مرة أخرى تطل علينا حكاية من حكايات الاغتراب والهجرة التي طالما كانت معينًا لا ينضب للكثير من الكتاب والروائيين يستكشفون من خلاله الآخر من جهة، ويبحثون فيه عن أنفسهم وذواتهم من جهة أخرى، ولا شك أن أعمالاً مثل «قنديل أم هاشم» لـيحيى حقي، أو «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«الحب في المنفى» لبهاء طاهر تبقى كلها أعمالاً حاضرة في الذهن كلمّا استلهم أحد الروائيين تلك الفكرة أو دار حولها لتقديمها بشكل جديد.

في روايتها الأولى «نسكافيه مع الشريف الرضي» تقدّم المترجمة والروائية العراقية «ميّادة خليل» رؤية جديدة للعالم من خلال أبطال روايتها الذين اختارتهم بعناية لكي يعكسوا تمثيلاً تاريخيًا للعراق ومنه يصورون العالم عبر سلسلة من المآسي المتلاحقة التي لحقت بهذا الشعب حتى غدا المنفى وطنه الاختياري، وأصبحت الهجرة أمرًا مسلمًا به.

هي حكاية أخرى من حكايات المأساة العراقية، ولكن بتحويلها إلى صيغةٍ عامة إن صحت التسمية ـ مجسدة في شخصية «آمنة» العجوز الخمسينية، التي يمضي بها العمر فجأة دون أن تحقق أيًا مما كانت تتمناه أو تحلم به، لتجد نفسها وجهًا لوجهٍ مع ماضيها وذكرياتها وحياتها، بمجرد وفاة جارها الهولندي «ديفيد» الذي تفاجأ بوجود آثارٍ عربية في شقته، لاسيما ديوان «الشريف الرضي» الذي حمل في فترة من الفترات جزءًا من ذكرياتها.

ديفيد أيضًا ذلك الرجل الغربي الذي يقع في غرام «سلمى» العراقية وتغيّر له حياته وتقلبها رأسًا على عقب، ويتزوجها وتحلم بأن تحصل على طفلٍ منه، لكن حلمها لا يتحقق وتصاب بسرطان الرحم الذي يودي بحياتها، فتنتهي حياة ديفيد أيضًا ويقرر أن ينتحر.

بين وفاة «سلمى» وبقاء قبرها في «هولندا» وانتحار «ديفيد»، تفكّر «آمنة» فيما سيكون عليه مصيرها، بعد أن استنفدت كل محاولات الحياة، وبعد أن أصبحت الحياة بالنسبة لها دون أي أمل، إذ بها تقرر أخيرًا العودة لوطنها «العراق» فهو المكان الذي تحب أن تموت فيه رغم كل ما يحدث.

اقرأ أيضًا:

فهرس .. قراءة جديدة للمأساة

ربما بدا عنوان الرواية مخاتلاً هذه المرة، فنحن لسنا إزاء روايةٍ تستحضر سيرة أو حكاية للشاعر العربي الكبير «الشريف الرضي» المعروف بشعره في الفخر والغزل، وهو شاعرٌ عباسي عراقي، ولكنه يحضر هنا على خلفية الأحداث، ربما أخذت منه «ميّادة» شعره الذي تناول الفراق تحديدًا، ولذا يحضر ديوانه وعددًا من أبيات شعره فقط، فلا تحكي عنه ولا تتشابك معه بأي طريقه، بل تمضي الحكاية بين الشخصيتين الرئيسيتين وما يتعلق بهما واقعية ومعاصرة فحسب.

يبدو في الرواية حرص الكاتبة الشديد على التكثيف، وعلى تقديم مشاهد تحكي نفسيات شخصياتها بأقل قدر ممكن من الكلمات، فعلى الرغم من قصر المساحة السردية الممنوحة لكل بطلٍ من أبطال العمل إلا أن القارئ يخرج وقد تعرّف على كل شخصيّة منهم بالقدر الكافي، بل وتبقى «آمنة» نموذجًا لامرأة عربية قل أن نجد نظيرها في الروايات العربية.

أتوقف كثيرًا عند رقم عمري، خمسين عامًا. ليس في حياتي ما يثير الدهشة، لم أفعل شيئًا، لم أكن جيدة في شيء، لم أكن بنتًا جيدة (ما أعرف شنو فايدتك) كانت تردد أمي، ولا طالبة شاطرة (شوفي هدى طلعت الأولى) أبي، لست جميلة حتى أو متوسطة الجمال (هذي الخلقة منو ياخذها) علاء، ولا امرأة ذكية لبقة، ولا زوجة صالحة.. لم أفعل شيئًا في حياتي سوى انتظار أن تحدث صدفة في حياتي، وأحاول أن أبدو مثل الآخرين، وحتى في هذا كنت فاشلة!

في اللحظة التي تحدث الصدفة في حياة «آمنة» تجد نفسها، بعد أن تراجع حياتها، تقرر فجأة العودة لموطنها، لكي تموت هناك.

وهكذا بين حكاية «آمنة» و«ديفيد» يستكشف القارئ أن الأمر ليس متعلقًا بتلك الحكايات التي يمكن أن تكون عابرة ومعتادة، ولكنها تتعلّق أكثر بالإنسان بشكلٍ أعم، ببحثه الدائب عن الحياة، بالحروب التي تغيّر ملامح العالم وتقلب الدنيا رأسًا على عقب، وتضيّع الأحلام، ولعل هذا ما حرصت عليه «ميّادة خليل» طوال الرواية، إذ وجدناها لا تلجأ للسرد التقليدي الذي يأخذ حكاية كل بطلٍ من بدايتها متتبعًا ظروف النشأة والميلاد حتى تصل إلى اللحظة الراهنة، وليست الرواية أيضًا علاقة حبٍ ربطت بين مهاجرةٍ ورجل غربي، كما قد يبدو للقارئ منذ السطور الأولى بل على العكس من ذلك كله بدأت كلتا الحكايتين من النهاية، وتقاطعت بطريقة مختلفة تمامًا ثم جاءت تفاصيل حياة كلٍ منهما تباعًا.

رغم ورود الحرب في الرواية، والمعتقلات التي يموت فيها الأفراد، وهروب العراقيين من الحكم الغاشم ومن قبضة الظلم في بلادهم، إلا أن الكاتبة لم تتوقّف كثيرًا عند هذا كله، ولم تُغرق النص في «ميلودرامية» حكايات عن القهر والتعذيب التي ربما اعتدناها من الروايات التي تتناول هذا الموضوع كثيرًا، ولكنها تعبر من خلالها إلى الفكرة الإنسانية الأعم، وتطرح الموضوع طرحًا مختلفًا، واستطاعت أن توزّع تلك الحكايات بين «آمنة» التي تستعيد ماضيها، وبين «ديفيد» وهو يحكي عن زوجته «سلمى» العراقية التي تعود إليه بحكايات بغداد المؤلمة.

مشاعر الغربة التي تشعر بها «آمنة» أيضًا بعد عودتها للمرة الأولى من هولندا سيطرت عليها أثناء زيارتها للعراق، وطرحتها الرواية هذه المرة طرحًا مختلفًا، فلم تعد «الغربة» مقتصرة على البعد المادي عن الوطن، والحنين الذي يدفعنا للعودة إليه كل مرة، بل ثم غربة أخرى بين الأهل والأقارب تكون هي الأقسى والأشد وطأة، تتغلّب «آمنة» على تلك المشاعر كلها حينما تقرر أنها ستموت في العراق.

رحلتي الشاقة الأخيرة إلى العراق كنت أشعر فيها بألمٍ مضاعف، موت إبراهيم وغربتي بين أهلي، رأيت الجميع من حولي كأنهم أناسٌ آخرون لا أعرفهم، أراهم لأول مرة، لقد تغيّر أهلي كثيرًا، طباعهم، تفكيرهم كلامهم، أو ربما أنا من تغيّرت كما قالت لي سعاد، شعرت بغربةٍ حقيقية بينهم، غربة أكبر من غربتي في هولندا وأنا بعيدةٌ عنهم آلاف الأميال، لم أجرؤ على قول ذلك حتى لسعاد، ولا لأولادي، لأنه شعورٌ غريب جدًا مؤلمٌ ومخجل ..لكن هذه المرة الأمر مختلف، أنا من يريد الذهاب إلى العراق، أنا قررت ذلك، شيء ما دفعني لذلك، ربما حياة ديفيد فتحت لي أبواب الماضي الذي لا أخافه بعد الآن، بل صرت أبحث فيه ..

قسّمت الرواية التي تعد قصيرة نسبيًا (110 صفحات) إلى خمسة وأربعين فصلاً توزّعت بين «آمنة» و«ديفيد»، ربما يؤخذ على الكاتبة أنها لم تحدد في بداية كل فصل من المتحدث فيه، ولكن القارئ يتعرّف عليه بمجرد قراءة بعض التفاصيل الخاصة بكل شخصيةٍ على حدة، واتبعت في سردها تقنية «تيار الوعي» التي تقوم على استخدام ضمير المتكلم والتداعي الحر للأفكار والذكريات لكل شخصية مما يجعل القارئ متماهيًا مع الحكاية وأبطالها، قادرًا على التعاطف معهم والدخول إلى عالمهم، وهو ما نجحت فيه «ميادة خليل» بشكلٍ كبير.

الرواية صادرة عن «منشورات المتوسط» بإيطاليا، وتجدر الإشارة إلى أن «ميادة خليل» مترجمة وروائية عراقية، سبق وترجمت لأورهان باموق كتابه «الروائي الساذج والحسّاس»، كما صدر لها عن دار المتوسط رواية «العميل السري» لجوزيف كونراد، و«امرأة في برلين» وغيرها من الأعمال.