ليس من السهل إيجاد حد للأساطير أو تفسير شامل لها ولو في مجلد ضخم، فضلا عن أن نقوم بهذا في هذه العجالة. فتركيب هذه الظاهرة جعل مدخلا واحدا غير واف في استياعبها. فهناك من اهتم بوظائفها الاجتماعية، وهناك من اهتم بكونها طريقة قبل علمية لتفسير العالم، وهناك من ركز عليها من حيث هي حكاية سردية، فضلا عن الاهتمام الكبير بها من قبل علم النفس الفردي والجماعي وتشابهها مع الأحلام في رسمها حالات عصاب “فرويد” أو نماذج بدئية “يونج” إلى آخر هذه المداخل المتعددة، المتكاملة أيضا.

لذا فما سنحاوله هنا مع تعذر استيفاء كل هذه المداخل هو محاولة الاقتراب من الأسطورة بالشكل الذي يخدم موضوع هذا المقال، وهو فكرتي خلف الله عن وجود أساطير في القرآن وعن تأثر القصص بنفسية النبي محمد والذين ابتدأنا بنقاشهما في المقال السابق؛ وما يحتمه هذا من بحث لفكرة علاقة الأسطورة بالتاريخ، ووظيفة الأسطورة في الدين، والفهم النفسي لها، وعلاقة الأسطورة بالرمز، وتعامل الأديان التوحيدية مع الأسطورة.

***

الأسطورة والعلم.. رؤية جديدة:

وربما توفر لنا دراسات مرسيا إلياد مؤرخ الأديان الكبير للأسطورة مدخلا جيدا لموضوعنا، بسبب استفادته الجمة من عدد كبير من المداخل مثل علم نفس الأعماق وتاريخ الأديان في تحليل الأسطورة ورموزها من جهة، ومن جهة أخرى لتنبهه للفارق بين الأديان التوحيدية والأديان قبلها في التعامل مع الأسطورة، مما يجعله شديد المناسبة كمدخل لموضوعنا هنا.

“للعيش في العالم، يجب تأسيسه”(1)

هذه هي كلمة إلياد الشهيرة التي ربما تلخص كل نظرته نحو أهمية البعد الديني عند الإنسان حيث توقه إلي المقدس توق جذري غير قابل للإلغاء أو للاختزال، “لا يمكن تخيل الوعي البشري يعمل دون أن تكون لديه قناعة بوجود شيء (حقيقي) في العالم، ودون أن يضفي (معنى) على دوافعه و تجاربه”(2)، وكل توق إلى “الحقيقة” و”المعنى” هو توق إلى المقدس؛ وهذا ما يعنيه الدين.

وهذا التوق يدفع الإنسان المتدين لتأسيس العالم الذي نحياه وإعادة خلقه عن طريق كسر عادية أزمنته وأمكنته برفع بعضها فوق مرتبة العادي لتتقدس، وإضفاء المعاني على كل فعل بشري برده إلي أصل تم في زمن بدئي خارج الأزمنة الثلاثة. هذه الأفعال والأحداث التي تمت في زمن بدئي وارتبطت أو تفرعت عن حدث خلق للكون -وتأسيس العالم هو تكرار له- هي الأسطورة كما يعرفها إلياد.. فالأسطورة والدين صنوان، والدين حد إنساني لا يمكن تجاوزه، فحتى أكثر العوالم تجردا من القداسة لم تخل من تأسيس ديني وفقا لإلياد..



لا يمكن تخيل الوعي البشري يعمل دون أن تكون لديه قناعة بوجود شيء حقيقي في العالم، ودون أن يضفي معنى على دوافعه و تجاربه

وإذا قارنا نظرة إلياد هذه بالتعريف الذي أورده عجينة في محاولته إيجاد تعريف شامل للأسطورة في كتابه “موسوعة أساطير العرب.. عن الجاهلية ودلالتها” حيث أورد تعريف الفرنسي بول ريكور من دائرة المعارف: “الأسطورة حكاية تقليدية تروي وقائع حدثت في بداية الزمان وتهدف إلي تأسيس أعمال البشر الطقوسية حاضرا، وبصفة عامة إلى تأسيس جميع أشكال الفعل والفكر التي بواسطتها يحدد الإنسان موقعه من العالم. فالأسطورة تثبت الأعمال الطقوسية ذات الدلالة و تخبرنا عندما يتلاشى بعدها التفسيري بما لها من مغزى استكشافي، وتتجلى من خلال وظيفتها الرمزية، أي في مالها من قدرة على الكشف عن صلة الإنسان بمقدساته”(3).

سنلاحظ كون تعريف ريكور كتعريف ألياد يشي بأن الأسطورة لم يعد ينظر لها كتفسير للعالم، بل كتأسيس له، وهو ما يعني أن تطور العلم لا يعني بحال انهيار الأسطورة، حيث لا يتنافسان بالأساس، وحيث لا يحل العلم معضلة الهدف والمعنى والحقيقي.

والتدين عنده وليد أزمات وجودية قاسية وضعت وجود الإنسان والعالم موضع سؤال، ولا تزال محصلتها قائمة في اللاشعور – فضلا عن أن هذه الأزمات تتكرر وتكرر معها محصلتها. والتدين لا يقدم فقط حلا لهذه الأزمات بل يفتح طريق الأمل أمام الإنسان لصنع قيم ليست ممكنة بعد، مجيزة للإنسان تجاوز أوضاعه الخاصة، في آخر المطاف الوصول إلى عالم الروح(4).

والرمز الديني وفقا لإلياد هو رمز خاص حيث يتعلق بمعاني القداسة والقابلية للتكرار والاستعادة الدورية، ومزية الثبات المعطاة عنده للرمز الديني تجعله أشبه بالتوصل لـ”نماذج مثالية سائدة”، تصلح للتطبيق على كل الثقافات(5).

وكما يركز إلياد على قابلية الرمز الديني للتكرار وقابلية الأسطورة للتحيين -استعادة مشاركة الإنسان الآلهة في خلق الكون حيث أساطير النشأة قبل التوحيدية هي كونية، أو استعادة لحظات خلق الإنسان والعهد مع الله في التوحيدية، كخلق آدم والنزول من الجنة وابتلاء إبراهيم- يركز السواح على ما تتعرض له الأسطورة من فقد لهذه السمات -الحركة والاستعادة الحية- حين تتحول لعقيدة جامدة. هذا التحويل الذي صارت به الأساطير إلى حالة ثابتة تؤتمن عليها مؤسسة دينية تعمل على صيانتها من التفسير المنفتح، فتتحول لقناعات ذهنية سطحية تتنزل من أعلى -تقرأ حرفيا أو تؤوّل مجازيا لكنها لا تحين ولا تقرأ رمزيا- وإلى جملة طقوس فقدت فحواها ودورها ومعناها -مع الوقت تصبح إطار لضبط المجتمع- مما يجعل الأفراد يحاولون صنع أساطيرهم و إحياءها إغناء لبعد روحي مفقود على أطراف المؤسسة الأمينة على الدين(6).

وهذا التجميد للأسطورة الحية المتحركة التي هي تجربة اتصال مع المقدس هو أول طريق التخلص من الأسطورة. فبعد تفريغها من هذه السمات تصبح محض تخييل، مما يسهل نفيها انطلاقا من كونها غير حقيقية تاريخيا أو عقليا أو عقديا، وهذا تم بالفعل مع ثلاث لحظات مفصلية كبرى في تاريخ البشرية هي ظهور الفلسفة اليونانية، وكذلك نشأة الأديان التوحيدية، ثم ظهور الحداثة.



التدين عنده وليد أزمات وجودية قاسية وضعت وجود الإنسان والعالم موضع سؤال، ولا تزال محصلتها قائمة في اللاشعور – فضلا عن أن هذه الأزمات تتكرر وتكرر معها محصلتها

فهذه اللحظات الثلاث حاولت بناء ذاتها بالأساس على التخلص من الأسطورة، هذا رغم تأسيس نفسها أسطوريا!

فالفلسفة اليونانية التي نشأت وفقا لفرنان على أنقاض الكهنوت المسيني، وظلت الأسطورة حاضرة في تأسيس أعتى وأعمق وأكمل لحظات تبلورها مع أفلاطون في محاورة تيماوس الشهيرة؛ فإنها ورغم هذا ما فتئت تدين الأسطورة وتنفي الميثوس باسم اللوغوس والتاريخ.

كذلك الأديان التوحيدية، التي ربما صلتها بالأسطورة أكثر وضوحا؛ حيث الدين أكثر اعتمادا على الرموز التي تصلح كموضع عيني لموضوع الإيمان “الهم الأقصى”، فضلا عن سردية بنيته في مقابل تجريدية الفلسفة؛ إلا أن الأديان التوحيدية حاكمت الأسطورة، بشكل واضح مع المسيحية والإسلام، هذه المرة من فوق أرضية الكلمة المقدسة التي تملك قوة نفي نهائية لكل ما هو خارج سرديتها، لذا تم تحكيم “الكلمة” في أمر صحة أساطير ما ونفي أخرى، فانقسم العالم الأسطوري معها إلى حقائق وأساطير، والأساطير أساطير الآخرين فقط كما يقال؛ هذا طبعا بعد تجميد الأساطير المقبولة وتحويلها لعقائد ثابتة مما أفقد رموزها قدرتها الاسكشافية المحركة لعلاقة الاتصال وقابليتها للإلغاء المستمر تجاه موضوع الهم الأقصى غير القابل للأقنمة(7).

أما مع الحداثة، ورغم اعتماد قطبيها ديكارت وبيكون على الأساطير في تمرير قيم الحداثة، حيث اعتمد ديكارت في تصويره معيار البداهة المميز لليقين من الضلال والخطأ على صراع الله والشيطان، كما اعتمد بيكون على أساطير يونانية كثيرة منها أسطورة “بان” وأعاد تفسيرها بحيث يخلصها من حمولتها القروسطية ويشحنها بقيم العودة للطبيعة، فضلا عن إعادة تفسيره قصة جنة عدن واعتبار السقوط هو الحرمان من زمن التواصل البسيط مع الطبيعة – رغم هذا كله، فقد كان تنامي العلم نجيب الحداثة، والمؤسس على فكر ديكارت وبيكون، سببا في بلورة نظريات حول الأسطورة تراها طريقة تفسير عفا عليها الزمن أشهرها نظرية كونت في مراحل تطور البشرية الثلاثة.

وهي النظرة التي ذكرنا في بداية حديثنا أنها بحصرها وظيفة الأسطورة في تفسير الكون، تتجاهل أهم ما في الأسطورة من سمات الحركية، والقابلية للتحين، وتأسيس العالم، واستكشاف عالم الإيمان.

***

حصار الأسطورة في خطاب النهضة:



التدين لا يقدم فقط حلا لهذه الأزمات بل يفتح طريق الأمل أمام الإنسان لصنع قيم ليست ممكنة بعد، مجيزة للإنسان تجاوز أوضاعه الخاصة

وإذا كانت هذه اللحظات الثلاثة ضربت حصارها على الأسطورة تباعا، فإننا لا نعدم تأثيرها مجتمعة على مقاربة خطاب النهضة للقرآن. ونستطيع تبين هذا مع رائد مدرسة المنار، حيث في لحظة واحدة اجتمعت الرؤية الاعتزالية التي تنفي الأسطورة باسم العقل، كذلك الرؤية الرشدية كبيرة الإخلاص للمعقولية اليونانية والتي تؤوّل القرآن إذا خالف العقل، بالإضافة لمحاولة التوفيق بين الدين والعلم الحديث وما تتطلبه من نفي للأسطورة باسم التجربة العلمية. لذا فرغم فكرة خلف الله وريث المنار عن أسطورية جانب من القصص القرآني إلا إنه لم يستطع بسبب هذا الحصار للأسطورة أن يكتشف ما يمكن أن تقدمه هذه الأسطورية -لو نظر إليها دون هذه الإدانات للأسطورة- من قدرة على إبراز الجانب الروحاني المتوتر في القرآن، والمرور عبره لتجربة النبي محمد، الذي أراد خلف الله كشف بعضا من جوانب نفسيته عبر القصص.

في تناوله للقص القرآني قسم خلف الله هذا القصص لقصص تمثيليي، وقصص تاريخي، وقصص أسطوري. وكما قلنا في المقال السابق فإن القصص التمثيلي لا يهمنا كثيرا، حيث لم يأت فيه خلف الله بجديد، وحيث الإقرار بوجود قصص تمثيلي في القرآن أمر لا يعرف كبير خلاف. أما المهم لموضوعنا فهو القصص الأسطوري، و خلف الله يفرق بين القصص الأسطوري والقصص التاريخي على أساس أن الأخير يدور حول أشخاص تاريخيين. بالطبع خلف الله لا يعتبر الأحداث المحكية قرآنيا عن الرسل صحيحة تاريخيا، بل كما قلنا يرى فيها تأثرا بنفسية النبي محمد أثناء دعوته؛ لذلك فإنه يبدو من الغريب أن يفرق خلف الله بين هذه القصص والقصص الأسطورية على أساس الصحة التاريخية، حيث في النهاية المحكيات غير ثابتة تاريخيا في النوعين.

وظننا أن هذا التفريق لم يفعل سوى أنه أضعف فعالية فكرة خلف الله عن علاقة القصص بنفسية النبي. أضعف فعاليتها بحركة مزدوجة نشأت من هذا التقسيم لأسطوري وتاريخي، فمن جهة تم إبعاد صفة الأسطورية عن قصص الأنبياء نفسها، رغم أن هذا غير لازم حتى مع إقرار وجود نواة تاريخية لهذا القصص، فالأسطورة لا تعني الاختلاق الكامل بالضرورة وحيث أهمية الأسطورة ووظائفها لا تستلزم أحقية المضمون التاريخي لها كما ذكرنا سالفا؛ ومن جهة أخرى تم حصر تشابه هذا القصص مع قصة النبي محمد في قضايا الصراع مع قومه وشعوره بهذه المشاعر النفس-خارجية مثل الألم والأمل.

ولا نستطيع أن نجزم أيهما أثر في الآخر، فهل حصر الإطار النفسي للنبي في الألم والأمل وطلب الاطمئنان والمواساة هو الذي جعل خلف الله يقصر فكرته عن “التأثير أو المراعاة” على القصص التاريخي الخاص بالأنبياء مع نفي أسطوريتها؛ أم أن سيطرة فكرة كون الأسطورة ما ليس إلا اختلاق عار من الصحة التاريخية وعدم التنبه لوظائفها الرمزية هو الذي جعل خلف الله يقصر اهتمامه على تلك المشاعر القليلة التي وفرتها له بالطبع قصص نوح وهود التي تحكي صراعا خارجيا وتسكت عن صراع داخلي أكبر؟

نميل للقول أن لا تأثر ولا تأثير هنا، وإنما هما كما قلنا حركة مزدوجة نشأت من تموضع فكرة خلف الله عن القصص ونفسية النبي داخل إطار الاتصال كوحي أو تنزيل عمودي. فهذه الفكرة، أي الوحي العمودي، مرتبطة من جهة بتقنية المجاز الذي يوصل الحقيقة قدر الاستطاعة للأفهام، “والخيال إنما يسود هذا القصص لحاجة البشر إليه وجريهم في بلاغتهم عليه، والله سبحانه وتعالى إنما يحدثهم من هذا بما يعتادون”(8). فالمجاز مرتبط بإرادة المتكلم في التقريب -أي أن القرب ليس أصليا- للمخاطب عن طريق ضرب الأمثلة، ومن جهة أخرى، ولأن هذا الإطار للإتصال كوحي عمودي يجعل طريق الاتصال ممهد عبر “زيارات جبريل”(9) بلا مشاعر جذرية كالقلق والشك -والمقصود الشك الأصلي الذي لا يسكن بنزول الوحي- فإنه ينفي أو يتجاهل المشاعر النفس-داخلية، فلا يجد ما يهتم به سوى تلك المشاعر الواضحة فوق مسرح الأحداث الواقعي فحسب الناتجة عن صراع النبي مع قومه.

وفي كلمة واحدة، هذه الرؤية لخلف الله تجاه القصص كانت تنفي الأسطورة من حيث هي قصة تحيين ورمز يتجلى، ومن حيث هي تعبير عن دراما مسرح ما قبل تموضع القرآن بشريا التي تكشفها.

لهذا فحتى القصص المفترض أنها تعبر عن تجربة الاتصال ذاتها وعن المشاعر النفس-داخلية، استحالت مع خلف الله لقصص تحكي مشاعر خارجية أيضا. فمثلا قصة ذهاب يونس في البحر ظنا أن لن يقدر الله عليه، التي تحكي عن عمق تجربة الاتصال ذاتها وتكشفها؛ هذه القصة اعتبرها خلف الله تعبيرا عن مشاعر ضيق النبي بالرسالة جراء الدعوة أيضا، وغاب ما تحكيه من مشاعر مرتبطة بتجربة الاتصال نفسها لا نعدم وجودها في تجارب الإتصال الكبرى فيما يسميه تيليش الهرب من الله..

والخروج من إطار النفس-الخارجية للنبي نحو النفس-الداخلية، تماما كالخروج من التشبيه الذي يقتل أبعاد القصة الأسطورية حين يحولها لتمثيل غرضه تكريس عقيدة ما، نحو الأسطورة والرمز الأكثر قدرة على التعبير عن عمق تجربة الاتصال التي تعتمل داخل نفس النبي. فكلاهما يتطلب إطارا آخر ينتظم داخله لوصف الاتصال مع الله بصورة تجربة حية تتجاوز إطار الاتصال كوحي عمودي.

***

الأسطورة كرمزية للنبوة:



تطور العلم لا يعني بحال انهيار الأسطورة، حيث لا يتنافسان بالأساس، وحيث لا يحل العلم معضلة الهدف والمعنى والحقيقي



هذه الرؤية لخلف الله تجاه القصص كانت تنفي الأسطورة من حيث هي قصة تحيين ورمز يتجلى، ومن حيث هي تعبير عن دراما مسرح ما قبل تموضع القرآن بشريا التي تكشفها

وهذه الصلة بين النفس-الداخلية والأسطورة وتجارب الاتصال ليست جديدة، فعلم النفس بانفتاحه على عالم الأعماق شديد الارتباط بعالم الأسطورة وبالدين. فمنذ فرويد، تمّ الاهتمام بالأساطير والرموز التي تتضمنها وعلاقتها بالأحلام، واللاوعي، وعلاقة كل هذا بالدين. وإذا كان فرويد قد تعرض لهذا كله من حيث هو دلائل مرض وعصاب جماعي أو فردي، فإن الأمر شهد توسعا كبيرا بعد هذا، فمع يونج لم يعد ينظر للاوعي كمحض مخزن للعقد المكبوتة والنوازع المرضية، ولا للدين كجنون؛ فضلا عن توسيع معنى الجنون نفسه مع فروم حيث أصبح قدرا مرتبطا بوضعنا الوجودي ينقذنا منه جنون آخر هو الدين.

هذا التعامل المختلف مع اللاوعي ومع الدين نشأت عنه قراءة أخرى للأساطير؛ فتوصل يونج بتحليلها وبتحليل رموزها المتجلية في الأحلام أن ثمة نماذج بدئية جامعة لكل البشر تتجلى في أساطيرهم وفي أحلامهم -يذكرنا هذا بإلياد المتأثر كثيرا بيونج-.

فصّل في الأمر فروم حيث اعتبر أن وجود نماذج بدئية لا يمنع من كون كل ثقافة قد تحتوي على نسق خاص من الرموز، فضلا عن تشكيلات فردية لها. وتحولت الأحلام والأساطير بهذا للغة منسية كما هو عنوان كتاب فروم. وأصبحت تخييلات تعبر عن استحالة مواجهة المستحيل كما يقول فتحي بن سلامة.

هذه اللغة الرمزية تختلف عن اللغة العادية، حيث ” الرمز كما يرى البعض شديد الثبات، ولا يشبه دوال اللغة في اعتباطيتها، هذا ما يعطيه كونيته أو ثباته داخل ثقافة ما”.

نستطيع القول أن ثباتها يجعل لهذه اللغة شبه معجم، وظيفته: التعبير عن ما لا تستطيع التشبيهات الوفاء به. ليس فقط لثبات الرموز بل لكونها تقوم بوظيفة حركة وكشف، وتناسب التعبير عن الدراما النفسية أكثر من المجاز الأكثر عقلانية مما يجعلها مناسبة للحقائق الثابتة؛ فضلا عن الفارق الرئيس والأساسي بين المجاز والرمز: وهو أن الرمز يرتبط دوما بمنزع إنساني حدي، ولا يوجد ربما أكثر حدية من تجلي المقدس.



وهذه الصلة بين النفس-الداخلية والأسطورة وتجارب الاتصال ليست جديدة، فعلم النفس بانفتاحه على عالم الأعماق شديد الارتباط بعالم الأسطورة وبالدين

وإذا كان عجينة يعتبر أن قصص الأنبياء، أو ما يصنفها خلف الله كقصص تاريخي، هي قصص أسطورية بحق، حيث الزمن البدئي غير الملوث، وحيث الدعوة إلى التوحيد، وتدخل الله في الكون ودحر الكافرين؛ فإننا نستطيع التساؤل: ألا يمكن أن تكون هذه القصص الأسطورية قد مثلت رموزا تستطيع وحدها التعبير عن تلك المواجد التي يعانيها شخص يتصل بالله، أي أن هذا القصص الأسطوري وما يتضمنه من رموز مثّل البيئة لتعبير النبي محمد عن ما يمر به في اتصاله بالله و كان كاشفا لهذا الاتصال في نفس الوقت؟

من هنا فحسب يمكن استخدام هذا القصص للبحث عن نفسية النبي؛ فنستطيع من خلال توسيع البحث في القصص وعدم حصر الاهتمام بتلك الخاصة، بسير الدعوة أفقيا كما فعل خلف الله، وإنما في تلك التي تحكي تجربة الاتصال ذاتها، أن نتوصل لفهم أعمق للدراما التي يحياها ضمير النبي في اتصاله بالله. تصبح نفسية النبي هنا شيئا أوسع كثيرا من مشاعر الألم والخوف والضيق، محور اهتمام خلف الله، لتشمل الشك الدائم والجذري، الرغبة في الله والرهبة منه، تصدع النفس بهزة اللقاء والتجلي، الخوف والغبطة، وكل هذه المواجد التي يستشعرها ويحياها كل متصل بالله.

فلا يمكن لفكرة خلف الله أن تثمر إلا فوق تربة إطار آخر للعلاقة مع الله، وفي ضوء فهم آخر للأسطورة. حينها فقط تساعدنا الفكرة على الانتقال من التفكير في القرآن للتفكير في النبوة ذاتها، وتنقلنا من الاهتمام بتأمل حروف القرآن -أو معانيه- نتاج الصلة بالله، إلى الاهتمام بالصلة ذاتها.


المراجع



  1. (1) مرسيا إلياد، المقدس و العادي، ترجمة عادل العوا، دار التنوير، ص60.
  2. (2) مرسيا إلياد، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة سعيد المولى، المنظمة العربية للترجمة، ص39.
  3. (3) محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالتها، ص72.
  4. (4) مرسيا إلياد، مرجع سبق ذكره، ص235.
  5. (5) بسام الجمل، من الرمز إلي الرمز الديني، ص125.
  6. (6) فراس السواح، دين الإنسان، راجع الفصل الأول المعنون “المكونات الأساسية للدين”.
  7. (7) بول تيليش، بواعث الإيمان، ترجمة سعيد الغانمي، منشورات الجمل.
  8. (8) محمد أحمد خلف الله، الفن القصصي في القرآن، سينا-الاتشار، ص98.
  9. (9) المصطلح ليوسف الصديق في كتابه: هل قرأنا القرآن، دار التنوير.