بدأ انقلاب 1952ـ، وفتحت آمال جديدة أمام الطبقات الشعبية في انتهاء أزمة مصر السياسية، وحل أزمة الاستعمار والفقر، والاستقرار السياسي والدستوري. ومن أهم ما طرحه قائد الانقلاب؛ العدل الاجتماعي. وهو ما أدى إلى تأييد شعبي واسع حولها من انقلاب إلى ثورة (كلقب يطلقه عامة الناس على تلك العملية). المثقفون لم يبعدوا كثيرًا، واتخذو مواقف متباينة، من بينهم «نجيب محفوظ» الذي قرر التوقف عن الكتابة!.


مابعد ثورة 1919

يبدو أن ثورة 1919 وخمودها جعلت الانتقادات تتزايد عند «نجيب محفوظ» لليبراليين المصريين الذين ضاعوا، سواء في مهادنة الإنجليز، أو الانضمام للحكومات الفاسدة للمحافظة على اقتصادهم. لم تتحقق الحرية التي كانت تريدها مصر من وجهة نظر «محفوظ»، فوجه انتقادات لاذعة من خلال شخصيات رواياته. ربما القاهرة الجديدة خير معبر عن هذه الأزمة؛ «محجوب عبد الدايم» هو ناتج الانحلال، وبيع النفس، وانعدام المعنى، وانعدام العدل.



انحاز «نجيب محفوظ» للمثقف اليساري والماركسيين، وبدأ يصف أحلامهم نحو المجتمع العادل، وأن العدل يجب أن يكون ماديًا لا يخلو من روح أو من متعال.

ربما القاهرة الجديدة صرخة من نجيب لمحاولة إنقاذ «محجوب عبد الدايم» الممكنة، ومحاولة إنقاذ المجتمع كله الذي يسير في مسار عبثي ما بين فقدان العدل الاجتماعي، والحرية، إضافة إلى الاحتلال؛ وتصاعد مشكلات الفقر والتعليم والصراعات الدستورية والسياسية.

ربما يكون «نجيب محفوظ» تعلق بأحلام الشباب الذي رأى في الماركسية ملاذًا، وفي التنظيمات السرية غير المعلنة خير مقاومة بعيدًا عن الصراع الدستوري والسياسي. انحاز لهم برغم اعتراضه على ماديتهم المفرطة.

ربما يرى «نجيب محفوظ» أن العدل يجب أن يكون ماديًا لا يخلو من روح، أو لا يخلو من متعال. لاشك أن «نجيب محفوظ» حُسب على اليسار في هذه الفترة، بالتأكيد ليس بشكلٍ كامل، لكنه بشكل كبير. قام الانقلاب، واعتزل «نجيب محفوظ» الكتابة وأنهى مسيرته، كما تصور، بـالثلاثية، وأوقف العديد من المشاريع الروائية في انتظار العدل الاجتماعي والحرية أن تتحقق بعد ثورة 52.


أولاد حارتنا: عودة الهزيمة

بعد انتظار تحقيق العدل والتوقف عن الكتابة، عاد «نجيب محفوظ» برواية تحمل اسم «أولاد حارتنا». نشرت الرواية في الأهرام. وما تلا نشرها من محاولة لوقفها انتهى ربما باتفاق ضمني بين «هيكل، وعبد الناصر» بأن لا يجتمع الأزهر ليقر رفضها قبل أن تنشر كاملة في الأهرام. ربما هذه من حسنات هيكل في هذه المرحلة.



في روايته هذه -أولاد حارتنا-، يرى «نجيب محفوظ» أنه لا حل لأزمة مصر إلا بالتخلص من النظّار والأوصياء على الشعب، وأن يخوض الشعب معركته ضد الجهل الذى يساعد على بقائهم في السيطرة

أدارت الدولة وخصوصًا جناحها الديني الأزهر حملة ضد الرواية وصلت لتكفير «محفوظ»!. ربما هذه الحملة تبدو دينية، ولكن أغلب الظن أن المخابرات العامة كانت تحسبها كحرب سياسية.

تأكيدات على أن «نجيب محفوظ» كاد أن يقبض عليه، ثم غير القرار في آخر لحظة. ما تم هو استدعاء في المخابرات العامة بحضور شخص غريب أثناء استجواب «نجيب»، تبين حينها أنه مدير المخابرات العامة الأشهر والأكثر جبروتا وبطشا في تاريخ مصر الحديث «صلاح نصر».

أولاد حارتنا هي ترميز مزدوج، حيث هناك رمز يرمز لشيءٍ آخر. الرواية مقتبسة من القصص «الإبراهيمي، الجبلاوي» الذي يمتلك كل شيء يلعن ابنه، ويطرد ابنه الآخر، هكذا يبدأ الصراع التاريخي. أحفاد «الجبلاوي» يولدون خارج بيته، بعضهم يفتري على بعض، النظّار يسيطرون على الثروة والعيشة الهنية هم وأتباعهم من الفتوات، وينتشر الفقر والجهل والخرافة بين عامة الناس.

يأتي في مراحل تاريخية متعاقبة ثلاثة من الشجعان المبشرين محاولين إصلاح المايل وتحقيق العدل. ولكن ينجحون نجاحًا مؤقتا ثم يفشل مسعاهم، إلى أن أتى عرفة الذي حارب الخرافة وحاول الوصول لـ«الجبلاوي» فقتله، ثم حاول إحياءه.

ربما أهم ما علمه عرفة للناس هو أن الصراع صراعهم ضد الجهل والخرافة والمسيطرين عليهم من نظار. الرواية تتحدث عن العدل المفقود؛ العدل الذي أمل «نجيب محفوظ» أن يحققه انقلاب 52، لكنه لم يحدث. عاد النظّار للجلوس مرة أخرى على مقاعد السلطة والسيطرة. لم يرضَ قادة الانقلاب عن تمثيلهم بالنظار بكل تأكيد، وهو ما أدى إلى محاربة الرواية منهم.

ربما «عرفة» هو من توصل لمعرفة ما يحتاجه الناس حقًا. أن يقاوموا الظلم والخرافة بأنفسم، ليس بانتظار ممثلين لهم أو أنبياء، أو بانتظار «الجبلاوي» للتدخل. نهاية الرواية تمثل رؤية «نجيب» لأهمية العلم والاعتماد عليه، ونبذ الخرافة والتواكل على الخالق. وبرغم قتل «الجبلاوي»، لكنه يرى أنه يجب أن يكون متواجدًا دائمًا. هو الروح التي ستنقذ الجميع من السقوط في المادية المفرطة.


الكرنك: قتل المقاومة والحلم

مر تناول «نجيب» للعلاقة بين المثقف بالسلطة الناصرية بثلاث مراحل: المرحلة الأولى؛ هي رواية «الكرنك»، وهي المرحلة التي كانت روح الحركة تملأ الشباب، روح التغيير للأفضل، عمل شيء. عندما كانت هناك ما تسمى بـ«الأحلام السياسية». ومن جهة أخرى، السلطة وهي تقلب هذه الأحلام إلى كابوس. تواجه السلطة شخصًا مصابًا بجرح عميق تريد قتله نهائيًا. تريده أن يفقد روحه لتبقى هي!.



رواية «الكرنك» تحكي قصة اعتقال شباب ذوي ميول مختلفة بتهم مختلفة؛ ذات مرة بتهمة الشيوعية، وأخرى بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين، ثم بعد ذلك يقال أنهم قبضوا عليهم بالخطأ!.

هذه الفترة هي فترة تكون الأساطير؛ الفترة التي أرادت السلطة فيها تكوين وحش في خيال كل مواطن. هناك وحش يراقبك في كل مكان في كل شيء، سيفتك بك بمجرد الهمس بكلمات في السياسة. السياسة محرمة ليس فقط لحظات التجمع بل في لحظات الخُلوة: (الحيطان لها ودان) (المخابرات بتركب سماعات في اللمض)، كلها أساطير شعبية تكونت بفضل حوادث اختفاء مواطنين من أعمار مختلفة وأيدلوجيات مختلفة، ثم عودة بعضهم جسدًا بلا روح، والبعض الآخر لا يعود أصلًا، وتتهامس الأصوات بأنه قتل أثناء التعذيب.

ليس قتل الأحلام فقط بالقبض على السياسين أو من لهم رأي أو حتى نشاط اجتماعي، بل يجب أن يحيط بذلك حوادث اعتقال وقتل عشوائي بالخطأ. كلها أشياء عبر عنها نجيب محفوظ، والمرحلة الأولى في رواية «الكرنك»، التي تتحدث عن كابوس حدث في الماضي، وما زال يحدث حتى الآن!.


ثرثرة فوق النيل: فقدان المعنى والاتجاه للعدم



في رواية «ثرثرة فوق النيل»، تجد بعض المثقفين الذين نجوا من مواجهة الدولة لروح التغيير يجلسون في عوامة على النيل يشربون الخمور والمخدرات. أصبحت هي حياتهم: تلك الجلسات والكيف والثرثرة فوق النيل.

المرحلة الثانية هي مرحلة الشعور بالهزيمة وفقدان المعنى. فقدان المعنى في أي شيء، معنى النضال من أجل حياة أفضل. معنى سنوات العمر الضائعة في أحلام مجهولة، معنى العبادة، معنى اللامعنى ذاته.

في ذلك المكان الخفي يجلس «أنيس» أكثرهم عدمية. يكره كل شيء، أو بمعنى أصح، لا يعي كل شيء إلا كيف يشرب المخدرات والخمور. الدائرة العدمية تحيط به من كل مكان.

الماضي بالنسبة له شيء ثقيل، قتل أحلامه حوّله إلى هذا الكائن الذي ستشمئز منه، بقايا الثقافة التي فيه تراها في سخرية غير مفهومة عن كل شيء، الحياة والدين والجنس لن تجد شيئًا إلا يسخر منه.

في اللحظة الأخيرة في الرواية؛ يكتشف أبطالها ماذا فعلت عدميتهم بهم، وكيف تحولوا من أشخاص حالمين متحمسين؛ لذلك الشيء المؤذي المميت. لحظة مرعبة في معناها بالنسبة لـ«أنيس»؛ وربما مرعبة بالنسبة لنا أيضًا.


الشحاذ: وفقدان الطريقة

رواية «الشحاذ» بها جوانب كثيرة. ربما لا يكفيها كتاب بضعف حجم الرواية لشرح ما بها من فلسفة، ودقة أدبية، وجوانب كثيرة. ولكن سنتناول جانب واحد منها.

رواية «الشحاذ» تمثل مرحلة ما بعد استقرار الحياة، وتحقيق ما يسمى بـ«النجاح» بالنسبة للمجتمع الذي تعيش فيه: أسرة سعيدة، زوجه تحبها، ابنة جميلة تحب الشعر، نجاح في العمل وتكوين أموال تضمن المستقبل. ولكن أين الطريق؟

البطل يشعر أنه لا يجد الطريق أو المعنى، يريد أن يلمسه ويتحسسه. برغم نجاته من مصير أبطال «الكرنك»، والذي تعرض له صديقه المناضل الثوري. كما أنه لم يدخل في مرحلة فقدان أي نجاح كما في «ثرثرة فوق النيل»، ولكنه في النهاية لايجد أن سعادته تكتمل، بل هي غير متواجدة أصلًا.

إنه يريد الطريق. ينظر للشعر بأسى ويخجل منه. يشعر في داخله أنه فقد نفسه، لم يعد نفسه الأصلية التي يراها في شبابه، يرى أنه جبن، وأنه لا يعرف أين الطريق، وأين يتلمسه؟ ما أهمية الحياة ولماذا نحن بها؟ ربما الحديث يطول عن الرواية، لكن كان يجب إلقاء لمحة ما عن هذا الجزء.


النموذج الدائم



رواية «الشحاذ» تروي عن شخص هزم هزيمة كاملة، وتحول لشخصٍ مشابه للمجتمع يشعر أنه فقد الطريق منذ زمن، ويريد أن يجده مرة أخرى.

ربما كانت هزيمة تلك التي تعرض لها «محفوظ» في أحلامه بالنسبة لتحقيق العدل مع انقلاب 52، ولكنها كانت مفيدة لنا نحن القراء وله أيضًا في معرفة ما هو طريق العدل؟

طريق العدل لا يجب أن يكون بلا حرية. فكما قال «نجيب» إذا كان هناك مجتمع عادل بلا حرية، فالقمع يلغي ما قبله. هذا على المستوي السياسي، وهذا أكبر مكتسب فكري لـ«نجيب محفوظ»، والذي استمر معه لنهاية رواياته.

وظلت مصر تعاني كما قال «نجيب محفوظ» في رواية «قشتمر». ظل «مقهي قشتمر» يشهد تغير مصر المعماري والسياسي، وتغير ملابس سكانها، وأشكالهم وأخلاقهم. ولكن في كل الأحوال ظلت «قشتمر» شاهدة على معاناة مصر. مصر التي تريد دائما تحقيق العدل والحرية!.