ذهب «Olivier Roy» بعد أحداث 11 سبتمبر إلى القول بأن الإسلام السياسي قد دفن تحت ركام مبنى مركز التجارة العالمي، وكذلك في كتابه «مسار الإسلام السياسي» ذهب «جيل كيبل» إلى القول بأن أحداث سبتمبر من شأنها الوصول إلى انتهاء ظاهرة الإسلام السياسي، من ناحية أخرى ظهر اتجاه آخر انطلق من نفس معطيات الفريق الأول ولكنه وصل لنتيجة معاكسة وهي التمسك أكثر من قِبَل الجماعات الإسلاموية للوصول إلى فكرتهم الرئيسية وهي إقامة دولة إسلامية في مواجهة العالم الكافر طبقا للعقل السياسي لتلك الجماعات.

الواقع يشير إلى أن التعاملات الأمنية وردود الأفعال حول العمليات الإرهابية لا تفيد في القضاء عليها بقدر ما يفيد في تغيير تلك التنظيمات من أهدافها وإستراتيجياتها وطرق تنفيذها للعمليات في المراحل التالية، وعليه نحاول التعرف على أسباب لجوء التنظيمات الإرهابية إلى تغيير أهدافها وإستراتيجياتها والتوقيت الأنسب للقيام بذلك، حيث إن فهم أهداف العدو هو الوسيلة الأسلم والأدق لردعه.


متى؟ ولماذا تلجأ التنظيمات الإرهابية إلى تغيير إستراتيجياتها؟

تفسر الفيزياء السياسية استمرار تلك التنظيمات وتغييرها لإستراتيجياتها وأهدافها طبقا للقانون الفيزيائي «

إن تأثير قوة أو مجموعة قوى على جسم ما تكسبه تسارعا يتناسب مع مجموع القوى المؤثرة فيه»



والقانون الآخر

«


لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة، ومضاد له في الاتجاه

»

،

وعليه فإن فهم أسباب التغير في أهداف التنظيمات الإرهابية وتوقيته يرتبط بمجموعة من العوامل فقد تلجأ بعض المنظمات الإرهابية إلى التحول إلى فاعل سياسي ونبذ العنف في بعض المراحل، وكذلك قد تغير من أساليب العمليات التي تقوم بها وفقا لمجموعة من القوى المؤثرة.

هناك أيضا تفسيرا آخر للتغير في إستراتيجيات وأهداف تلك الجماعات، وهو ما يعرف باسم «وعاء السببية»، ونعني بهذا اللفظ أن كل تغير أو تحول يعود لسبب واحد ظاهريا ولكنه يحتوي على مجموعة من الأسباب تمزج بداخلها لتخرج لنا نهاية ذلك السبب الرئيسي، وهنا تحدث المشكلة حيث أن المتعامل مع تلك التنظيمات ينظر إلى السبب الظاهري ويبني عليه طرق ووسائل تعامله معها وتستغل تلك التنظيمات السبب الظاهري في اتخاذ ردود الأفعال لتخرج في النهاية بصورة غير تلك المتوقعة والمحسوبة من قبل المواجهين وعليه تظهر عملياتها من وقت لآخر بصورة مختلفة عما سبق.


أولا: النظام السياسي في دول المنبع والدعم

يلعب النظام السياسي في الدول منبع التنظيمات الإرهابية وتلك المصدرة للمقاتلين والممولة للتنظيمات عاملا هاما في تغيير إستراتيجيات وأهداف تلك التنظيمات، ففي رسائل أبوت آباد التي عثر عليها في منزل أسامة بن لادن ليلة اغتياله وتحديدا في الرسالة الـ 19 قال نصا: «إ

ن معظم الناس في اليمن إن خُيروا بين حكومة تشكلها القاعدة أو حكومة تشكلها أي دولة من دول الخليج بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فسيختاروا الحكومة التي تشكلها دول الخليج سواء في الجنوب أو الشمال لسبب بسيط وهو أنهم يعتقدون أن هذه الحكومات مسلمة ولديها القدرة على توفير ضروريات معاشهم وهذا هو مطلب الناس؛ أن تجتمع لهم أمور دينهم ودنياهم»،

وعليه بعد تنظيم القاعدة عن اتخاذ اليمن كنقطة انطلاق للدولة الإسلامية بفكر القاعدة.


فإذا تمكن النظام السياسي من إشباع حاجات المواطنين الأساسية بحد أدنى، إلى جانب توفير مساحة من الحرية للقوى المعارضة فإنه يقلل من إمكانية زيادة قدرات تلك التنظيمات الإرهابية مما يشكل عاملا هاما في تغيير إستراتيجياتها نحو السكون شيئا ما، كما حدث في مراحل متعددة بمنظمة إيتا ETA الأسبانية، والعكس صحيح فزيادة الاستبداد والقمع وتفشي الفقر في المجتمع يسهل عملية التجنيد داخل التنظيمات الإرهابية ويعطي مبررا قوي لتلك التنظيمات لاستدراج المجندين ودفعهم بدافع الشهادة نحو القيام بعمليات إرهابية.



يلعب النظام السياسي دورا هام في تغيير إستراتيجيات التنظيمات الإرهابية عن طريق مدى سد إحتياجات المواطنين واحترام حقوق الإنسان


ثانيا: الرأي العام والتناول الإعلامي

يؤثر توجه الرأي بصورة أو بأخرى على تحركات وإستراتيجيات التنظيمات الإرهابية، حيث أن التعاطف مع أو النفور من تلك المنظمات وتابعيها يؤثر على شكل العمليات الإرهابية وأهدافها.

وتدرك التنظيمات الإرهابية ذلك جيدا حيث أنهم يستهدفون بالأساس كسب تعاطف عوام المسلمين والشباب خاصة معهم، وهذا ما يدفع قيادات التنظيمات الإرهابية إلى نبذ القيام بعمليات اغتيال وسط أماكن تجمعات المسلمين حتى يقلل من احتمالية قتل أو إصابة مسلم بتلك العمليات، الأمر الذي من شأنه إفقادهم تعاطف المسلمين معهم، ولذلك أيضا تبتعد التنظيمات الإرهابية عن قتل من لا يرى العامة شرعية في قتلهم؛ كما حدث من استنكار من قبل ابن لادن لمحاولة اغتيال الجنرال محمد بن يوسف رئيس الأركان الباكستاني السابق وعبد الرشيد دستم زعيم أحد الفصائل المقاتلة بأفغانستان، من ناحية أخرى تنفيذ العمليات الإرهابية من قبل التنظيمات في الدول الإسلامية غير الواقعة تحت الاحتلال مباشرة يؤثر بصورة مباشرة في فقدان التعاطف من قبل المسلمين وهذا ما يمثل فارقا بين كلا من تنظيم القاعدة وداعش.


أما من ناحية الحديث حول التناول الإعلامي للعمليات الإرهابية فقد أشار Walter Laqueur «

الإرهاب بمفرده لا شيء، ولكن نشره عبر وسائل الإعلام هو كل شيء»،

وعليه فإنه لا نجاح لعملية إرهابية دون تغطية إعلامية واسعة لها، وهنا فإن تأثير التناول الإعلامي يظهر بصورة كبيرة في نوعية وشكل العمليات، حيث أن وسائل الإعلام المختلفة تتسارع وتتكالب نحو تغطية العمليات الإرهابية التي تقع بأماكن التجمعات بصورة أكبر من تلك التي تستهدف سفارة على سبيل المثال، ذلك من ناحية ومن ناحية أخرى التناول الإعلامي لتفجير إرهابي بدولة متقدمة وأخرى نامية، ولعل أبرز مثال على ذلك: التغطية لتفجيرات باريس مقارنة بالتغطية لتفجيرات مالي والفارق الزمني بينهما سبعة أيام ليس إلا.



التغطية الإعلامية لها دورٌ كبير في تحديد نوع وشكل العمليات الإرهابية لما تحظى به من تغطية


ثالثا: موقع الدين في المتخيل السياسي للمكافحين

يستغل كل طرف الدين في محاربة الآخر، فالتنظيمات الإرهابية تستند للإسلام في الخروج على الحكام وتنفيذ التفجيرات والعمليات المسلحة ولديهم من الفتاوى ما يكفى لتبرير ذلك وإقناع فئة كبيرة، وعلى النقيض تستند الأنظمة إلى الدين وسماحته لنبذ التنظيمات الإرهابية ولديهم أيضًا من الفتاوى ما يكفى لذلك، والواقع يشير إلى أنه ليس بالجديد الحديث عن استغلال التنظيمات الإرهابية للدين ولكن هنا نتحدث عن تناول المكافحين للدين كوسيلة لتحجيم تلك التنظيمات.


تركيز المكافحين على نشر رسالة «

الإرهاب لا دين له»

تدفع التنظيمات الإرهابية إلى مراجعة العمليات التي تقوم بها من وقت لآخر خاصة فيما يتعلق بقتل المسلمين سواء عمدا أو بالخطأ -وإن كان لدى بعضهم مبرر شرعي وهمي للقيام بذلك- ومحاولة إصباغ تلك الأفعال بثوب الدين والبعد عنها حالما تكون المبررات التي يضعها المكافحون مقنعة وأكثر تأثيرا على العوام، وهذا ما يعرف شرعيا بعقيدة «التترس»، حيث توجد العديد من الآيات القرآنية التي تنهى عن قتل المسلمين بغير حق، ولكن بعض من تلك الآيات يعطي لتلك التنظيمات مبررا شيئا ما لقتلهم المسلمين ومنها «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً» النساء 92، التناول لتلك العقيدة سواء تناول واعيا أو غير ذلك من قبل المكافحين يساعد على تغيير أهداف التنظيمات الإرهابية من وقت لآخر حتى لا ينبذوا من قبل المتعاطفين معهم.



تأكيد المكافحين على أن الإرهاب لا دين له يدفع تلك التنظيمات إلى تبني قواعد فقهية مبررة لتلك العمليات التي يقومون بها


رابعا: قتل الدول المناهضة للإرهاب للمدنيين

يتسم العقل السياسي للتنظيمات الإرهابية بالعديد من المبادئ الأساسية ما يهمنا منها هنا هو «

استغلال الظروف»

، «

التوحد بالمعتدي»،

في الواقع طبيعة تواجد وإقامة أعضاء التنظيمات الإرهابية تتيح احتمالية قتل المدنيين بالخطأ، وعليه يأتي دور مبدأ استغلال الظروف الذي تتخذ منه التنظيمات الإرهابية مبررا للقصاص واستحضار مبدأ التوحد بالمعتدي وتقوم بتوجيه ضرباته ضد المدنيين من الدول المواجهة.