محتوى مترجم
المصدر

Sydney Review of Books
التاريخ
2018/3/2
الكاتب

Vrasidas Karalis

1. مصير ما بعد الوفاة

رغم مرور أكثر من ستين عامًا على وفاته، يظل «نيكوس كازانتزاكيس» (1883-1957) الكاتب اليوناني الأكثر شعبية وشهرة عالمية خلال العشرين قرنًا الأخيرة. إن رواياته هي الوحيدة من ضمن الأدب اليوناني الحديث المدرجة في «المعتمد الغربي» لهارولد بلوم، وما تزال آلاف النسخ من روايته «زوربا اليوناني» تُباع كل عام. لقد تمكن كازانتزاكيس – إلى جانب الشاعر قسطنطين كفافيس – من رسم تصور ثقافي شامل لوطنه، ومن خلال تفضيلاته الجمالية ومشاهده الشخصية التي اعتُبرت يونانية في «جوهرها»، نجح كازانتزاكيس في تحديد ما يُنتظر من الأشياء اليونانية أن تكونه.

إن ذلك إنجاز لا يمكن تجاهله، بالنظر إلى الوضع الهامشي للأدب اليوناني، لكن نجاح كازانتزاكيس لا يزال غير قابل للتفسير بالنسبة للكثيرين. يشعر بعض النقاد أن الكاتب الشهير كان أداة لصناعة النشر خلال فترة ما بعد الحرب باعتباره ترياقًا لكآبة وعدمية الوجودية الفرنسية. أتاحت كل من رواية «زوربا» (1946)، والفيلم (1964) فرصة للتحرر من القمع العاطفي في تلك الحقبة، عن طريق إضفاء شيء من الغموض والإثارة على ذكور البحر المتوسط والمناظر الطبيعية اليونانية هناك، ومن ثم تشجيع السياحة الجماعية إلى جزر بحر إيجة بحثًا عن المغامرات الصيفية والعطلات المبهجة.

أما القلة القليلة من النقاد الذين قاربوا تجربة كازانتزاكيس باعتباره كاتبًا، فقد وجدوه كاتبًا من عصر سابق أخطأ طريقه إلى الحاضر: كان كازانتزاكيس بالفعل كاتبًا ضيق الأفق، ما قبل حداثي؛ أو بالأحرى مناهضًا للحداثة، في عالم ثقافي ينتقل بسرعة إلى الأنساق المفاهيمية والأنماط الخيالية للرؤية والممارسة الأدبية الما بعد حداثية. وصفه فلاديمير نابوكوف بنبرة حقودة وجائرة كعادته، بأنه كاتب «من الدرجة الثانية، عابر الأثر، متعجرف»؛ في حين وصف غور فيدال رواية «الإغواء الأخير للمسيح» – وهي إحدى أفضل روايات كازانتزاكيس – بأنها «مساحة هائلة من الأرض اليباب، حيث لا يمكن حتى لعشبة واحدة أن تنمو».

على الرغم من كل ذلك، تُرجمت جميع أعماله إلى الإنجليزية، بما في ذلك ما كتبه في شبابه من أعمال غير ذات ثقل أدبي، مثل «الثعبان والزنبقة» (1906) ورواياته للمراهقين. وترجم المترجم المبدع والشاعر اليوناني-الأمريكي كيمون فريار عام 1959، رائعة كازانتزاكيس الأدبية وقصيدته الملحمية «الأوديسة: التتمة الحديثة» المكونة من 33,333 بيتًا. حتى أطروحة كازانتزاكيس حول فريدريك نيتشه التي كتبها عندما كان طالب دراسات عليا شابًا ورفضتها الجامعة، صدرت مؤخرًا بالإنجليزية، لتقدم فهمًا جديدًا لحضور الفيلسوف الألماني في أعماله، خاصة خلال سنوات التكوين. كما ترجم بيتر بين مراسلاته الضخمة مؤخرًا، وهو أحد أكثر قرائه ومترجميه حماسة، كما أنه هو مَن منحنا مؤخرًا أول ترجمة كاملة ودقيقة لروايته الأكثر شهرة.

«زوربا اليوناني» هي الرواية اليونانية الوحيدة المدرجة ضمن قائمة الجارديان «



أفضل ألف رواية

يجب على المرء قراءتها». أضحت إعادة تدوين كازنتزاكيس الاستفزازية للأناجيل في «الإغواء الأخير للمسيح» قضية رأي عام دولية شهيرة، بعد حظر الفاتيكان لها. وأسفر اقتباس مارتن سكورسيزي السينمائي غير اللائق لها عن أعمال شغب. ولفترة من الزمان، خلال الستينيات والسبعينيات، أصبح كازانتزاكيس رمزًا للثقافة المضادة. حتى خطر على ذهن المعلم الروحي الشهير راجنيش (أوشو) فكرة ريادية رائعة، إذ شيد عددًا من صالات الديسكو تحت اسم «زوربا المستنير» [البوذا]. كذلك عبد الهيبيون أفكار كازانتزاكيس المفترض فيها صفة التمرد، ولم يفوِّت أتباع «

العصر الجديد

» الفرصة لتبجيله باعتباره «لا منتم»، سائرًا على خطى كولن ويلسون. في الواقع، صار كازانتزاكيس جزءًا من الثقافة الشعبية إلى درجة ظهوره في فيلم ستيفن سبيلبرغ «إنديانا جونز» كفيلسوف في الأديرة اليونانية





يشرح جوهر السببية

للشاب «






إنديانا جونز» (لعب دوره هاريسون فورد) بطل الفيلم.

حققت رواية زوربا شهرة عالمية بعد تحويلها على يد المخرج اليوناني مايكل كاكويانيس إلى فيلم سينمائي. قدم هذا الفيلم تصويرًا وأيقنة جديدة كلية للثقافة اليونانية المعاصرة. كما أضحت موسيقى «ميكيس ثيودوراكيس»، المسماة بـ«رقصة زوربا»، النشيد الوطني غير الرسمي لليونان، وهي موسيقى تثير متعة لا تنضب ولذة لا قيود لها. إنها موسيقى تصويرية حيوية لصناعة السياحة التي تقدم الفن في صورة ترفيه لذيذ. ليس زوربا مجرد اختراع أدبي، أو شخصية خيالية، بل هو أيضًا دعامة لصناعة تعتمد على الهوية العرقية ورمزيتها، فلا يحوي العالم على اتساعه إلا قلة من المدن التي تخلو من مطعم يسمى «زوربا»!


تعد قراءة روايات كازانتزاكيس من طقوس البلوغ لدى اليونانيين، كما هو الحال مع روايات «هيرمان هيسه». ومع ذلك لم يقف النقاد الأدبيون اليونانيون في صف كزانتزاكيس ولا حتى عاملوه بلطف. إذ يرفض الكثيرون «عاميته المتشددة»، وبطولاته المتضخمة، ولغته المصطنعة، وبلاغته العاطفية المفرطة. وهكذا تظل أعماله في دوامة سرمدية، يقع القراء في سحرها، وينكر النقاد مزاياها. جعل كل ذلك من أعمال كازانتزاكيس مادة خصبة لأطروحات الجامعة وأبحاثها، حيث يبحث العلماء العوامل المؤثرة فيها، بداية من «أفلاطون» إلى «هنري برجسون»، ومن المتصوفة إلى نيتشه، ومن البوذية إلى «مارتن هايدغر». فإن أعمال كازانتزاكيس أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه في البداية، وشخصيته باعتباره كاتبًا أكثر إرباكًا في الواقع منها في التصور الشعبي.

كتب كزانتزاكيس في مقدمته لرواية «زوربا»:

في حياتي، كانت الأسفار والأحلام صاحبة أعظم الأثر فيّ. أما من بين البشر، سواء الأحياء أم الأموات، فلم يساعدني في كفاحي إلا قلة قليلة. مع ذلك، إذا رغبت في ذكر الأشخاص الذين ظلت بصماتهم عميقة في روحي، فلعلي أذكر ثلاثة أو أربعة: «هوميروس»، وبرجسون، ونيتشه، وزوربا.

كما يضم «بانثيون» كزانتزاكيس «بوذا» و«لينين» والقديس «فرنسيس الأسيزي»، مما يعقِّد شرح أعماله وفهم شخصيته. إلا أن مثل هذه الأبحاث قد تؤدي إلى إغفال إنجازه الأكثر أهمية: بناء نصوص مليئة بالنماذج المفاهيمية المتنافرة والأطر الدلالية المتعارضة.

كان كازانتزاكيس كاتبًا في صراع مستمر مع مصطلحاته اللفظية، وفي صدام بنيوي مع اللغة نفسها. فكل من يقرأ رواياته يعجب (أو ينزعج) من العظمة القوطية لنثره، والتطرف الرومانسي لتناقضاته، والسعي وراء خلاص لا يأتي أبدًا، وأخيرًا جهوده الدؤوبة لبناء عمل أدبي يدمج الأجناس والأشكال والأساليب الأدبية. هنا تكمن أهمية كازانتزاكيس الكاتب، وما يمكن تسميتها بحداثته المربكة: ينتمي كازانتزاكيس إلى تراث يوناني خاص لطالما تمحور حول الأساطير الموحدة للغة اليونانية، لكنه كان واحدًا من أوائل الكتاب الذين أدركوا حدود وقيود التمثيل اللغوي وحاولوا سد الثغرات بإعادة كتابة؛ أو حتى إعادة تشكيل، قصص التراث الأدبي العظيمة التي بدأها هوميروس. إن كازانتزاكيس متخصص في إعادة الكتابة، وفي تحرير أو تحريف الأساطير -إن جاز التعبير- فقد أنتج تنويعات لا حصر لها من مواضيع معروفة وتأويلاتها الشهيرة. أنتج كازانتزاكيس قصصًا أكثر من أي كاتب يوناني آخر منذ زمن كتاب التراجيديا الإغريق. لقد اخترع في رواياته ومسرحياته وقصائده عديد من الأساطير التقليدية ثم أعاد اختراعها، وكرر إعادة اختراعها، مما يجعلنا نشعر بالدهشة كونه كاتبًا متنوعًا ذا طموح ساحق وإرادة جبارة.

2. السياق

ينعكس تطور كازانتزاكيس الفكري في تفاوت مستوى أعماله. هنا يمكننا ببساطة أن نذكر «تاريخ الأدب اليوناني» (1949) لمؤلفه «كونستانتينوس ديماراس»، باعتباره المثال الأكثر شهرة على استبعاد كازانتزاكيس من المعتمد الأدبي اليوناني الحديث، ففيه جرّد عمل كازانتزاكيس من أي قيمة أدبية وأقصي كازانتزاكيس إلى مجال التربية، حيث صنّف على أنه «معلم للأمة». وما يزال الأصوليون/النقائيون الأدبيون ينظرون إلى أعماله بريبة حتى يومنا هذا.

حتى «بانديليس بريفيلاكيس»، تلميذ كازانتزاكيس الأكثر تفانيًا -والذي انبهر بتعقيد فكره وتنوع أساليب كتابته- حمل داخله مشاعرَ مختلطة للغاية حيال أستاذه؛ إذ كتب يقول: «لقد أحببته، وأنكرته، وأخيرًا أحببته مرة أخرى!» إلا أن حبه ذلك الذي بُعث ثانية، تمخض -بعد وفاة كازانتزاكيس- عن تناقض عميق تجاه أعماله وشخصيته. ففي ثلاثيته الطموحة، «طرق الخلق»، وبالتحديد في الرواية الأخيرة «خبز الملائكة» (1965)، نقابل «لويزوس دامولينوس»، الذي يرمز بقليل من التحوير إلى كازانتزاكيس، والذي سيلقى حتفه إثر تسمم بالدم، ليتعفن جسده من الداخل كعقاب ميتافيزيقي، جزاءً للاتهامات التي وصم بها بريفيلاكيس أستاذه: تلويث التقاليد اليونانية بما سماه «غزو الزمانية الأجنبية».

إن ثلاثية بريفيلاكيس إنجاز فكري استثنائي. وفيها يستكشف التحديات الفكرية التي وضعها كازانتزاكيس أمام الثقافة اليونانية، تلك التحديات التي يمكنها تقويض أسس التقليد الأرثوذكسي المسيحي، المستند -وفق بريفيلاكيس- إلى الثقافة الشعبية، واللغة الديموطيقية (الشعبية) والروحانية الطقسية.

يأتي بريفيلاكيس من سلالة جيل باسل خاض المخاطر، شهد أهوال الحرب العظمى، وكارثة آسيا الصغرى وكذلك الثورات الروسية والألمانية، وهذا ما جعل بريفيلاكيس مرتعبًا من الرؤية الخطيرة والعملاقة لفردية متكاملة، تظن في نفسها -عن حق أو وهم- القدرة على السيطرة على مصيرها وإرادتها، كما عبر عنها كازانتزاكيس، خاصة في قصيدته الملحمية «الأوديسة».

مثّل كازانتزاكيس ذلك الجيل من التطرف والمتطرفين، حاله كحال «كنوت همسون»، و«إرنست يونغر»، و«توماس إدوارد لورنس»، و«أندريه مالرو»، و«غابرييل دانونزيو»، الذين عايشوا انهيارًا روحانيًا وسياسيًا مربكًا في مجتمعاتهم، وحاولوا استصلاح مساحات اجتماعية جديدة للفرد. وفي حالة كازانتزاكيس، فقد تمخضت الأزمة الشخصية عقب الحرب العظمى عن «تصوف»، أو «مخلصو الله: رياضات روحية» حسب ترجمة كيمون فريار، ذلك الكتيب الذي لعله الأكثر تحديًا وقيمة بين أعماله.

لسوء الحظ، تركزت نقاشات بريفيلاكيس والمحافظين الآخرين في تلك الفترة -مثل شاعر نوبل «جورج سيفيريس»- على «يونانية» كازانتزاكيس من عدمها. في الواقع، لم يجد أحدهم مكانًا داخل الصرح الخيالي لـ«هيلينيتهم» المتعجرفة لمفكر استقدم إلى الثقافة اليونانية عدم التناسق المعماري المميز للحداثة الغربية، حيث يتجاور «تشارلز داروين» و«كارل ماركس» و«سيغموند فرويد» وفريدريك نيتشه وهنري برجسون، مع بوذا والروحانية الصوفية والقبالة اليهودية والوجودية الأولية.

لم يحتج كازانتزاكيس إلى إعادة غرس بعض هذه التيارات الفكرية في التربة اليونانية. فإلمامه الواسع بالمدارس الفكرية اليونانية، مما قبل سقراط إلى الحركة التروتسكية المعاصرة، يدل على قيامه بإحياء تيارات لا تتمتع بشعبية كبيرة وتجميعها من مسارات متغايرة، وقد تلازم ذلك مع انفتاح دائم على الآخر الثقافي، عبر تجنب الهويات الدفاعية وفوبيا تعريف الذات التي هيمنت على الإنتاج الثقافي اليوناني السائد.

لم يكن مسعى كازانتزاكيس الأدبي الرئيس هو تعريف اليونانية أو إعادة تعريفها، لا هي ولا تصور معين للهوية الوطنية. إذ دأب على التشكيك المنهجي في هويته الشخصية والأدبية؛ لم يكن يراها جوهرًا أساسيًا لوجوده بل مشروعًا مرنًا ومتغيرًا. لم تكن الهوية عند كازانتزاكيس معطىً بل إنجازًا مستقبليًا ونهائيًا يتحقق بواسطة الكتابة، إنها مسار الحياة حين يبلغ غايته. فكل ما لم تسيطر عليه ظروف نشأته، كانت الكتابة هي ما تشكله ليصبح كينونة هويته. إن مهمة الكاتب هي إعادة النظر وإعادة التصور المستمرة والدؤوبة للتقليد الموجود؛ الديني أو العلماني، كان ذلك اعتقاد كازانتزاكيس، كما كان اعتقاد عديد من الكتاب الآخرين في الحداثة الأوروبية، مثل «د. هـ. لورانس»، و«جراهام جرين»، و«فرانسوا مورياك»، و«جورج برنانوس»، و«توماس مان».

نتيجة لذلك، جاءت أعمال كازانتزاكيس مكثفة للغاية إلى درجة تكاد تكون خادعة، وغالبًا ما يُساء فهمها. فعلى الرغم من الحبكات الخلابة التي تزين أفضل رواياته، والإلهام الغزير في قصيدته المطولة، فإن مراده ليس واضحًا دائمًا. بالنسبة للمحافظين، لم يكن كازانتزاكيس يونانيًا، بل كان أحيانًا معاديًا لليونان؛ وبالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية، فقد كان ملحدًا؛ وبالنسبة للماركسيين، كان ليبراليًا مضطربًا؛ وبالنسبة لمحبي الجمال، كان مائعًا يهذي بأفكار أجنبية.

في الواقع، أبرزت مقاربتهم أحد الجوانب القوية في أعماله، وهي انتقائيته الفلسفية والجمالية. في مرحلة مبكرة من مسيرته الأدبية، كتب كازانتزاكيس نثرًا غنائيًا عاطفيًا ومبهرجًا على خطى جماليات دانونزيو، وأوسكار وايلد، وستيفان مالارميه، وحتى شارل بودلير. وقبل الاشتباك مع فلاسفة مثل نيتشه وبرجسون، وجد في «مدام بوفاري» – رائعة جوستاف فلوبير – خير تجسيد لعقيدته الفلسفية، حتى إنه كتب عنها مقالة مثيرة للاهتمام عام 1912.

قرأ كازانتزاكيس نيتشه وبرجسون بعد انتقاله إلى باريس، ثم درس «ماركس» وفرويد عندما ذهب -بعد الحرب- إلى فيينا وبرلين. سافر أيضًا في أوائل العشرينيات إلى موسكو، حيث وجد المشاعر الثورية ما تزال متأججة. لكنه سرعان ما أصابه الإحباط وخيبة الأمل في الشيوعية، ليغدو بحلول العام 1925 أحد أوائل المثقفين الأوروبيين الذين استشرفوا حقبة ما بعد الشيوعية.

برزت جميع هذه التأثيرات معًا في كتاب «تصوف». وقد بعثت ترجمة فريار الروح في اللغة الأدبية القوية الفياضة، وإن نزعت منها الدلالات اللاهوتية والميتافيزيقية العميقة التي نجدها في الأصل (وهو ما حدث في ترجمات أعماله بشكل عام). إن الطابع الهجين المتميز لهذا الكتاب هو الأمر الأكثر لفتًا للنظر؛ فهو -نصيًا- يقع بين القصيدة الغنائية، والأطروحة الفلسفية، والأدب الرؤيوي، والعقيدة اللاهوتية. وإننا في ذلك العمل المؤلف بالتزامن -تقريبًا- مع تأليف مارتن بوبر لكتاب «أنا وأنت» (1923)، ود. هـ. لورانس لكتاب «نهاية العالم» (1930)، لنلمس أصداء القلق الأخروي نفسه الذي تغلغل في الروحانية الفنية لجمهورية فايمار (ألمانيا بين عامي 1919 و1933) والتنبؤ بالانهيار الوشيك لها، وهي نفسها تلك الأجواء التي بلغت ذروتها في «الوجود والزمن» لمارتن هايدغر (1927) وفي أفلام التعبيرية السينمائية الألمانية. كتب كازانتزاكيس:

كتبت «رياضات روحية» بألمانيا في العام 1923، للتعبير عن العذاب الروحي والآمال الخاصة بدائرة من الشيوعيين الألمان والبولنديين والروس الذين كتم الإدراك المادي والمحدود والرجعي للفكرة الشيوعية أنفاسهم. فلنعتبر التدريبات الروحية أول صيحة احتجاج لعقيدة ما بعد شيوعية.

وسيظل هذا أحد البيانات التأسيسية في مسيرة كازانتزاكيس الأدبية. يبدأ الكتاب بعبارة: «نأتي من هاوية مظلمة، وننتهي في هاوية مظلمة، ونسمي المسافة المضيئة بين الهاويتين حياة». كما ينتهي الكتاب ببيان على القدر نفسه من الهيبة:

ومبارك ثلاث مرات لكل من يحمل على كتفيه من دون أن ينحني، ذلك السر العظيم المتسامي والمهيب والرهيب: حتى هذا الواحد ليس له وجود!

على طول النص المغزول على سياق «الرياضات الروحية» لإغناتيوس لويولا (من هنا جاء العنوان الإنجليزي)، يشرح كازانتزاكيس رؤية روحانية للمشاعر الداخلية للشخصية، مماثلة لما قدمه مايستر إكهارت وياكوب بومه. في هذا النص نلتقي برؤية غريبة ومتحدية للإله، لكنها رؤية ملهمة للغاية في الوقت ذاته:

إلهي ليس كلي التقديس، إنه مليء بالقسوة والعدالة المتوحشة، وهو يختار الأفضل دون رحمة. إنه مجرد من الشفقة؛ لا يكترث بالناس ولا الحيوانات، ولا بالفضائل ولا الأفكار، فهو يحب كل هذه الأشياء لبرهة ثم يحطمها ويمضي قدمًا.

تتشابه رؤية كازانتزاكيس -في كثير من الأحيان- مع رؤية سبينوزا، وأينشتاين، ووايتهيد، إذ يتحدى بشكل مباشر كل من التصوّر اليهودي-المسيحي عن السمو الإلهي والخير الخالص («إنه يلد الأشياء جميعًا، ويحبها ثم يدمرها») والتصور الإسلامي عن الإله الرحيم القدير («إن الإله في خطر، فهو ليس القدير الذي نعقد في حضرته أيدينا وننتظر النصر الأكيد. إنه ليس القدوس الذي ننتظره بثقة كي يرثى لحالنا وينقذنا»). هذه رؤية دينية فريدة في التاريخ الفكري للغرب والشرق. على الرغم من الأسلوب القاسي – والهستيري أحيانًا – تمكن كازانتزاكيس في كتابه من التعبير عن شيء سيجري مناقشته مرارًا وتكرارًا؛ ألا وهو تعريف الوجود والتفكير، أو بعبارات أخروية: «الله والمادة».

بغض النظر عن موقع كازانتزاكيس من المعتمد الأدبي، فهذا كتيب يتجاوز تعبيراته الحرفية: إنه مقالة صوفية على طريقة أعمال مثل «اللاهوت الصوفي» لـ«ديونيسيوس الزائف» الكاتب المجهول لـ«سحابة الجهل»، و«ليلة الروح المظلمة» لـ«يوحنا الصليب»، ومن العصور الحديثة، «بذور التأمل» لـ«توماس ميرتون».

إلا أن كازانتزاكيس كان على دراية بما سيثيره أسلوبه من شكوك وتحفظات. وها هو في «المسيح يصلب من جديد» -روايته الأكثر براعة- يبَسَّط رسالته إلى حد الإيجاز:

وضع «مانولي» يده فوق ركبة الأب «فوتيس»، الذي غرق في تأملاته، ولم يجب بكلمة.

سأله هامسًا:

– كيف يتعين علينا أن نحب الرب يا أبانا؟

– بأن نحب الناس، يا بني.

– وكيف يتعين علينا أن نحب الناس؟

– بأن نقودهم برفق إلى الطريق القويم.

– وأي واحد هو الطريق القويم؟

– الطريق الصاعد.

إن هذا الحوار بجمله الإهليجية (غير المكتملة) يوجز أساس عمل كازانتزاكيس، الذي نجده في «جحيم دانتي»: «لقد علمتني كيف يمكن لرجل أن يصير سرمديًا». لكن هذا يثير أسئلة حول الترجمة يجب مناقشتها في موضع آخر.

3

.

الأعمال

غلاف الطبعة الإنجليزية من الحرية أو الموت و زوربا اليوناني
غلاف الطبعة الإنجليزية من «الحرية أو الموت» (يمينًا) و«زوربا اليوناني»

كان كازانتزاكيس أحد اليونانيين القلائل الذين هجروا الثقافة المنعزلة والمنطوية لوطنهم وانضموا إلى مجموعة من الكُتاب الـ«كوزموبوليتان» والمنفيين ممن ظهروا في فترة ما بين الحربين العالميتين. كذلك، لا يبدو كازانتزاكيس متأثرًا بالحدث الأكثر إيلامًا وصدمة في العقد، أي كارثة آسيا الصغرى للعام 1922 أو كما تُعرف بـ«الحرب التركية اليونانية»، التي ظهر تأثيرها على الإنتاج الأدبي والفني العام في بلاده. يمكن رؤية ذلك في كتب رحلاته، حيث دون ملاحظاته المثيرة للاهتمام عن الثقافات المختلفة والتي هي بمثابة دليل على قدرته المذهلة على ملاحظة كل ما هو غريب، وجذب الانتباه له.

وفي ملاحظاته الأكثر تهكمًا، تلك المتعلقة بإنجلترا، لا يفوت كازنتزاكيس أي فرصة للحط من الشعب الإنجليزي المعاصر لأنه خان الصورة التي رسمها شكسبير. إذ يكتب معلقًا: «ليس ثمة نوع بشري أبعد شقة عن البطل الشكسبيري من الرجل الإنجليزي المعاصر». أما بالنسبة لسكان جزيرة الـ«بيلوبونيس» أو اليونانيين كما يشير إليهم، فلم يطرح سوى الأسئلة السلبية: «كيف تدهور بنا الحال وأصبحنا على هذه الحالة من الانحطاط؟»، ويكرر سؤاله مرارًا وتكرارًا. لتأتي إجاباته في بعض أفضل نثره: «[…] إنه الفضول كذلك، ورغبة اليوناني الشرهة في التعلم، وفي ألا يفوته شيء، وأن يمتلك كل شيء، ويتذوق كل شيء. إن مثل هذا الفضول هو أخف أشكال السرقة والقرصنة؛ تمامًا كما أن التقبيل هو أخف أشكال أكل لحوم البشر». إن اكتشافات «باتريك لي فيرمور» في كتابيه؛ «ماني» (1958) و«روميلي» (1966) مستوحاة من رؤية كازانتزاكيس غير التقليدية لوطنه الأم.

لا شك أن كازانتزاكيس كان كاتبًا متفاوت المستوى إلى حد ما: ليس بسبب لغته العامية الوعرة، أو بلاغته المتكلفة، أو أبطاله الخارقين. إن كتاباته تكشف عن أسلوب أدبي دائم التطور، أسلوب منفتح باستمرار على تغيرات وتجريبية تلك الحقبة. يمكن للقارئ أن يشعر بالتغير التدريجي في أسلوب كتابته، وفي الشكل، وصوته فيما يكتب؛ كل هذا يميز كل عمل من أعماله، والذي يتخلل كل عمل منفرد كما لو أن نهاية العمل جاءت مع استنفاد إمكاناته الكتابية.

هذا واضح في تجربتيه مع كتابة الرواية الحداثية: «تودا رابا» و«حديقة الصخور»، وقد كتب كلاهما بالفرنسية. خرجت هاتان الرواياتان في شكل أشبه بالسيناريوهات السينمائية وتمارين المونتاج اللفظي، وهما أقرب في أسلوبهما إلى «سيرجي آيزنشتاين» و«ألكسندر دوجينكو» من واقعية «د. هـ. لورنس» أو «توماس مان» أو إلى الكُتَّاب اليونانيين في تلك الفترة.

من أجل تحقيق مثل هذه «الانكتابية المفتوحة» (Open Scriptibility)، جعل كازانتزاكيس من فعل الكتابة ذاته عملية مفتوحة تتسم بالشفافية؛ لم يكتفِ في العمل باستكشاف التفاوتات الدلالية، بل ضم إليها تحولات الأسلوب أيضًا. تبدأ روايات كازانتزاكيس كمقالات مطولة، بلا حبكة أو شخصية أو تطوير للخيوط القصصية. لكن مع نهاية حياته، كان كازانتزاكيس هو الكاتب اليوناني الوحيد الذي لم يتمكن من خلق شخصية مقنعة ومكتملة مثل زوربا فحسب، بل وتمكن أيضًا من كتابة حبكة رائعة كما في «المسيح يصلب من جديد»، وقصة آسرة كما في «الحرية أو الموت»، وأخيرًا سرد شبه «أوغسطيني» عن تشكل الذاتية المتضاربة للكاتب كما في سيرته الذاتية «تقرير إلى غريكو».

عندما نتأمل التطور الذي مر به كازانتزاكيس، يمكننا تمييز صراعه المستمر الذي لا هوادة فيه مع اللغة؛ لا لغته الأم فقط، بل اللغة بشكل عام. خلال سنوات التكوين، عانى كازانتزاكيس من صدمات الحرب المستمرة في جزيرته كريت. وكما يقول، كانت الكتابة والقلم، بديلا له عن القتال والسيف. لكن نظرًا إلى ازدواجية التأثيرات التي تعرض لها كازانتزاكيس خلال نشأته، ما بين التسامي الأمومي والعنف الأبوي، فقد شعر أنه منقسم بين ميول جوهرية مثلت قطعًا تأسيسية في شخصيته. إن تلك اللحظة التي وقف فيها ذلك الأب الضخم، حاملًا مسدسه، عازمًا على قتل العائلة بأسرها، قبل وقوعها في أيدي الغوغاء الأتراك، بما أثارته في كازانتزاكيس الطفل من خوف وإكبار، مثلت تلك اللحظة الأساس الوجودي لكل كتاباته وحددت أفق عالمه الرمزي.

لطالما أكد كازانتزاكيس أن كريت لا تقع ببساطة بين أوروبا وآسيا؛ بل تقع بين أوروبا وآسيا وأفريقيا. ففي أسطورته الشخصية، تشير لفظة «البرابرة» -اسم القرية التي قدمت منها عائلته- إلى أصل إشكالي لوجوده. فكانت مهمته التوليفية، كما رآها، مشروعًا ثقافيًا جماعيًا وليس مجرد اختيار شخصي.

ثمة علاقة تربط نجاح كتب كازانتزاكيس في العالم العربي وإسرائيل، وفي الهند واليابان، بالمزيج السردي والرمزي الذي نجده في عمله، حيث يندمج التصوف اليهودي والإسلامي والهندوسي والبوذي في حيوية المادة الـ«ما-قبل-سقراطية»، إنها وحدة وجود مادية يحتفي بها عديد من المفكرين العظماء. وفي عمله الأكثر نضجًا، يجرى استكشاف إعادة توطين المقدس من الإله التجاوزي إلى الواقع المادي، والتوابع غير المتوقعة التي خلقها هذا النقل.

تتخلل أوديسة كازانتزاكيس -تلك القصيدة المستحقة للقراءة عن كثب- تمزقات، والتواءات، وتقلبات، تضفي على زخمها السردي ولغتها الأسطورية شعورًا بعدم القابلية للتنبؤ والمفاجأة. وكما هو الحال في روايات كازانتزاكيس، يبدو أنه يسيء فهم مهاراته السردية: إذ لا يفوت فرصة لإعطائنا موعظة أو أطروحة فلسفية أو خطبة لاذعة حول معتقداته مما يقوض أهدافه الخاصة ويدمرها في النهاية. إن الفن السردي أخاذ والقصة آسرة، لكن المقاطعات الطويلة، وإن كانت بحد ذاتها فواصل غنائية مثيرة للاهتمام حقًا، تصرف انتباه القارئ عن مغامرات «يوليسيس».

على سبيل المثال، تشير البداية الجامحة والقاسية للقصيدة إلى قدرته على حكي قصة رائعة:

وعندما وقف «أوديسيوس» في ساحات قصره الواسعة

وبعد أن أحاطت به جثث من أهانوه، رفع قوسه المتخم عاليًا

وسار إلى الحمام الدافئ لتنظيف جسده الملطخ بالدم.

أعد عبدان حمامه، ولكن عندما رأيا سيدهما

صرخا مرتعبين، لأن عورته وبطنه كانت مجعدة

ويقطر دم أسود ثخين من راحتيه القاتلتين…





«الأوديسة: التتمة الحديثة»، (1-6،I)

هذا استهلال عبقري مبدع، يبدأ من قلب الحدث، بحرف عطف، مانحًا القارئ إطلالة تاريخية وواضعًا القصيدة في أعقاب أوديسة هوميروس.

وتظهر القراءة المتأنية للنص الأصلي أن كازانتزاكيس أتقن الشعر بلغته اليونانية خلال عملية كتابة القصيدة: إن الـ«رابسوديات» الأولى قاسية وعدوانية وتكاد تبلغ حد الفظاظة. لكن بالكتابة وإعادة الكتابة، يتمكن كازنتزاكيس من السيطرة على القصة والحكي: إذ تعرض الرابسوديات الأخيرة غنائية درامية موحية ومثيرة، ومفعمة بالهدوء والبساطة.

تحولت جثة الرجل الذي جاب العالم إلى ضباب،

وانجرفت ببطء سفينته الثلجية وذاكرته وفاكهته وأصدقائه

بعيدًا في البحر مثل الضباب، وتبخرت مثل الندى.

ثم ذاب اللحم، وتجمدت اللمحات، وتوقف نبض القلب،

وقفز العقل العظيم إلى ذروة حريته المقدسة…





«الأوديسة: التتمة الحديثة»، (XXIV، 1387-1393)

خطط كازانتزاكيس لكتابة جزء ثانٍ من أوديسته و«فاوست» ثالثة. لكنه لم ينته أبدًا من هذه المشاريع العملاقة وإن كانت المعضلات والنهايات المسدودة للفردانية الغربية ظلت تلوح في أفقه الفكري والجمالي. وقد عالج كازنتزاكيس ذلك في رواياته، بدءًا من «زوربا اليوناني»، المكتوبة خلال الاحتلال الألماني. وإن كان بالإمكان قراءة الأوديسة باعتبارها آخر تشنجات الحرية غير المحدودة التي بشر بها الزمن الأوروبي الجميل، فإن «زوربا» أولى المرثيات الحزينة لمشاريع التجديد المنهارة.

4. المخرف

كتب كازانتزاكيس رواياته مؤمنًا بقدرتها على تغيير حياة قرائها، مقتديًا في ذلك بـ«ليو تولستوي» و«فيودور دوستويفسكي». في كتابه الرائد المعنون بـ«تاريخ الأدب الروسي» (1930)، يحدد كازانتزاكيس إشكالية الرواية -قبل زمن من دراسة «جورج ستاينر» الشهيرة- باعتبارها منقسمة إلى الرؤيتين المتضادتين للعالم اللتين تبنى كل من الكاتبين الروسيين واحدة منهما:

الشيطان في أعمال تولستوي بسيط، وطبيعي، وغير مخيف؛ يمكن للرجل القوي أن يقاتله ويصرعه. أمَّا ذلك الشيطان في أعمال دوستويفسكي فإنه قوة غامضة مبهمة لا تُقهر، فهو ليس متطابقًا مع تكويننا الجسدي فحسب، بل مع أرواحنا كذلك، ولعله متطابقًا مع الإله ذاته. إن ما يحتاجه العقل البشري هو التناغم؛ لكن الإله فوق العقل، وفوق التناغم. لعل أعمق تمايز بين تولستوي ودوستويفسكي هو ما يلي: كان تولستوي نبي هذا التناغم، بينما كان دوستويفسكي نبي هذا الإله.

كتب كازانتزاكيس الروايات التي حققت له الشهرة وأثارت حوله الجدل، مدفوعًا بهذه الرغبة العميقة في دمج تولستوي ودوستويفسكي و«إلههما». كانت «زوربا» أكثر أعمال كازانتزاكيس شعبية، وأكثرها تعرضًا لسوء الفهم. كُتبت «زوربا» تحت الاحتلال الألماني، وهي قصة داخل قصة داخل قصة، تدور كلها حول كتابة الرواية التي تدور حول كل هذه القصص. إنها محبوكة بطريقة مفرطة لدرجة أنها تبدو بلا حبكة ومجزأة. تؤطر الرواية جوًا من الذكريات المتوترة والتحمل «الرواقي» والاستسلام للحنين إلى الماضي.

تمتاز الرواية بحس السخرية الرواقي من الذات، وهو ما أعيد تأويله في الفيلم على أنه حيوية «إبيقورية». كان الكتاب، بالإضافة إلى مسرحية، آخر ما كتب كازانتزاكيس في بلاده. إذ أُجبر عام 1945 على مغادرة اليونان، ولم يعد ثانية قط. واصل كازانتزاكيس الكتابة معتبرًا نفسه منفيًا، ثم منبوذًا، وأصبح الماضي المتضخم المتذكر مهيمنًا على كتاباته في الخمسينيات. شهدت تلك الفترة عددًا من إنجازاته المذهلة، لا سيما رواياته «المسيح يصلب من جديد» (1948)، و«الحرية أو الموت» (1950)، و«الإغواء الأخير للمسيح» (1955)، وأخيرًا، عمله غير المكتمل والأشد براعة: سيرته الذاتية «تقرير إلى غريكو» (1961).

«تقرير إلى غريكو» رسالة طويلة، موجهة إلى «إل جريكو»، المثال الأسمى للفنان المنفي في العصر الحديث، الذي راح كازانتزاكيس يشعر بتطابق كامل معه تدريجيًا. في جانبه التحليلي للذات، يعد الكتاب مزيجًا من اعترافات أوغسطين وروسو، لكن في محتواه، وعلى نحو غير متوقع، فهو أقرب إلى «كلمات» جان بول سارتر، الصادرة بعده بعامين (1963)، كتب كازانتزاكيس يقول: «لم يكن الجمال غايتي من الكتابة، بل النجاة». يدمج التقرير الشعر والدراما وتقارير الصحف وكتاب أحلامه ورسائله، بهدف دمج حياة الكاتب في فعل الكتابة. وينتهي التقرير مع انتهائه من كتابه الأخير: «الأوديسة».

كتب كازانتزاكيس الروايات عندما كانت قراءتها تساهم في تقرير المصير، أو الوعي الطبقي أو الصحوة الروحية. كانت الرواية عنده هي التعبير السردي لكل بناء ذاتي وتعبير ذاتي حداثي، وهو تصور يعود إلى مبتكر الرواية الحديثة، وأحد أبطال كازانتزاكيس الأدبيين: «دون كيخوته» للإسباني «ميغيل ثيربانتس». على الرغم من أن روايات كازانتزاكيس كُتبت قبل تحويل الرواية إلى سرد متشرذم، فقد استوعب القلق السردي والتحول تجاه أشكال كتابة معادية للسرد.

هكذا يسري في رواياته خصومة متوترة بين الراوي والسرد ذاته، بين صوت واحد ومتوحد، وصوت متطور متعدد البؤر. من يكون الراوي في «زوربا» أو في «الحرية أو الموت» أو في «المسيح يصلب من جديد»؟ تُظهر القراءة الدقيقة عددًا من الأصوات السردية تتقارب جميعها على الصفحة حيث يحافظ كل منها على وظيفة مختلفة داخل الحبكة ولها أهمية مختلفة داخل القصة.

الراوي في «الحرية أو الموت»، على سبيل المثال، هو كازانتزاكيس الطفل، مما يعني أنه يكتب عن نفسه باعتباره طفلًا يتذكر أحداثًا لم يعايشها بعد. ومن خلال هذه الخطوط المعقدة، ينتقل السرد من مكان إلى آخر، ويسجل لقطات لكل شيء أمامه: الحب بين المجذومين في جزيرة منعزلة، اجتماع رجل وامرأة في فيينا، انتقال نحلة عسل بين رؤوس صلعاء، ذكريات شوارع النار في مكة من قبل رجل تغير جنسه بعد أن اختبر الحضور الإلهي، الشبح الإكتوبلازمي للجد الذي يلكم بعنف زوجة ابن الكابتن «ميخايليس» اليهودية كي يجهض جنينهما التجديفي. إن التعددية السردية في هذه الرواية مذهلة حقًا، وهي تذكرنا بـ«الحرب والسلام» لتولستوي، و«إلياذة» هوميروس. تظهر الأصوات السردية من كل مكان حتى من الجوامد والحيوانات العجماء، في تجريب مذهل مع حدود التواصل اللفظي.

مع ذلك، كان التجريب مع اللغة مجرد جانب من الجوانب المركزية لمسيرته. إن سؤال ميتافيزيقيته الجمالية والروحية الرئيسي، الذي أثاره باستمرار على مدار أعماله، هو ما يمنح الوحدة لهذا العالم المكون من التجارب غير المتكافئة والنماذج المتناقضة. وبالفعل، كان الخيط المجمع الوحيد في «الحرية أو الموت» هو التجانس اللغوي، و«دورسية» كازانتزاكيس، والجفاء واللغة المتناقضة. ويمكن استشعار هذا التوق لإرساء الوحدة في جميع أعماله.

لعل أكثر مشاريع مسيرة كازانتزاكيس الأدبية جرأة وخللًا هو محاولة تدوين أسطورة جديدة للذات في عصر الأساطير المتهاوية. لقد فشل كازانتزاكيس ونجح في آن واحد في تقديم قصص جديدة عن الذات في لحظة أُعلن فيها عن موت المؤلف وسيادة الكتابة. لكنه لم يكن يملك الوقت لمثل هذه التمييزات المتطرفة. يقول في سيرته الذاتية: «[…] كنت أقوم باختيار الكلمات لتصبح فخاخًا، وأضعها بكل ما لدي من مكر، حتى أتمكن من الإمساك بتلك الصرخة التي لا يمكن الإمساك بها، والتي ظلت تركض أمامي وتسبقني».

يقدم كازانتزاكيس في رواياته شخصيات ذكورية عدوانية تلتهم وتقتل كل الوجود الأنثوي الذي يعركل مؤامراتها الشهوانية الذكورية. تُذبح جميع النساء ويُبدن في رواياته، مما جعل عديدا من القراء يشتبهون في كراهيته للنساء. لكن التفسير الآخر هو أنه يصور اغتيال العواطف التي تعتبر أنثوية داخل المجتمع الأبوي، أي التعاطف والمودة والحنان بالتحديد.

في حين يبدو أن النضال الوطني هو موضوع «الحرية أو الموت»، فإن الديناميكية النفسية للرواية هي عن رومانسية مثلية خبيئة، وعن انهيار النظام الأبوي، وعن ظهور بُعد جديد للميل الاجتماعي الذكوري. ينهار العالم كله في اللحظة التي يدرك فيها يوناني وتركي انجذابهما الجنسي فيقتلان جميع النساء لأنه لا يحق لهما اشتهاء بعضهما. في مسرحية «كورس»، إحدى أكثر مسرحياته إهمالًا نقديًا، يشكل المينوتور تمثيلًا رمزيًا للرغبة الجنسية المثلية: الإنسان والوحش يتضاجعان ويظهر مخلوق جديد، «مراهق ذكر نموذجي» (Ephebe): الرغبة المثلية النقية في الاجتماع الذكري (Male Reunion) مثلما ورد في «مأدبة» أفلاطون.

روايات كازانتزاكيس، مثل روايات نجيب محفوظ، و«ف. س. نيبول»، و«نادين جورديمر»، و«الطاهر بن جولون»، و«ج. م. كوتزي»، و«عاموس عوز»، تستكشف ظهور الزمانية الحديثة داخل المجتمعات التقليدية والتوترات والصراعات والآمال التي نشأت في مثل هذه المواقف الانتقالية الحدية. في «كريستوفر كولومبوس»، يحدد كازانتزاكيس الحالة الموقعية الانتقالية الخاصة به في الأبيات التالية:

ربما لا يتواجد إلا شيئان منفصلان

متمايزان تمامًا، في العالم؟

الحق والباطل؟

أو ربما هناك شيء آخر أيضًا

يتدفق وجهه مثل الماء،

يتدفق ويعيد تشكيل نفسه

وما عاد باطلًا ولا غدا حقًا بعد؟

لا أعرف كيف أقدمه،

لا أعرف اسمًا له…

لا وجود له…

لا وجود له، أيها العجوز، إنه صيرورة…

كان تنقيب كازانتزاكيس الأدبي والفلسفي يدور بالتحديد حول هذه الصيرورة الـ«مفتقرة للتسمية»، أو قل «التي لا يمكن تسميتها»، كان يدور حول الذاتية المعاصرة متعددة البؤر، المائعة والسائلة، بما يتجاوز التحديدات الوطنية والاجتماعية والنفسية. لكن السؤال هو: أي نوع من الوجود أو النظرية التي تناقش مثل هذا الوجود قد نمتلكهما –وهذا سؤال لا نملك إجابة له. لقد دفع كازانتزاكيس اللغة إلى أقصى حدودها في محاولته لتسمية التدفق غير المتوقع للتاريخ والطابع غير المحدد لموضوعه، لكنه فشل في إنتاج الاسم أو الرمز الذي يمكِّنه من أن «[…] يجد أسلوبًا جديدًا أكثر قساوة وثراءً للتعبير عن الحياة الحديثة». وفي ذلك الفشل تكمن أهمية ونبل كتاباته، المتربصة في منتصف الطريق بين يقين الرواية التقليدية وشكوك ما بعد الحداثة.

نحن نحتاج في الأغلب إلى إعادة تقييم أعمال نيكوس كازانتزاكيس، بناءً على ترجمات جديدة. سيسمح ذلك للأجيال الجديدة من القراء بإدراك أهميته ككاتب عالمي. وإن شفافية أسلوبه الكتابي ووضوحه ليستحقان هذا الاهتمام.