريين لمعرفة موقف السلطات من إمكانية عودته إلى بلاده لقضاء عقوبة السجن مدى الحياة.

لم يمهل القدر أمير الجماعة الإسلامية الأسير حتى يعود إلى بلاده، فتوفي في محبسه بأميركا بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر يناهز 79 عام.