لقراءة الحلقة الأولى



لقراءة الحلقة الثانية


يذكر كامل جلسته في مكتب مدير الأمن محاطًا بمجموعة من الرتب والكاسكيتات ولفائف التبغ والبدلات البيضاء وعلامات الخطورة ..

هل تفضل الشاي أم القهوة يا دكتور؟ القهوة؟ إذن هي القهوة يا علاء ..

كامل يشعر بحيرة، فمن غير المعتاد أن يستعين رجال الشرطة بخبرات خبير أحياء مائية مثله، وقد أدهشه أن يأتي له ضابطان في مقر عمله في معهد علوم البحار يطلبان رأيه في مهمة استشارية ..

جلس متوجسًا ينتظر ما سيقال له. بعد وقت طال وأوراق توقع ودعابات، قال الضابط الكبير:

-ـ«نحن موقنون من وجود سمكة قرش تعبث حول شواطئنا ..»

حك كامل ذقنه:

-ـ«ولماذا لم تطلبوا رأي خفر السواحل؟».

-ـ«لأنهم يصرون على أننا نهذي ..»

ثم أخرج بعض الصور الفوتوغرافية من ملف أمامه، وقدمها لكامل ..

استطاع كامل أن يرى في الصور أطرافًا آدمية مبتورة ملوثة بالوحل .. هناك ساعدان وساق .. لا توجد رؤوس.

رفع رأسه متسائلاً طالبًا القصة، فقال اللواء:

-ـ«هناك ثلاثة أشخاص قد اختفوا عند شط جمصة .. الاختفاء تم على مدى شهر ..».

-ـ«هل يجيدون السباحة؟».

-ـ«على قدر علمي لا أحد يجيد السباحة .. الكل يجيد المشي على القاع .. لكن الموج ليس بهذا الارتفاع .. دعك من أن الموج لا يلقي بأطراف مبتورة على الشط».

كان التفسير الوحيد الممكن هو وجود سمكة قرش اختارت سواحلنا لتمرح هناك .. وهي سمكة لم يستطع خفر السواحل أن يجدوها أو يظهر شهود على رؤيتها..

-ـ«نحن في مأزق .. نحن في انتظار اختفاء الشخص الرابع والعثور على جزء من جثته .. نحتاج إلى كل خبرة علمية ممكنة».

قال أحد الضباط بعد ما ظل صامتًا طيلة المحاورة:

-ـ«هناك حل أن نغلق الشاطئ، لكن هذا يمثل كارثة اقتصادية لا نتحملها»

كانت هذه هي العقدة الدائمة .. عقدة فيلم الفك المفترس حيث تتصارع المصلحة الاقتصادية مع مصلحة الناس.. الكساد أم خطر سمكة قد توجد أو لا توجد .. هنا يفضل الناس أن يقامروا، فالسمكة لا تلتهم شخصًا كل يوم ..

لكن الأمر يختلف هذه المرة: لا توجد سمكة على وجه اليقين .. هناك شيء يقتل، ولعل التدقيق في الأشلاء يشي بأنها مزقت بسكين سفاح .. لا أعني هذا طبعًا لكني أضرب لك مثالاً توضيحيًا.

قال كامل وهو يرسم بعض الخطوط على ورقة:

-ـ«أقترح إذن أن نقوم ببعض الورديات لمسح الشط. سنضع شبكة محكمة من المراقبة على الشط كله حتى إذا جاء الحادث التالي عرفنا بالضبط حقيقة ما نواجهه».

قال اللواء في لهجة حسم:

-ـ«أنت تملك سلطة كاملة .. ضع خطة وسوف تنفذ كما تريدها .. لا أريد أن أجد الجثة الرابعة عما قريب».

***************

تحولت حياة سامح إلى طقوس خفية لا يعرف أحد كنهها. كان يخفي التمساح الصغير في حجرته ويتسلل ليطعمه أو يجلس الساعات يراقبه ..

ولا يعرف متى ولا كيف ولد الاسم، لكنه صحا ذات يوم ليعرف أن التمساح اسمه سولتي. بماذا تسمي تمساح مياه مالحة سوى باسم سولتي؟ وكان يمضي وقتًا طويلاً معه. من حسن الحظ أن الأب كان مشغولاً فلم يكن يدخل حجرته، أما الأم فهي لا تعرف .. لأن المياه عكرة وقاع الحوض موحل ومغطى بالحصى .. يسهل أن تخبئ تنينًا فيه، وعلى كل حال لم يكن طول سولتي قد تجاوز طول سحلية .. هكذا كانت تفترض أن الحوض خالٍ وإن كان ماؤه قذرًا.

جاء اليوم الذي أعلن فيه الأب أنهم ذاهبون إلى مصر. لديه أعمال عديدة في بلدته المنصورة وزيارات لبعض أقاربه.. أمه مريضة جدًا ولعل هذه الزيارة الأخيرة لها .. ستكون إجازة قصيرة لكنها ممتعة وقد تأخرت كثيرًا ..

كان سامح يفكر في توتر ..

ليس هناك من يعنى بالتمساح. هناك من يطعم حيوانات الناس في بيوتهم، لكنه لا يستطيع الاتفاق مع أحدهم لأن هذا يفضح القصة كلها ..

هناك حل آخر هو التخلص من التمساح في المجاري أو بالوعة الحمام، لكنه لا يجسر على القيام بذلك ..

هكذا ولد الحل التآمري. خطة خيالية فعلاً لكنها بدت له معقولة. سوف يأخذ سولتي معه إلى مصر. إنه صديقه ولن يتخلى عنه..

بالطبع ليس واردًا أن يتم الأمر بشكل قانوني أو تطبق قوانين حجر الحيوانات.. ليس من الوارد أن يقبل أبوه دخول هذه الدائرة الشيطانية من أجل سحلية ذات أنياب.

في مصر سوف يختار بين أن يعود بالتمساح لأستراليا ثانية، أو يتركه في النيل للأبد، وعلى الأرجح سيتعلم التمساح الحياة في المياه العذبة. التماسيح الأفريقية ذات الأنياب البارزة من الفم المغلق سوف تتعلم سريعًا أن تحب التمساح ذا الأسنان المختفية. لا عنصرية في عوالم التماسيح.

كانت الأم تعد الحقائب، ووسط ثيابه وضع سامح أسطوانة بلاستيكية كبيرة واسعة العنق استطاع بصعوبة بالغة أن يضع فيها التمساح الصغير مع بعض الماء ومحتوى علبة سردين. فليكن ما يكون .. ستكون معجزة لو ظل لدى التمساح أكسجين يكفي الرحلة الشاقة الطويلة إلى مصر، لكن لنترك الحظ يلعب دوره ..

يمكن القول إن الخطة نجحت ..

عندما انفرد بنفسه في بيت أقاربه في مصر، وبعد الكثير من التحيات والقبلات استطاع أن يصير في غرفته، ويفتح الأسطوانة بحذر مستعدًا للتخلص من الجثة. لكنه فوجئ بأن الوحش الصغير ما زال حيًا يتحرك في وهن. ولعله كان في لحظاته الأخيرة ..

أخيرًا عاد الهواء لرئتي الوحش، وما لم يعرفه سامح هو أن التمساح يقدر على الحياة مع هامش أكسجين ضئيل جدًا .. ثم أن عمره طويل جدًا ..

أدرك مع الوقت أن مهمته تزداد صعوبة .. لن يستطيع إخفاء هذا السر للأبد ..

يمكنه إبقاء الوحش داخل الأسطوانة البلاستيكية بعد عمل ثقوب في الغطاء، ويمكنه أن يطعمه .. لكن هذا الوضع مستحيل مع الوقت خاصة في بيت أقاربه، وعلى الأرجح لن يستطيع أبدًا أن يوفر حوضًا زجاجيًا كالذي كان في أستراليا ..

لقد صار التمساح همًا..

خطر له أن يتخلص منه في المرحاض، وهو يعرف أن التماسيح تظل حية وتعيش في المجاري.. لكنه لا يجرؤ على عمل ذلك ..

جاء الحل بعد ثلاثة أيام عندما دخل الخال المتحمس الذي يتصبب عرقًا، وهتف ملوحًا بيديه:

-ـ«لا يمكن أن نكون في المنصورة ولا نمضي يومًا في جمصة ويومًا في رأس البر .. إن لذة المصيف لا تقارن بشيء».

بدا الأب متحمسًا وكذلك الأم، أما سامح فقد خطر له أن هذه هي فرصته .. شاطئ كبير يمكن التخلص فيه من ربع ديناصورات العالم فلا يظهر لها أثر.

يبدو أنه سينجح في الخلاص من اللعنة التي جاء يحملها من أستراليا.

يتبع